عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4605 - 2014 / 10 / 16 - 22:21
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الإنسان أبن آدم والحيوان شبيه الإنسان
عندما خلق الله ابو الإنسان (آدم) بيديه ومن أديم الأرض وسماه آدم وأكمله على أحسن صورة, لم يكن هذا الخلق المبدع مجرد تقليد لمخلوق سابق ولا على مثال مسبوق من بين خلقه, لما في الجعل من آية مرتبطة بعلة الخلق والأستخلاف, ولو كان الأمر مسبوقا له وقادر هذا الخلق بماهيته هذه على أن يؤدي المهمة التي كانت هي علة الجعل لما تكلف بالأبداع الجديد ولا في حاجة لخلقه, بل كل ما في الأمر يتطلب منه الانتظار حتى يستكمل هذا المخلوق دوره التطوري ومن ثم تكليفه بالمهمة, أو يتدخل الله في هذا الأمر بالفعل الغيبي والمباشر لجعله قادرا عليها.
هذه النقطة مهمة جدا لفهم حقيقة الجعل ومرادية الخلق, الله ليس بعاجز ولا متعجر أن يبدل الخلق كيف يشاء ووفق أرادته هو{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}إبراهيم19,هنا المسألة لا تبدو للقارئ صعبة ولا بغير الممكنة, فلو أراد الله أن يبدل الخلق كيف يشاء فهو قادر عليه فمن خلق أول مرة قادر على أن يأت بخلق جديد.
إذن ما كان ليس مثل ما سوف يكون, وأن الخلق الأول ليس بنفس الماهية التي ستتبلور من خلق آدم, وبالتالي فيكون القول بأن ما كان على الأرض قبل أدم لم يكن مخلوقا لماهية مطابقه لهدف العلة الأستخلافية ولا تتصف بنفس المحددات التكوينية ومنها تتفرع قضية التكليف, هناك فروق حاسمة ومميزة بفرادتها بين الأول والثاني, بين الذي خلق في الملأ الأعلى وبين ما خلق أولا على الأرض وأشارت له الملائكة بما أشارت من تهمة الإفساد وسفك الدماء.
من دراستنا للخصائص المميزة للمجموعتين الخلقيتين الملائية والأرضية سنكتشف أن ما يفرق بينهما أكثر مما يجمع, وما يميز كلاهما ينتظم وفقا للدور التكليفي الذي سيقوم به كل طرف في مجمل البناء الكوني العام, وهذا الفرق الجوهري كفيل بأن يعطي لمشروعية الاستخلاف دورا حاسما في تقرير مسألة أن الله الخالق لم يكن عابثا ولا مضطرا على فعل خارج الهدفية النهائية من قصدية وقضية الخلق.
مناسبة هذا الكلام تتعلق تحديدا بما يعرف بالخلق ((الإنساني)) المزعوم الذي يتصوره البعض أنه كان موجودا على الأرض قبل أدم وما تشير له الدراسات العلمية وتؤكده المكتشفات الأحفورية والتي لا يمكن لعاقل أن يتصور انه بمقداره أن ينكره أو يتجاوز وجوده, وهو مما يشكل لدى البعض تناقضا بين قصة الخلق الآدمي وبين واقع حال يكذب ويتناقض معها.
الحفريات تؤكد أن وجود خلق حقيقي لمثال الإنسان كان موجود على الأرض منذ بضع ملايين من السنين(توصل باحثون دوليون الى كشف أثري مهم يعزز احتمال وجود حياة بشرية بجزيرة فلوريس الواقعة بشرق جزر اندونيسيا منذ مليون عام على الأقل. وقال آدام بروم عضو فريق الباحثين الدوليين الذي توصل الى الاكتشاف بجزيرة فلوريس «ان الفريق اكتشف معدات حجرية بتلك الجزيرة يعود تاريخ إنتاجها الى مليون عام ماضية، مشيرا الى أن ذلك الاكتشاف يؤكد وجود الإنسان البدائي بتلك المنطقة) .
النص المنقول هنا عن مركز أبحاث علمي موثوق به يؤكد بما لا يقبل الشك أن أقل عمر يمكن تحديده لعمر هذا المخلوق يتجاوز المليون سنه, وبالتالي فهذا التحديد العلمي يخالف أيضا قصة خلق آدم ونشوء الحضارة بمعناها انتاج المعرفة وتكوين المجتمع التعاوني المشترك الذي يختلف عن طور الحيوانية القائمة على أس الصراع من أجل البقاء وما يتبع ذلك من قتل وسفك للدماء وانتشار الفساد في الأرض الذي هو نقيض الإصلاح التي هو سمة للبشر المجعول في الأرض ليحي الأرض كما نجد هذا الهدف في النص القرآني{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات13.
الجعل والخلق هنا كان لغرض تكوين جماعات وقبائل وشعوب وظيفتها التعارف والتألف وتكوين حضارة من خلال هذا النشاط الإنساني الذي مارسه آدم لأول مرة على الأرض وهذا هو العامل المميز الرئيسي الذي يفرق بين وظيفة الإنسان(آدم في الأرض) وبين المخلوقات التي سبقته في سكناها ولم تنجز شيء حقيقي منه يمكن الاعتماد على أنه مماثل للوظيفة الإنسانية, وعليه يمكن لنا أن نحدد أن الإنسان الذي هو من آدم فقط هو من أنشأ الحضارة وساهم في إعمار وإصلاح الأرض دون غيره.
تبدأ عمارة الأرض أولا من خلال قدرة المخلوق المعمر على الاستعمار الإيجابي والمثمر لها, والذي لابد له أن يبدأ بما يؤمن له مستلزمات العيش المتنوع والطيب حسب النص القرآني{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}النحل72,هنا نجد الاقتران الوجوبي بين التكاثر وبين الرزق من الطيبات التي عرفها النص أيضا بصورة دقيقة{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}البقرة57.
الإشارة الإيجابية هنا للطيبات لا تتعدى ما ينتج من الأرض بما ينزل من السماء من ماء, أنها الإشارة الأولى لمهنة الإنسان الأولية التي ومن خلالها يمكن أن يوفق في تطبيق المفترضين بالنص السابق وهما التكاثر وتأمين مستلزمات البقاء بما في الأرض وما يمكن أن ينتج منها, إنها الزراعة وما يتبعها من رعاية للمخلوقات الأخرى التي تعتمد عليها الزراعة وتعتمد الزراعة عليها.
أنها أذن شبكة الأمان الأولى التي تبقي الإنسان قادرا على الاستمرارية والتكاثر وتعينه في ذات الوقت على التفكير بالأفضلية وإنتاج معرفة تسير به نحو إصلاح وعمارة الأرض, لقد كانت الزراعة هي الطريق الأول الذي فتح له باب المعارف والتعلم من التجربة الحسية التي تبلورها تجربة الزراعة كما تتطلبها أيضا ومنها مهنة الرعي والحدادة الأولى والنقل والتبادل السلعي ثم افتكار وابتكار السوق والتجارة والبناء والتعليم, أنها انطلاق شرارة الثورة الأولى التي تميزت بالديمومة والبقاء دون أن يدركها المخلوق الذي سبق آدم في سكن الأرض ولم يستعمرها ولم يستثمرها إنما أعتمد على القوة والبطش الحيواني لتأمين مصدرية البقاء.
لقد أتعب الباحثون في علم الأثار والحفريات أنفسهم ليوجدوا دليلا واحدا على ممارسة ما يسمى بالإنسان القديم الثورة الزراعية بالشكل الذي يجعل منه قادرا على تطوير واستمرار الثورة الزراعية كما سردناها هنا, بل كل ما وجوده كان عبارة عن أدوات صيد وبعض الحبوب البرية التي تنبت عادة نتيجة للظروف البيئية, ولم يستدلوا مثلا على قدرة هذا المخلوق على ترتيب وتنظيم الأمور الزراعية بالشكل الذي عرفته الحضارات البشرية الحديثة الت أعقبت نزول آدم للأرض.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟