أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة السادسة عشرة















المزيد.....



العجوز الحلقة السادسة عشرة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4611 - 2014 / 10 / 22 - 14:23
المحور: الادب والفن
    



نهار.
غواص الجميل، هذا الشيخ بلحيته البيضاء، التقط بعض الأعواد الجافة، واقترب من المجرى الجاف لنهر الشهوة. جلس على حافته، ووضع قربة الماء التي لا تفارقه. جعل من الأعواد الجافة كومًا، وحك عود ثقاب ما لبث أن انطفأ. حك آخر، فدقت النار. فرك يديه فوق اللهب، وأطلق نفسًا مديدًا.
- النهار بارد! قالت العجوز التي انتصبت على حين غِرة أمامه.
رفع حاجبه، وهو يظن سماعه صوت جميلة، ثم جمد، دون أن تند عنه أدنى حركة. خفض حاجبه بهدوء، و، كمن لا يتوجه إلى أحد:
- ومع ذلك، هناك أعواد ونار، يا أهل النار!
لها، كان دومًا غواصًا، الطفل الجميل في ما مضى:
- لم أرك منذ مدة طويلة، يا غواص! هل كنت تسعى في سهول البؤس والعظمة، في البستان، كما يطيب للجميع تسمية إقطاعة الحاكم؟
أشار غواص برأسه إلى قمم الجبال، ثم صَوَّبَ إصبعه:
- كنت هناك، على جبل قاف، فحكى لي عن كل هذه الجبال التي حوله، واحدًا واحدًا، حكى لي حكايتي.
- منذ متى تتكلم الحجارة؟
- منذ كانت الحجارة. تتكلم، تنظر، تتنفس، وليست المرة الأولى التي يقول الجبل لي.
- كن جليًا! قالت العجوز، وهي تتوجس ريبة، قل لي كل ما يقعد على قلبك!
- كل ما يقعد على قلبي؟ كل شيء، كل شيء حقًا؟
- قل لي كل ما يقلقك! لقد شخنا كثيرًا، أنا وأنت، خاصةً أنا. كنت تحبني، يا غواص، أليس كذلك؟ كنت تحبني؟
- حاولت الانتحار لأجلك.
- آه! يا غواصي المسكين!
- لم يشأ نهر الشهوة تحقيق شهوة ظننتها الأخيرة. وجدت نفسي في جوف الماء، ودفعني الماء إلى الحياة. أخذتني الأمواج بأمومة غريبة، وشوشتني قائلةً إن عليّ واجب العيش لأجلك. روحك المعذبة، بعد ما جرى لك في تلك الليلة، كانت في حاجة إليّ. وكانت هناك أيضًا زينب. كانت أمي تقول لي: "اعتن بزينب، ابق إلى جانبها، تتألم المسكينة!" لكني أنا، كنت أريد البقاء إلى جانبك، النظر إليك، البكاء عليك. وبكيت حتى لم تبق لي دمعة واحدة أذرفها. أنا، ابن الماء، كنت قادرًا على سكب دموع العالم بأجمعه للمرأة التي أحبها. كنت تشعرين بذلك. كنت تشدينني إلى صدرك، وتقولين لي: "لا تبك، يا صغيري غواص، ستذلل جميلة كل هذا يومًا!" كنت أشد بصدري إلى صدرك، وأداوم على البكاء. كنت تحبينني كابن، وأنا، كنت أحبك كملعون. لم يكن باستطاعتي سوى إدانتي، قمع كل عاطفة. لم يكن باستطاعتي سوى البكاء، سكب دموعي. ثم، في أحد الأيام، كشفت زينب عن حبها لي. كانت تشبهك قليلاً، ابنتك، كانت لحمك، الأغلى على قلبك، وكل غالٍ لك كان غاليًا لي. كنت أحب زينب، ولكن ليس بالقدر الذي كنت أحبك فيه، أنتِ. ليس كما كنت أحبك. كم من مرة حلمت بك عارية بين ذراعيّ في قعر الماء! مع زينب، لم أكن أقول الوداع لطفولتي، كنت أستقبلها. قبل، كنا نلعب، عندما كنا صغارًا، وداومنا على اللعب، دون أن نعلم، ألعابنا الأخيرة. تحت شجرة التوت، على الأرجوحة، مع الفراشات. كنا نضحك، وكنا نصعد حتى الأعشاش، وعندما نكون فوق، كنا نتحدث مع صغار العصافير، وكنا نضحك. ثم، فجأة، لم نعد نضحك. عنادك في رفض الحاكم دفعه إلى اللجوء إلى وسائل أخرى للاحتفاظ بأراضينا، فقرر بناء سور من الحجر حول المقاطعة للحيلولة دون كل هجوم من الخارج، ووكل إلينا صغارًا وكبارًا هذه المهمة الصعبة. ماتت أمي تحت صخرة سحقتها، وغدا حبي لك بالغًا في أقسى الآلام.
كان من اللازم عليّ أن أهرب منك، وبما أن نهر الشهوة قد تم تحويله تمامًا كان من اللازم عليّ أن أبحث عن منابع أخرى ، عن أنهار أخرى. كان السور يعلو، يطول، أكثر فأكثر. كان يخنقني، ذلك السور، الذي أبنية على الرغم من ذلك بيديّ، الذي نبنيه بأيدينا. لم أعد أتنفس. تلاشى حلمي، وأنا أعوم معك، وأضمك، وأنت عارية بين ذراعيّ. كنت بحاجة إلى امرأة وفضاء، امرأة تحبني، تحبني بالفعل، وفضاء شاسع، ألعب فيه كل ألعاب الكبار بكل حرية. الجبال، وما وراء الجبال، حتى النهر الكبير. كان هذا فضائي، حريتي. كان البرابرة قد هجروا الجبال ليغلقوا الأبواب على أنفسهم وراء سور كبير بكبر سور الصين، ليختنقوا. أما أنا، فرغبتي كانت أخرى. على عكسهم، على عكسكم، المحكوم عليكم بالانغلاق مع أولئك البرابرة، كنت أتمنى ترك كل شيء من ورائي وتسلق هذه الجبال الفتانة، تسلق حريتي. هكذا سأتحرر منك، وأتخلص من كل التزام نحوكم. كنتم على خوف دائم من ذلك المرض الغريب القادم من وراء الجبال، أنا لا. لم يكن هناك أخطر من احتلال الزنابق التي لا لون لها ولا رائحة. سأكسر أعناقها قبل اكتمال السور، وسأغادر. وهذا ما حصل، في ليلة دون قمر ولا نجوم.
وبينما كنت أصعد على جبل قاف، كانت عيون تلمع، وهي تترصدني. كانت بعض ذئاب لم تترك أوكارها بعد نزول البرابرة في الوادي. هذا ما أوضحته لي ياسمين، غداة وصولي إلى القمة. كبيرة كانت دهشتي، لا لأن تلك الذئاب فضلت عدم الذهاب إلى الغرب، ولكن لوجود تلك القبيلة التي تنتمي إليها ياسمين، والتي تعيش في أكواخ قرب السماء. كان أفراد تلك القبيلة دومًا ها هنا مذ كان قاف. لم يكن يخيفهم وجود البرابرة ولا أي وجود آخر، حتى أن ياسمين أرتني ذئابًا أليفة، وقدمت لي برابرة تبنوا طريقتهم في العيش. ربوا الغنم، البقر، أو الدجاج، لا لأكلها، وإنما لاقتيات ما تنتج، وزرعوا بين الحجارة كل ما يحتاج لذيذ الحساء. لم أقع في غرام ياسمين، تلك الشقراء ذات الأديم الأبيض والعينين البيزنطيتين، كنت مكبلاً بحبك دومًا، ثم، هدفي، كان النهر الكبير. وعلى العكس، فوق، بمخالطة أولئك الناس، فهمت ما يعني ذئب مدجن. كإنسان قبيلتنا، كالإنسان أيًا كان، قال لي أبو ياسمين. على الإنسان ألا يكون شخصًا آخر وأن يكون نفسه. للانتصار على البربرية في الإنسان، على الإنسان أن يمحي أمام الإنسان وذلك بأن يصبح نفسه. الذئب ليس ذئبًا هنا، لكنه دومًا ما يمتلك تلك العينين اللامعتين في الظلام. الذئاب هنا كالبشر آلهة. لنكون بشرًا وآلهة يجب معرفة العيش مع الذئاب الآلهة، التي بدورها لا تسعى إلى الاعتداء على الإنسان، ولكن العيش معه بسلام، فتقترب السماء من أيدينا. في حين أن السماء تبتعد عن أيدي الذين يجدون أنفسهم في أعلى قمة في العالم إذا ما لم يوفقوا إلى الامحاء بتواضع أمام كل المخلوقات، إذا ما لم يوفقوا إلى المساهمة، بشكل شخصي، في إعداد هذا العمل الهائل الذي هو الحياة، إذا لم يوفقوا إلى تغيير لون الأقحوان من أحمر إلى أزرق ولون القمر من أسود إلى فستقيّ.
وأنا أنظر إلى وجهي في مرآة نبع صغير عند قدم صخرة، قلت لياسمين إنني لا أراني قادرًا على الامحاء. جعلني حبي لجميلة أنانيًا جدًا، أرضيًا جدًا. كنت أريد الذهاب وبسرعة، بأقصى سرعة، إلى النهر الكبير، بحثًا عن نفسي. كان من اللازم عليّ أن أجد نفسي في وثاق مع حب كبير آخر غير حبك، كي أجد نفسي وأحقق معجزتي. في الغد، رافقتني ياسمين حتى كوخ إحدى الصديقات الواقع عند منتصف الطريق بين قاف والنهر الكبير. كان اسم هذه الصديقة زمردة، وقبل أن تعود ياسمين على أعقابها، قالت لي إن هذه الصديقة ستصطحبك حتى النهر الكبير. عندما رأيت زمردة وكأني رأيت جميلة. صعقة الحب! هل نسيتك؟ لا، لم أنسك. وجدتك في جسد آخر. وذلك الحلم الذي أعوم فيه معك وأنت عارية، أحققه في الأخير. كنا نعوم كل يوم، وكنا كل يوم نحب بعضنا أكثر. لم يكن بمقدوري الامحاء، وكوني نفسي أقل. امحوت فيها، نعم، ولم تنمُ شخصيتي بكل "كرمها" إلا لأرضي زمردة، حبيبتي. لم نكن ننشغل إلا بنا، وغدا العالم عالمنا. غدت كل أوجاعي الماضية ليس غير ذكرى رديئة، حتى أنني لم أعد أذكر ذكرياتي. قبلة من زمردة كانت تكفيني طوال النهار، لمسة من يدها كانت تقذفني في المستقبل. دومًا ما كنت أفكر في الغد عندما تكون في أحضاني، فيما سأفعله معها، فيما سنفعله. كان الناس ينظرون إلينا باستغراب، كانت لهم نظرة ذئب وحشيّ جائع شهوةً إلى الآخرين. كانوا ينتقدوننا، ويريدوننا أن نتزوج. وقعت زمردة حبلى دون زواج، فنكّد الناس حياتنا ملحين على الزواج. كنا دوامنا على العيش هكذا، وفقًا لقوانيننا الخاصة بنا، وكنا أسعد السعداء في العالم. مع الأسف، ليس على الدوام! زمردة، المرأة التي كنت أحبها الأكثر في العالم، ماتت أثناء الولادة، تاركةً لي صبيًا جميلاً أسميته "منتصر"، وقبل رجوعي إلى دارنا عهدت به إلى ياسمين، منذ ثلاثين عامًا، أربعين عامًا.
- لك ابن، يا غواص! صاحت العجوز فرحًا، لك ابن!
- لا تعجبي! أما أنتم، فلدوا للموت، وابنوا للخراب!
- استطعت أن تصنع ابنًا؟ لك ابن اسمه منتصر!...
- تمنيت أن يهزم الأعداء، أن يعطيني تلك القوة على أن أكون متواضعًا، وأن أكون نفسي، هكذا لن تكون حياتي ظلاً يمضي، هذا ما تمنيت. لأن ابني، كما هو عليه في الوقت الحاضر، غير ما تمنيت أن يكون، قال غواص بنبرة رصينة.
بعد لحظة، أطلق ضحكة طفولية.
- لكن رغباتي ستتحقق قريبًا، قال. لابني هو أيضًا ابن، اسمه محارب، إنه مع حفيدك باسل، باسلك، في معسكر للمقاومين، قرب النهر الكبير.
- تريد القول إنه لم ينضم إلى تلك القبيلة الغريبة؟
- لا، ليس تمامًا.
- لماذا؟
- لأن هناك نوعين من الآلهة: المحاربون والمسالمون. سيبقى الأمر على ما هو عليه إلى أن يقرر الإنسان وضعَ حدٍ لعذاباته.
- أنت، أيها الأعرج، من أنت حتى تحكم على البشر والآلهة هكذا؟ قبل، كان حبك لي يملي عليك سلوكك، ولكن اليوم، بلا حب، بلا قوة، بلا جمال...
- أنا، الأعرج، لا أحكم عليهم، أنا لا أعمل سوى رد رغباتهم.
- يا لغواص المسكين، يا للمتشرد المسكين، يا للشيخ المتشرد المسكين!
- لا ترثي لي!
- أنا أرثي لشيخوختك.
ولم تلبث أن عدلت عما قالت:
- لنقل بالأحرى أنا أرثي لشبابك، يا غواصي الشيخ الصغير المسكين!
- لا ترثي لي!
- وتقول هذا بجد، أنت من لم يكن حليفه السعد، لا مع جميلة، ولا مع زمردة، ولا مع ياسمين! لماذا رجعت إذن لتكون منذ أربعين عامًا منحصرًا هنا؟
- لأفقه ما علمني إياه أبو ياسمين، وأكون قادرًا على اعتبار الذئاب كآلهة.
- خلال كل هذه الأعوام؟ أنفقت من الوقت الكثير!
- ولأني أردت أن أتعلم أيضًا ما يقوله لي نهر الشهوة وقد غدا جافًا.
- وماذا قال لك؟ لم يقل لك شيئًا غير العدم.
نفخ غواص الشيخ واقترب منها أقرب ما يقدر عليه، وبصوت مفكر:
- تعلمت أن الذئب غير المدجن يبقى ذئبًا غير مدجن دومًا، إلا إذا ما لم يتبدل، ويصبح إنسانًا، وأن نهرًا محولاً يبقى إلى الأبد محولاً إلا إذا ما لم يتبدل، ويصبح بحرًا.
- كل البشر، كل بحار العالم، في الوضع الراهن للأشياء، لن تستطيع تحويل شيء، يا غواصي الشيخ الصغير المسكين!
- القوة التي استطاعت تحويل الإنسان والنهر تستطيع أن تعيد إلى الإنسان إنسانيته وإلى النهر أبهته في مجراه الأصلي، قرب قلوبنا!
- قرب أحلامنا، تريد القول.
- قرب قلوبنا، قرب شهواتنا ورغباتنا التي تتحقق في الأخير. لهذا صعدت على جبل قاف، كنت أنتظر أن يكون منتصر قد تزوج، أن يكون له أولاد، أن يكون قد فهم مثلي كلام أبي ياسمين. لأن السماء لنا، نحن سكان الوادي، ليست دومًا قربنا. نقيسها بغير ما هي عليه، حتى ولو كانت قربنا. عبرت إذن سور الشيطان، سورنا المحيط بنا، والمحيط بنفسه، من ثقب قضيت شهورًا في حفره. تغلبت على هشاشتي هشاشة شيخ أعرج، وتسلقت الجبل، وكم كان عاليًا لشيخ عجوز! استقبلتني ياسمين، والدموع في عينيها. آه! كم شاخت، تلك الفتاة الحلوة، فتاة البارحة! لابني، منتصر، شعر أبيض قبل الأوان، وهو يشبه أمه. وبشكل غريب يحن إلى هنا، يحن إلى كل ما يتعلق بالمقاطعة وماضيها وأقحوانها، على الرغم من أنه لا يعرف من كل هذا غير ما حكت له ياسمين. خاطر بفصله من القبيلة، بسبب تلك العاطفة، فلنقل "وطنية". فوق، لا نشعر بعاطفة أخرى غير عاطفة الأقحوان. بيزنطي، عربي، أو غوليّ، الإنسان بكل بساطة. الواحد والآخر يعرف نفسه من عمله في خدمة القبيلة برمتها. يعيش مستقبل الإنسان أحوالاً قبل أن ندخل فيها. هو في سلام مع نفسه ومع حيواناته، وحيواناته في سلام ما بينها ومعه. إلهٌ هو وكلُّ واحدٍ إله. طلبت مني ياسمين أن أبقى، فالحياة لم تكن سهلة معي. لم يكن من الفرق شيء كثير بين عمري وعمر زمردة، ومع ذلك... أترين؟ لمنتصر، أنا جِدُّ عجوزٍ في الوقت الحاضر. وكياسمين، أراد أن أبقى. وهو يراني قربه، تبدد حنينه. كأن كل المقاطعة تسلقت الجبل معي. لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئًا لمقهى الأقحوان، فمستقبل المقهى الغالي والأقحوان المعبود من شأن حفيدي محارب.
- وحفيدي باسل.
- وحفيدك باسل، وكل الأولاد غير الشرعيين الذين هم هناك، قرب النهر الكبير. هذه المرة، ياسمين كانت على اتفاق معي: ليعلو الإنسان حتى أعالي القمم، عليه أولاً أن يصفي حساباته مع نفسه، أن يمحو أخطاءه، أخطاء الماضي، بالطريقة نفسها التي ارتكبها فيها. يعني بالحديد والنار. هذا ما قالته لي، القديسة ياسمين. هل تسمعين؟ بالنار والحديد. كيلا يهيمن شيء آخر غير نار العقل. رأيت فوق بشرًا يشبهون الأضواء، إنها نار العقل، قالت لي ياسمين، عندما تتماهى معرفة الذات ومعرفة العالم. وبعد ذلك، قابلت كل عقلاء القبيلة، فقالوا لي أشياء.
- ماذا قالوا لك؟
- قالوا لي أشياء.
- ماذا باحوا إليك؟
- باحوا إليّ بأشياء كثيرة، قالوا لي أشياء كثيرة
- حسنة أم سيئة؟
- حسنة وسيئة.
- حسنة وسيئة!
- قالوا لي أشياء كثيرة، أشياء لا تعد ولا تحصى.
- منذ بعض الوقت، أشعر بنفسي تعسة، أشعر بنفسي تعبة. قديمًا، حقًا كنت تعسة، إلا أنني أبدًا لم أشعر بالتعب. البارحة، شعرت أني تعسة كم لم أشعر من قبل، وأني تعبة جدًا لأني أصبحت عاجزة، أصبحت ضعيفة، هذا ما قاله لك العقلاء الشيوخ فوق، أليس كذلك؟ إنني سأكون تعيسة، إنني سأكون كل حياتي ضعيفة، إنني سأكون كل حياتي ضعيفة وتعيسة!
أخرج غليونه وحشاه.
- نعم، عادت العجوز إلى القول بصوت خفيض، يسمع بالكاد، أحتاج إلى من يقول لي، أحتاج إلى من لا يخفي عني شيئًا.
- ها أنت في الأخير ككل عجائز المقاطعة اللاتي يبحثن بكل الوسائل...
لكنها تابعت:
- أنا أحتاج إلى من يغمرني بالعطف، ولكن ليس من أجل هذا أشعر بما أشعر، بما يدور في رأسي دون توقف، أنا تعيسة، أنا ضعيفة، سأكون إلى الأبد ضعيفة وتعيسة. لمن هن في عمري، الأمر غريب مع ذلك، هذا الشعور. لعجوز مثلي، عادي أن أكون ضعيفة وتعيسة، ومع ذلك... الأمر غريب مع ذلك كشعور. شيء لا أجد له اسمًا، كذلك المرض الذي فتك بالمقاطعة، كطائر يخرج من رأس ميت... أنا أرتعب خوفًا من الشعور بالعجز، بالضعف، بالتعاسة، ولكن ليس لأجل هذا أشعر بكل هذه الأشياء.
- ستكونين تعيسة وضعيفة كل الأيام الباقية من حياتك، هذا ما أقوله لك، أنا، ولن يكون باستطاعتك تجاهل هذه الحقيقة طويلاً، ولكن الأمر لا يتعلق بك.
- الأمر لا يتعلق ب...
- الأمر يتعلق بزينب، ابنتك.
- زينب، ابنتي؟!
- الأمر يتعلق بصهباء، حفيدتك.
- القبيحة؟! ما الذي جاء بها إلى هنا، هذه الرتيلاء؟!
- كما تقولين هذه الرتيلاء ستكون من وراء سعادة الجميع.
- سعادة الج... هذا ما قاله لك العقلاء الشيوخ فوق؟!
- مع جندي بربري ينبذ بربريته ستجلب السعادة للجميع، هذا أفضل الأشياء التي أعلنها لي العقلاء الشيوخ.
- هم يخطئون حكماؤك الشيوخ، يا صغيري غواص! ومن ناحية أخرى، "عقلاء"، أتساءل إذا ما كانوا فعلاً.
- هم لا يخطئون.
- سعادتنا شأن باسل ومحارب إلا إذا ما نسيت ذلك؟
- باسل ومحارب لتحرير الأقحوان، ابن صهباء لجلب السلام والرخاء.
- آه! كم يخرفون حكماؤك الشيوخ، يا صغيري غواص.
- هم لا يخرفون.
- سلامُنا ورخاؤنا شأنُ نغلٍ ابنِ جنديٍّ بربريٍّ وممن؟ من صهباء، ابنة الشيطان؟!
- كما تقولين هذا النغل سيكون ثمرة الحب، ومن هذا الحب ستولد سعادتنا وسعادتهم.
- سعادتهم؟ تتكلم الآن عن سعادتهم، أولئك البرابرة، أولئك المغتصبون، أولئك القتلة؟!
- نعم، سعادتهم. سعادتهم وسعادتنا على هذه الأرض الموعودة للوجع!
- آه! يا إلهي، ليس هناك غير وجعي على وجه الأرض، وغواص الشيخ الصغير يرى أوجاعًا أخرى. هل توجد أُم غيري على وجه الأرض أعطت كل شيء للريح كيلا تجني غير الدم والوجع؟
- نعم، توجد. الأُم البربرية هي أُم قبل أن تكون بربرية، وهي تتألم لما يصنعون من ابنها جنديًا يهدده الموت في كل لحظة.
- قاتلاً، مجرمًا!
- كل ما تشائين، ولكن قبل كل شيء ابنًا يهدده الموت في أية لحظة، ولأجل هذا تتألم أمه الألم نفسه الذي تتألمينه.
- لم أفكر أبدًا أن بين البرابرة من الممكن أن يكون هناك أمهات تتألم.
- لفقدان أولادهن، بلى.
- لا، أبدًا لم أفكر.
- فكري من الآن فصاعدًا، من وقت إلى آخر على الأقل، سيساعد هذا قليلاً ابن صهباء في مهمته.
- تسمي هذا مهمة؟
- أسمي هذا مهمة لأن أتباع الحرب والفقر الذين من عندنا وخاصة الذين من عندهم لن يوفروا شيئًا في سبيل نسف كل مساعيه ومنعه من أن يفعل شيئًا على طريق السلام والرخاء.
- الأقحوان والأضاليا.
- ماذا؟
- أهلوس، هذا كل ما هنالك.
- إذن بدأتِ تفهمين.
- وزينب؟ ماذا قال لك العقلاء الشيوخ بخصوص زينب؟
- ليبتعد السلام والرخاء إلى الأبد عن المقاطعة، ولتبقى فقط روح القتال والحقد، سيسعى البرابرة إلى الهيمنة على مستقبلنا مثلما هم يهيمنون على حاضرنا، وسيزرعون في بطن ابنتك الطفل الذي سيفعل كل ما يريدون.
- طفل من زينب سيتراجع بالأقحوان والأضاليا؟
- كيلا تبقى أبواب مشاريع توسعهم وسيطرتهم موصدة، وهذا أسوأ شيء أخبرني به عقلاء الجبل الشيوخ. طفل من ذئب ستلتقي به زينب عندما ستُضيع طريقها نحو الشجرة الشبيهة بالتنين ذي الرؤوس السبعة في المدينة الخالدة للبحر الكبير، طفل سيخضعنا، ونطيعه بالحديد والنار. حاكمٌ من عندنا، وفي الحقيقة نسخةٌ عن حاكمهم، مدافعٌ عن مصالحه. معه، يكممون أفواهنا ويكبحون أحلامنا الجديدة عندما نقتلع أحلامنا القديمة الباقية لصق جلدنا، ولن نعتقد بعد بالمستقبل الذي سيأتي به ابن صهباء. بعد ذلك، ستمتد مرحلة مشئومة طوال جيل أو جيلين.
انفجرت العجوز فجأة نائحة، بكت وأنّت. ذرفت دموع أمة من الأقحوان، ولم يكن الضمير اللاذع أمام تعاسات الآخرين، بعد كل التعاسات التي عاشتها. مرحلة مشئومة طويلة ستمتد. رغب غواص الشيخ في البكاء، هو كذلك. فكر أن حفيديهما، حفيديهما هما الاثنان، هناك، في مكان ما قرب النهر الكبير، تحثهما إرادة شبه إلهية، وهما في صدد الاستعداد للمجيء من أجل اقتلاعهم من تعاستهم، من ضعفهم، ولِمَ لا اقتلاع الأقحوان إذا ما اضطرا إلى ذلك، ولن يفعل وحي العقلاء الشيوخ فعله إلا فيما بعد. غلب التفاؤل على التشاؤم، ولم تعد في الوقت الحاضر سوى إرادة، إرادة واحدة، تحلق فوق رأسيهما: إرادة باسل ومحارب. هذه الإرادة مَنْ عليها واجب إرشادهما، حمايتهما، حتى يفعل الوحي فعله. شرب غواص الشيخ بعض الماء، وأعاد إشعال غليونه. أحس بنفسه مليئًا بالشفقة عليها، على جميلته العجوز: هي وحدها من ستكون ضعيفة وتعيسة كل باقي حياتها.
- لا تبكي، يا جميلة، اهدأي! همهم.
- أبكي لأني حقًا ضعيفة، وليس باستطاعتي أن أفعل شيئًا، همهمت.
- لا تفكري فيما تفكرين! تأخذ النبوءة وقتًا لتتحقق، فاتركي هذا لأبناء أبناء أبنائنا، الذين سيولدون من بعدنا.
- لقد بدأ الأمر، وربما سيتم خلال عشر، عشرين، ثلاثين سنة، لكنه ما بيننا. سيلاحقني في كل مكان و، في هذه اللحظة، ها هو هنا... ها هو يَثْقُلُ وزنًا فيّ.
تنهدت:
- سأقول لكِ... قال غواص الشيخ.
- قل أيًا كان القول، يا شيخي الصغير. في نهاية المطاف، لم يقل لي صاحب الأحلام كل شيء قبل أن يموت.
- لا تضحي بأي حيوان، لا توزعي أية قطعة، لا تعطي طعامًا لأحد، افعلي عكس ما يفعل الآخرون، وستذهبين وأنت مغمضة العينين إلى الجنة، قال، وهو يفكر أنهم فوق لا يأكلون أبدًا لحم حيواناتهم، وليس لديهم نقود ليشتروا أو يبيعوا –ومن ناحية أخرى هم لا يشترون شيئًا، لا يبيعون شيئًا- وهناك ما يكفي من حساء الأعشاب للجميع. هم يعيشون بسلام مع أنفسهم، مع الطبيعة، وخاصة مع الروح. جحيمنا الذي لنا سيظل أرضيًا.
- ما أنت سوى مجنون، ردت العجوز، وأنا من تقول عنك شيخًا صغيرًا حكيمًا عاقلاً! الجنة، لم أعد أفكر فيها. وفوق ذلك، أين ستجد حيوانًا تضحي به في هذا الجحيم؟
لم تفهم أنه أراد تكسير كل شيء فيها، عاداتها، أمانيها، آهاتها، للتخفيف من ذلك الشعور بالتعاسة والعجز في عروقها، ولإراحة ضميرها بعض الشيء. لم يشعر بالهدوء، وكل ذلك الثقل الجاثم على الضمير. ضميره. ضميره الذي له. ضميره الحميمي: الكدر والكرب! لأن، في الحقيقة، كان رأسه يثقل عليه. وَدّ القول: ضميره. لأسباب عدة! باختصار، لأنه أضاع حياته. والوحي لا علاقة له في هذا. أضاعها ابتداء من اللحظة التي عاد فيها إلى بيته، بعد موت زمردة. كان من اللازم ألا يعود هكذا بخفي حنين. سرقه الحاكم إياها، حياته. عانى التعب كل حياته تحت ثقل الأعمال المرهقة التي فرضها عليه ذلك الحاكم البربريّ، ملك الأضاليا والأضاليل. لو ترك له الجبار أن يختار ولم يسرقها له، حياته، لصنعها بشكل مختلف: لقاتل أو لحفر الآبار. مص غليونه، وهو لا يريد التفكير في كل تلك السنين الميتة.
- نعم، لقد ضحينا بكل شيء في جحيمنا، صدّق غواص الشيخ على غواص الشاب.
- كان زمنًا صعبًا، قالت العجوز وهي تتأوه.
- زمن ميت! هذا ما تريدين القول؟
- ميت! ضائع! لم نحصل على حمام أسود، لم نحصل على غراب أبيض، لم نحصل على شيء، لم نحصل على شيء على الإطلاق...
وغواص بحدة:
- ولكني أقسم لك أني قاومت... انظري!
قلب يديه وهو يطوي أصابعه: أظافره مقتلعة.
- انظري! انظري!
- لقد اقتلعوا أظافرك، يا غواصي!
- لكنها لم تكن محاولتي الأخيرة.
- أذكر يوم قتلت حارس الحاكم بالبارودة التي خلصته إياها، يا لها من جرأة، يا غواص! ولكن أي طيش!
جرأته كانت استغلال ذرة من غبار اخترقت عين الحارس، الذي اضطر إلى رفع إصبعه عن زناد سلاحه لحظةً ليسحبها، وكانت الفرصة السانحة. ذرة غبار، هذا الشيء الصغير جدًا البخس حَوَّلَ القوي إلى ضعيف والضعيف إلى بطل. ليست الجرأة، الظرف: عندما تكون فجأة غير ما أنت عليه وتنسى من أنت ومع من أنت، عندما تنسى أن غيرَ المُنْتَظَرِ يترصدك. كانت كل البربرية تتوقف على شيء قليل، في نهاية الأمر، على ذرة غبار، ومجد الهزال. سخرية القدر؟ سخرية العدل. في زمن الحروب، يعرف العدل كيف يسخر من "العادل". تركت العجوز أنينًا مختنقًا يفلت منها:
- يا له من جنون، كل هذا! يا له من غباء، الوغى! وبعد ذلك؟ هل تذكر، يا غواص، ماذا جرى بعد ذلك؟ لقد...
- اخرسي، يا جميلة! لا تجعليني أفكر في هذا، لم أعد أريد التفكير في القتلة جنودًا كانوا أم أسيادًا!
- ولكنك تحملها في دمك، فاجعتك، وستحملها في لحمك كل حياتك!
- لا أريد أن أسمعها من فمك، من فمك أنت، يا جميلة. فاجعتي، أعرفها، هي لي، لا لشخص آخر غيري. فاجعتي شغلي، سأعرف كيف أرويها على أحفادنا ذات يوم. أحدهم سيصبح شاعرًا، ستكون للشعر فاجعتي. ولكن في الوقت الحاضر، يجب التفكير في شيء آخر. يجب التفكير في فاجعتهم، فاجعة الغد، في هذه المتعة اللذيذة المرة للأرواح التعسة.
- وتلك الأم البربرية التي تتألم وفيها طلبت مني التفكير؟ إذن كنتُ على حق، يا غواصي الشيخ الصغير.
- لا، لم تكوني على حق.
- أنا على حق. فاجعتهم للغد أو لِمَا بعد الغد، وأنت، يعجبك أن تراهم يتعذبون.
- لا، لا يعجبني.
- يعجبك، يعجبك... كل ما يتوجع فيك يرتعش على فكرة أن تراهم يتوجعون.
- الحاكم وأزلامه، نعم. الآخرون ما هم سوى ضحايا، مثلنا.
- فاجعتهم ليست لليوم ولا للغد ولا لِمَا بعد الغد، فسيدوم وجعنا أيضًا وأيضًا، وسنكون ملعونين نحن الشيوخ لباقي حياتنا.
بحث، بكل الوسائل، عن دحر تشاؤمه: ها هي تنسى أحفادنا الذين بدأوا السير، الذين هم في الطريق. ها هي تنسى محارب وباسل، هذين المقاتلين من عندنا، واللذين، قبل تحقيق كل النبوءات، ها هما بيننا. نحن قاتلنا بتواضع، على طريقتنا، كما كان باستطاعتنا، ولكن هم، أحفادنا الأحباء، سيحرقون كل شيء. الماء لا يطفئ النار، النار تطفئ النار، وسيتم تطبيق القانون القمعي للحاكم وأزلامه على الحاكم وأزلامه. هكذا سيتم الثأر لنا، أطفال جميلة سيتم الثأر لهم، زوجها في السماء أو على الأرض سيتم الثأر له، شجرة التوت التي كنت ألعب مع زينب تحتها، المسكينة زينب، وكذلك زهرة، المسكينة أمي زهرة، التي سُحقت تحت صخرة، كلا شيء، كصرصار، كذبابة. وبعد ذلك، ستأتي أزمان الأقحوان والجمال، بعد كل التحفظ، كل التردد، كل التصلب.
- لقد عملنا حتى السحق، حتى الإفناء، قال غواص الشيخ، ولم يعد يوجد أي مكان للهلاك الأبدي!
- هناك حيث كان الماء كان القطاف والحصاد: قمح، ذرة، بندورة، قالت العجوز، بندورة لها رائحة البندورة، ولكن هذا القطاف وذاك الحصاد لم يكونا لنا.
- بما أنهما كانا للحاكم وأزلامه.
- ثم شخنا... فبصقونا كالنوى، أولئك المجرمون!
- نحن أيضًا كنا مجرمين، نعم، نحن أيضًا، كنا مجرمين في حق أنفسنا!
قفزت العجوز. بعد كل الليل الماضي، كل شيء مات بالنسبة لها. ماذا كانت ستفعل؟ ماذا كانت ستأمل؟ ومن ناحية أخرى، إنه السؤال الذي كان يطرحه كل واحد. مجرمون، نحن؟ ضحايا، ضحايا تعساء، وسعداء أحيانًا. عندما يكون ألم اليوم أقل تمزيقًا من ألم البارحة، نحن سعداء تقريبًا. ضحايا سعداء! سعادة المعذبين، شيء موجود! كانت تتعذب من الابتسام أحيانًا، كانت تحتفظ بكل سعادتها المأتمية هذه في القلب ولا تقول شيئًا للحمام، لا تقول شيئًا للسنديان! كانت تريد أن تحتفظ بكل هذا لها من هذه المتعة الطريفة للمصلوب. يا له من شيخ جاحد! كانت عصابة قوية من البرابرة! اختلطوا ببؤسهم، بتعاستهم، بحياتهم! ماذا كان بمقدورهم أن يفعلوا، هم، الأرامل، ذكرًا وأنثى، الذين بقوا؟ بانتظار زمن النبوءات، كان عليهم أن يحيوا حياتهم.
صمت طويل، بينا كلاهما ينظر إلى الضوء. هذا ما كانَ جريمَتَهُم نحو أنفسهم. تركوا وراءهم جيلاً جديدًا لا علاقة له في شيء بباسل ومحارب. هذه هي جريمتهم! جيل لا يعرف غير العمل والأكل والنوم. ماشية. تمرد غواص الشيخ في أعماقه ضدها، ضد جميلة، ابنة حسيب كبير انفكت بنفسها خطأً عن أصولها. كان باستطاعتها أن تفعل شيئًا ضد كل هذه الجرائم لو لم تتزوج سيفًا ومع سيف كل بؤس العالم. هذه هي جريمتها نحو نفسها، نحوهم. لهذا السبب حُكم عليها بالشقاء، حُكم عليهم بالعيش كالدواب، كالكلاب. الحب هو المذنب، وواقع أن تكون بنتًا أو ولدًا لا شأن له مع حماية أرض أو أمة أو حتى أسرة. غالبًا ما يكون الحب هو المذنب، غالبًا ما تكون العواطف هي المدمرة.
مج الدخان من غليونه وبصقه.
- مرة أخرى أمس، قال غواص الشيخ، بعدما تسلقت الجبل، ونظرت إليكم من أعلى، شاهدتكم في الليل نيام، وفي النهار عبيد، فقطعت كل ما أنتظره من أمل بكم.
- أمس، احتجت العجوز، أمس الآخر، كان لدينا كل شيء، لم يكن ينقصنا شيء، كنا أقوياء، كنا سعداء!
- خذيه، أنا أتركه لك "أمسك"، عانقيه، اخنقيه بقبلاتك، انتحري لأجله. أمس لم يعد لك!
- يا لك من سيء النية! ألأنك نجحت في الصعود إلى أعلى أخذت تحتقرنا أم لأنك تؤمن حقًا به، بولد صهباء؟ أنت سيء النية بالفعل!
نهض وهو يهتز غضبًا.
- اخرسي، يا امرأة! لا تسيئي الظن في رجل هرم أعرج عاش كل آلام جيله ويصبو بالشكل الأكثر تواضعًا إلى تخليد العقل والتعقل من ورائه.
أدار لها ظهره، تناول القربة، وجرع بضع جرعات، ثم، بعد أن استعاد هدوءه، انحنى نحوها، قال لها، وكأنها يودعها سرًا:
- مع "أمسك" حتى الجبل قيدوه خوفًا من أن يتحرك... فتوقفي عن قول أمس، هذا الحلم القديم الذي يدغدغكم والذي يمنعكم من التحرر من الحاكم وأزلامه ومن التقدم بإيقاع الزمن!
بقيت صامتة، مرتبكة، وللمرة الأولى فكرت في تلك المرأة البربرية التي تتوجع مثلها، فكرت في نفسها. كانت تلك العجوز الملقاة على الرغم منها في حاضر كل التعسين، وتراءت على حقيقتها.
- سيجيئكم ابن صهباء بغد أفضل، على الرغم من كل الصعاب، على الرغم من كل العقبات، على الرغم من كل سني الشك، تابَعَ، فاستعدي منذ اليوم لاستقباله، وكوني جميلة كالسابق. مع الأسف، إذا خرجت من ثوبك الأسود ضاع صوابك! وأنا، أطلب منك أن تخرجي من ثوبك الأسود في الحال، وأن تحرقيه.
- معك، يا غواص الجميل، أكون على حقيقتي بالفعل، ولكن، كما ترى، أعترف بعجزي. مع الأخريات، أنا الأقوى: هذا على الأقل أنا في ظنهن. ربما كنت الأقوى بالفعل رغم حالي، إلا أنني في الواقع الأضعف. الفرق أن الأخريات يظهرن للجميع كما هن عليه، بينما أنا...
- بينما أنتِ...
سالت دمعة على خدها.
- بينما أنا...
- المهم ألا تتركي نفسك لليأس، قال الشيخ مؤاسيًا.
- بعد كل ما عانيت طوال كل هذه السنين؟
- نعم، بعد كل هذه السنين. العجز لا يعني اليأس!
مسحت دموعها، واعترفت بصوت يتسم بالحَمِيَّة:
- أنا، لأخدع يأسي، لألعب معه، أعيش دومًا بانتظار أميري، بانتظار باسلي. ابن صهباء، أنا لا أفكر فيه. ربما فكرت فيه فيما بعد، لكن باسلاً من أنتظر. باسل أولاً، محارب أولاً، ثم ابن صهباء، ابن زينب، وليد الذئب. نعم، باسلي أولاً، أميري أولاً.
- هذا لا يعني أنك أبعدت اليأس عنك، فالأمير، نحن لا ندري إذا ما كان قاتلاً أم قتيلاً.
تشنج وجه العجوز.
- أحفادنا قاتلون؟ احتجت. أحفادنا منتقمون!
- منتقمون، أكد غواص الشيخ، قاتلونَ للقاتلين!
- في ما مضى، همهمت، أصابني نوع من اليأس، كنت وقتها جرة ماء في الصيف...
قطعت كلامها، وما لبثت أن قالت بهوس:
- كلما فكرت أنه آتٍ، باسلي، ارتعشَ تحت جلدي نوعٌ غريبٌ مِنَ الأمل.
تطلع الشيخ إليها بعينٍ تبحثُ عن استفسارِ ما تعانيه، ذلك الوجه السعيد لليأس. ذلك الأمل الغريب، حريتها! لواحدة تعيسة – تعيسة بعمق، تعيسة برعب- ليست هناك سوى طريقة واحد لتكون حرة.
- كم أود أن أكون حرة! همهمت.
- كم أنت تعيسة! همهم.
منذ قليل، أدانها. الآن، لا. لم يكن باستطاعة ابنة الحسيب الكبير أن تفعل شيئًا أمام كل أولئك البرابرة، أمام البربرية التي كانت فيهم، تلك البربرية الحلوة المختبئة فيهم. أملها الغريب، موتها! أشار إلى سن ذئب تعقدها بخيط حول عنقها:
- أهي التميمة التي ستأتي بحفيدك المنتظر؟ سخر منها، سن قط أو فأر؟ ربما سن خنزير؟
انتهى أملها الغريب، وعادت إلى حياة كل يوم.
- إنها سن ذئب أزرعها في فمي لتساعدني على مضغ بقايا الخبز اليابس التي لا تقدر أسناني على كسرها، رغم كونها لم تزل قوية، أوضحت العجوز. في الماضي، كانت، في الحقيقة، تعويذتي. هذه السن، أهدتني إياها ساحرة في عيد اللآلئ. قالت لي: ستعينك على إيجاد طريقك إذا ما ضللت، وستحميك من عين الحاسدين. علقت أيضًا رأس هدهد، وجناحًا أيمنًا لطائر، وكل ما له علاقة بالرخاء، لتكون لي حياة هادئة. ومع هذا، لم يمنع ذلك الأمراض، ولا الدماء، ولا فقدان القلوب، ولا فصل الأجساد عن الأجساد...
- ولا نهر الشهوة من الجفاف.
فكر غواص الشيخ في حبه القديم لها. بسبب هذا الحب، ماتت زمردة. كان على استعداد لإدانتها، لكنه رأى على وجهها، وهو يمضي بسرعة، كل بؤس عواطف العالم. كان على خطأ. لم يكن ذنبها إذا ما ماتت زمردة، كان ذنب منتصر: جاء بشكل منقلب في بطن أمه. وهذا الأمل الغريب الذي يعود. رأى في عينيها كل بؤس الأمهات التي تتوجع، فأخذ الشيخ يردد كمن يدندن لحنًا حزينًا:
- يا لك من شقية، يا لك من شقية...
ثم ابتعد بتثاقل.
- إذا لم تحضر لنا الماء لإخصاب كل شيء، صاحت فجأة من ورائه، ستقتل العجائز أنفسهن. ها أنا أنذرك؟
لكنه لم يتفاجأ على الإطلاق، ابن الماء:
- من هذا النبع لن يتفجر غير الرمل!
وفتح يده... كان في يده نبعٌ يبصق الرمل.
- لن يخرج منه ماء ولا بقر، ودون باسل ومحارب، سيكون الرمل مسكنكم، ودون ابن صهباء، ستكون الحرارة غذاءكم، والماضي حياتكم كل يوم.
- إذن ستنتظر معي.
- على عكسك...
توقف عن الكلام قليلاً قبل أن يضيف أقل يأسًا مما يبدو عليه:
- ... أنا لا أنتظر سوى الموت العادي لكل شخص عادي!
اقتربت منه، وجذبته من ذراعه.
- إذن، أنت لست تعيسًا كما كنت أعتقد، يا غواص، يا جميلي، يا شيخي الصغير؟
- مع أني أفضل أن أترك الموت بانتظاري.
وظل يمشي في الفضاء المتعذر السير فيه الممتد بين السور والمستقبل. ودت لو تقول له: الحرية لك ليست غدًا! إلا أنها صمتت. تناول غصن زيتون يابس، وارتكز عليه، وهو يعرج، وينفخ غليونه. لأجلها، أراد الانتحار. فوق رأسه، كانت سحابة صغيرة كالقطن تمضي، ولا تلبث أن تمحي تحت القبة الزرقاء.


يتبع الحلقة السابعة عشرة



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العجوز الحلقة الخامسة عشرة
- العجوز الحلقة الرابعة عشرة
- العجوز الحلقة الثالثة عشرة
- العجوز الحلقة الثانية عشرة
- العجوز الحلقة الحادية عشرة
- العجوز الحلقة العاشرة
- العجوز الحلقة التاسعة
- العجوز الحلقة الثامنة
- العجوز الحلقة السابعة
- العجوز الحلقة السادسة
- العجوز الحلقة الخامسة
- العجوز الحلقة الرابعة
- العجوز الحلقة الثالثة
- العجوز الحلقة الثانية
- العجوز الحلقة الأولى
- العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية
- العجوز مقدمة الطبعة الفرنسية
- موسى وجولييت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
- موسى وجولييت الفصل الرابع والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الخامس والثلاثون والأخير


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة السادسة عشرة