|
(مهدي أبو حسن)-قصة قصيرة
جوزيف حنا يشوع
الحوار المتمدن-العدد: 4601 - 2014 / 10 / 12 - 18:23
المحور:
الادب والفن
لف حزامه على خصره.. خوصر وسط جذعه بحزم.. احتذى جزمته وحمل معوله وبارح باب منزله لتحط به خطوته التالية في البستان التي اعتادت فيما مضى أنْ تطوق بذراعيها البضين الأخضرين بيته الصغير الذي بناه في الوسط.. عند موضع القلب فيها كي يسمع صوت النبض الأخضر الذي شعَّ الحياة في قلبه وقلوب أطفاله الثلاثة الذين لا تبارح وجوهم مخيلته فإذا ما غادرهم فإلى أطفاله من النخيل.. فسائله التي يرضعها لتصبح غداً جدود الأولاد عندما يكبرون كما هُو لَه أجداد من النخيل أورثها له أبوه الذي عندما رحل.. كان وسط الخضرة.. محتذياً جزمته ومحتضناً بكفيه معوله الذي وضعوا مكانه سعفة وغفت على صدره حين أزاحوه إلى القبر كما كان قد أوصى. أتجه إلى عمق البستان.. مباشرة صوب الجدة كبرى نخيل البستان التي أرضعها جده.. ولأنّ جده كان يسحب الماء بمحرك جلبه له عفريت مصباح علاء الدين من نهر الفرات حيث كانت ثورة العشرين تشرب كلما عطشت.. فقد نشأت النخلة الجدّة عنيدة كسيزيف تنطح بسعفها رعونة العقود المريرة التي مرّت من قبل لتفتك بكبريائها. عندما وصل كانت التمرة التي سقطت على الأرض في محاولة يائسة منها البحث عن قطرة ماء بعد أن صارت جذور الجدة الضاربة عمقاً في تراب البستان القاحل عاجزة عن إرواء أوردتها.. كانت التمرة قد مضى على سقوطها رهط سنين.. وغفت في مكانها دون حراك.. نظر إليها برهة ثم سحب عينيه إلى قاعدة الجدة، وببطء تسلق نظره جذعها العنيد بهدوء حتى وصل إلى قمتها الخاوية ورأسها الأشيب. - ماذا حدث؟ سأل التمرة فأجابته: لقد ضربتها نوبة قلبية أُخرى. إنه الجوع. .. رد باقتضاب.. وبنبرة عاجزة كالماء القاصر عن إرواء البساتين.. - أعلم ثم جاءت السحلية من بعيد وعندما لمحها وارى نفسه خلف جذع الجدة علّها لا تراه.. لكن السحلية العجوز.. ذات العقود الطوال من حياة التجوال في البساتين ما كانت لتعجز عن إيجاده. استدارت حول جذع الجدة ووقفت قبالته تحدق في عينيه بعتاب مرير.. أحنى قامته واقتعد الأرض ماداً ظهره بطمأنينة مع استقامة جذع الجدة ومدّ ساقيه على الأرض.. أخبر السحلية العجوز أنه يتوجب عليه أنْ يكفّ عن الهذر والثرثرة اليومية التي يبيع فيها أحلاماً واهية للجدة.. والسحلية والتمرة المتيبسة من العطش.. وطلب إلى التمرة أن تفهم النحل أنّ عليهم الرحيل إلى بلاد أُخرى إذ نضب رحيق هذه البلاد.. واعترف لهم جميعاً.. الجدة والسحلية والتمرة وأغصان الحمضيات المقرورة بسبب احتراق أوراقها بعد رحيل المياه والهواء واستيطان الأبخرة المميتة القادمة إلى سماء الوطن من المريخ و... اعترف لهم جميعاً بالهزيمة. كان قد هم بالاسترسال في اعتذاريته حين أسكتته الجدة وقالت مقاطعة. - وأنت وأبناؤك أين ستمضون. تأمل معوله وجزمتيه الممددتين على الأرض.. أناخ رأسه صوب التراب يتشرب يباسه.. ثم نظر الى التمرة مفتوحاً فاهاً تحتضر.. قال: - أمس.. أيتها الجدة.. جاء الطاعون إلى باب داري.. وقف خارجاً ودخل ثلاثة من أعوانه إلى البيت.. أخذوا أطفالي الثلاثة.. وعند المساء خرج جدي من القبر وزارني لاحتساء فنجان سراب وأعلمني أن الطاعون سحلهم خلفه إلى المريخ وإنني فرطتُ بما يكفي من إبائي حين تركت التمرة تتلوى عطشاً وأن عليّ حفظ ما تبقى. صمت الجميع.. أدارت التمرة وجهها نحو التراب ودست أنفها فيه عميقاً وخيبة الأمل تمردها دون أن يخرج منها عصير، ولملمت الجدة سعفها الأصفر على محياها وراحت تلثم دموعها وتلعق جراحها وهرعت عاملةُ إلى ملكة النحل.. وبعد ثوانٍ شرع النحل يوضب أغراضهُ.. وظلت السحلية مسمّرة عينيها بعينيه ولم تحد عنه لست ساعات متوالية ولا رمشتْ عيناها... ثم.. أدارت السحلية جسدها صوب العمق إلى حيث الأحراش التي امتدت أعلى من أشجار الحمضيات لكن أوطأ وأدنى من جذوع النخل المندحرة وهي واقفة. ظلّ جالساً.. خطت السحلية بضع خطوات ثم توقف.. أدارت رأسها نحوه.. رمقته بنظرة آمرة.. قام على أثرها وتبع السحلية التي شاختْ بسبب تواتر الأعوام العجاف. مضتْ تخب السير.. ومضى خلفها.. واختفيا خلف الأحراش في اللحظة التي كان أحد هذه الأحراش قد مدّ قامته.. وللمرة الأولى ليعتلي جسد النخلة العذراء الوحيدة التي ما كان الطاعون قد طالها بعد.
20/ 5 / 2012 نينوى
#جوزيف_حنا_يشوع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الباص قصة قصيرة
-
قصص قصيرة جدا
-
صاحب الاسمال قصة قصيرة من العراق
-
النافذة قصة قصيرة
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|