|
العجوز الحلقة الرابعة عشرة
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4609 - 2014 / 10 / 20 - 13:14
المحور:
الادب والفن
في الظلام، استلقت العجوز على سريرها الخشبي، وأحست على كتفيها بالليل جسدًا يسحقها بالتدريج. حافظت على رباطة جأشها، كما هي عادتها مذ كان أمرها مع سيف، مذ كان اختطاف جميلة من طرف زوجها القادم. هادئة وساكنة، تأملت المستقبل، فَجَرَّهَا مستقبلها نحو اللحظات الفاجعة التي عاشتها فيما مضى. عادت ترى نفسها في السرير نفسه، عندما كانت سخلة جميلة لم يخلبها الزمنُ بعدُ ببراثنِ سبعِ الطيرِ التي له.
......................... أكورديون. كانت الموسيقى تأتي من شارع الأقحوان، وغناء غير واضح، وكان الجنود يرقصون، وثلاثة منهم ثملين كالبراميل: أحدهم يجلس تحت طاولة، في وسط القاعة، وهو يدندن، بيد قدح، وبأخرى قنينة. وكان ثانٍ ينام على صدر ثالث، وهو يربت على خده، و، فجأة، يصفعه أعنف الصفع، دون أن يعي ما يفعل. وبحدة، أخذ الآخر يصرخ، وهو يركله. وعما قليل، علا غناء فوق الدخان:
خذني في أحضانك! إذا غاب العشاق فلتبحث عن جسد! خذني في أحضانك...
كانت الطريق خالية، والقرية تنام، وكان الغناء يبتعد، وكأنَّ سفينةَ قراصنةٍ تبحرُ بِهِ. ومن وراء زجاج الماخور، كانت الخيالات، خيالات ملائكة للواحد وللآخر خيالات شياطين، لم تكن تُعرف أية خيالات كانت. هناك ملائكة شيطانية، قالت العجوز لنفسها. غداة الاجتياح الكبير، جاء الحاكم، الحاكم الشيطان، عند جميلة، ليبدي قوة الملاك قوته. وليرد الأشياء إلى نِصابها، كان من اللازم زيارة ابنة الحسيب الكبير. اعتذر لديها دون احتشام، عن كل ما حصل، الحريق، موت أطفالها، اختفاء زوجها. أضاليل الأضاليا! أضاليا تزرع الرعب والعدم هكذا لا سماح ولا غفران لها أبدًا. قال الحرب هكذا، وهو لم يستطع السيطرة على كل جنوده. لتبرير ما لا يبرر، قال ما لا يقال. لن يعيدَ اعتذارُهُ صغارَهَا إليها، إلى جميلة، القذر! كان الأصفر لون النفاق، والأحمر لون الحنق. وعاد بعد عدة أيام، فماذا سيقول أهل القرية؟ جميلة تبيع نفسها للحاكم؟ هذا ما سيدور على ألسنتهم، أهل القرية، في مقهى الأقاقيا، وهم يرون المنتصر عليهم، وهو يروح ويجيء عندها. لم يكن باستطاعتها طرده. وعند زيارته الثالثة لها، عرفت الفكرة التي تنام وراء رأسه. ليقر الاجتياح شرعًا، أراد الحاكم الزواج من الوريثة الوحيدة للمقاطعة الكبيرة، أراد الزواج من الأرملة. لم يكن أحد يعلم إذا ما كان زوجها ميتًا، وكان يريد الزواج من المرأة المنكوبة الأكثر في العالم. كان قد فعل كل شيء لتكون الوريثة الوحيدة بقتله ولدها، وكان مستعدًا لكل شيء ليمتلكها. أخذ رجاله يرفعون حطام مسكنها، ليقول بنزاهة سعيه إليها، طريقة في إخفاء ما كان واضحًا! هو من كان قادرًا على قتل زوجها ليصل إلى غايته. هذا الجذع الذي أحرق المقاطعة عن بكرة أبيها لن يتردد، إلا أن جميلة، دون أن يتوقع أحد، طردته هذه المرة شر طردة. الحاكم، الرهيب، رأى نفسه مطرودًا. لم تكن جميلة امرأة كسائر النساء، فلم يكن بمقدوره أن يفعل شيئًا. وفوق ذلك، أمام جمالها، كان عاجزًا عن فعل أي شيء. سجد لجمالها، وأحس بنفسه مجردًا، متنازلاً، وحتى مذنبًا، فهدد، وكرر أنه لم يكن باستطاعته التحكم بكل رجاله، وليتمكن من حمايتها، عليها قبول طلب الزواج منه. فكري... لم تبدل جميلة رأيها. ومضت الأيام. لم يعد زوجها. أما الحاكم، فلم ييأس. سيجد الوسيلة التي تخضعها، التي تدفعها إلى القبول، التي تلوي عنقها... وتلك الضحكات الآتية من شارع الأقحوان، وتلك الروائح التي تنتشر من القبور، وتخنق كل حياة. كان عيد الموتى، وكان الغناء يُسمع من كل أنحاء القرية، قرية يمتلكها أولئك الملائكة الشياطين الذين كانت مهمتهم إخضاع جميلة، تطويعها، جعلها لعبة في أيديهم، لا يد أخرى غير أيديهم. كل ذلك الضجيج كان يذهب بعيدًا، لكنه كان يبقى، وكأنه معلق، طافٍ أمام العيون، ولا أحد يستطيع لمسه بيده: صدى بسيط للصدى، انعكاس بسيط للضوء... فليقع كل ما هو فظيع! خذني في أحضانك... خطوات العمالقة تلك التي كانت تدوس الحقول... تحركت الأغصان بحفيفها المختنق، وتعالى غبار دامس تحت البساطير، ثم، ببطء، تساقط، وتذرى. سمعت جميلة الخطوات خلف الباب، فنهضت من نومها قافزة، وسحبت الغطاء على صدرها. حدقت في سواد الليل، سواد قدرها. ذلك الأسود القدري، اللاممكن. وأطلقت نَفَسًا. ذلك النَّفَس الأسود، اللامحتمل. تحركت أشكال لامحددة وراء النافذة، فتقلص حلقها، لكنها تماسكت: الظلال، اثنان، ثلاثة، أربعة، انتقلت من مكان إلى مكان، بِيُسْرٍ مُوقَع، وكأنها ترقص، و، في الأخير، جاءت لتقف دون حراك وراء نافذة زينب، ابنتها الغافية في سريرها: في الثالثة عشرة من عمرها، زينب، في نعيم الجحيم. كانت تحلم بأميرها، زينب، أميرها المصارع للوحوش، حبيبها الغريب. وتلك الظلال الأربعة التي كانت هناك دون حراك. تشنجت أصابعها على الغطاء، ولم يكن بمقدورها فعل شيء أمام الخطيئة، خطيئتها! عندما تحل، الخطيئة، تكون حتمية. قالت لنفسها: إنه القدر! فماذا يعد لها، القدر؟ أشياء أخرى على أشياء كابدتها وصنعت منها حكاياتها؟ أم أنها نهاية حكاياتها؟ تلك النهاية التي تخشاها، التي تتخيلها بألف طريقة، ها هي ترتسم عبر النافذة تحت شكل ظلال سوداء دون حركة. يا إلهي! كان عليها أن توقظ ابنتها بسرعة. لم تعرف كيف نجحت في الذهاب بأسرع ما كان باستطاعتها إلى الصغيرة زينب، وإلى أخذها بين ذراعيها. فتحت الفتاة عينيها في اللحظة التي اخترق فيها الجنود الأربعة الجنود الطوّافون الأربعة ذلك البيت الملعون، الذي، منذ كان بناؤه بنقود اللآلئ السوداء، لم يتوقف عن توليد المآسي. دوت صرخة لم تكتمل... سحقتها يد العبث المشعرة، ووجدت جميلة نفسها محمولة وابنتها على أكتافِ جنودٍ يركضون في أزقة الموت، بينما جاء اثنان آخران على رائحة الغنيمة. هبت الريح، خفيفة في البداية، وفجأة ريح الشمال. بدأ المطر بالسقوط، خفيفًا في البداية، وفجأة الزوبعة. اندفع باب الماخور، فَفَجَّرَ قدوم المرأتين عاصفة من الصيحات والضحكات. عبرتا فوق الرؤوس من يد ليد، حتى الطاولة. كانت الصغيرة تنظر حولها بوجه خشبيّ، دون أن تفهم شيئًا. كانت الارتياع، زينب، وكانت الإبداع، جميلة، أمها. كانت تهتز كأوتار عود تحت أصابع عازف مجنون. أي جنون، هذا الماخور! لَوْثٌ وسُعْرٌ كل هذا! ترك كل الجنود من في أحضانهم من مومسات، وجاءوا ليحيطوا بجميلة وابنتها، تلك النرجسة المسكينة. رفعوا كؤوسهم، والبرابرة يرددون بحضارة، قبل أن يفرغوا كؤوسهم في حلوقهم، ومن جديد، بصوت واحد:
خذني في أحضانك! إذا غاب العشاق فلتبحث عن جسد! خذني في أحضانك...
وبأي ظُرْف! وبأي لُطْف! صب أحدهم كأسه على رأس جميلة التي بقيت هناك، مذهولة، معقودة اللسان: ضحك وتصفيق يذوب الواحد في الآخر. كانوا يضحكون في كل لحظة، كانوا يصفقون في كل لحظة، كانوا يعرفون التصفيق في كل لحظة، كانوا يعرفون الضحك في كل لحظة، كانوا يعرفون الغناء للعشاق الغائبين، وخاصة للأجساد التي يشتهونها. اقترب آخر، وقلب رأسها إلى الوراء، جميلة الجميلات، و، بقوة، فتح فمها، وأفرغ فيه كأسه. في تلك اللحظة، أحست أن شيئًا قد وقع، شيئًا يتجاوزها، يتجاوز إرادتها. إذن كان هذا شارع الأقحوان، كان هذا الماخور الذي لم يكن أحد يجرؤ على تسميته باسمه. سيغطيها الطين طويلاً، ستخبط طويلاً في هذه القذارة، ومنها ستحتفظ بطعمها، وستذرف الدمع لياليَ ولياليَ... كالإعصار الذي يفجر في الخارج الصواعق، الذي يُسقط كل أمطار الطوفانات في العالم، الذي ينفخ كل رياح الكون. فجأة، صرخت جميلة صراخ الملاعين، وراحت تضرب كل من تصله يداها. انحل لسان زينب: صرخت الصغيرة كأمها، بيأس طفلة في صدد الغرق، تستنجد أبًا قويًا. حملوا الأم من يديها وقدميها إلى زاوية، وألقوها على الأرض. قفز جندي فوقها، مزق قميصها، وامتطاها. ثم كان دور البنت. كانت تصرخ، كانت تبكي، وغواص الجميل يشاهد كل شيء من النافذة. كان أكبر مما كان في الوقت الحاضر، لكنه لم يكن يقدر على فعل شيء. كان يبتهل، في الوقت الذي كانت فيه الجرافات، تحول نهر الشهوة عن مساره. ألقى الشاب التعس بنفسه في الأمواج، ليضع حدًا لحياته. له، جميلة كانت حياته. حطموا حياته، فليضع حدًا لحياته، إلا أن الماء حمله إلى الشاطئ، فخاف العمال من ذلك "الشيء" الذي انبثق فجأة من الأمواج تحت الأضواء. سمكة كبيرة! صاحوا. حوت! وهربوا. .........................
يتبع الحلقة الخامسة عشرة
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العجوز الحلقة الثالثة عشرة
-
العجوز الحلقة الثانية عشرة
-
العجوز الحلقة الحادية عشرة
-
العجوز الحلقة العاشرة
-
العجوز الحلقة التاسعة
-
العجوز الحلقة الثامنة
-
العجوز الحلقة السابعة
-
العجوز الحلقة السادسة
-
العجوز الحلقة الخامسة
-
العجوز الحلقة الرابعة
-
العجوز الحلقة الثالثة
-
العجوز الحلقة الثانية
-
العجوز الحلقة الأولى
-
العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية
-
العجوز مقدمة الطبعة الفرنسية
-
موسى وجولييت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
-
موسى وجولييت الفصل الرابع والثلاثون
-
موسى وجولييت الفصل الخامس والثلاثون والأخير
-
موسى وجولييت الفصل الثاني والثلاثون
-
موسى وجولييت الفصل الثالث والثلاثون
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|