|
ليالي المنسية(رواية)الجزء 29
تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 4597 - 2014 / 10 / 8 - 09:03
المحور:
الادب والفن
17مايس/1981
عشرة أيّام،عشرة قرون،عشر رحلات،عشر عودات،عشر ليالٍ ساهرات،لم يعد بوسع الجسد استيعاب الحيرة،كل شيء زال،(وداد)لم تعد تغرد مع العنادل،لم تعد هسهسات قدميها تلاقح شدو البلابل،لم تعد متواجدة ببراءتها،بسر البسمة الهادئة على شفتيها،لم تعد نظراتها أسرار قلب نضج باكراً وراح يطلب ضحيته. تشجعت واقتحمت المنازل،مجنون فقد البصر والبصيرة،أزيح خراب العينين،قذارتيهما،أبحث عن صورتها، أبحث عن قطعة قماش من مخلفات ملابسها،أبحث عن نظراتها الهاربة داخل الغرف،على الجدران،على الجدول المائي وقفت،هناك زرعنا حديقة أمل ببضع همسات وحفنة قبل،من على الأغصان الحزينة أسراب عصافير ترمقني،حائرة،خائفة،أنها تدرك حجم المصيبة التي حلّت بالمكان،لابد أنها تعرف مديات الكارثة،تعرف ما معنى أن ينتزع هذا الكائن الخرافي الماشي على أثنين،من عرينه. لعنت السيد الآمر الجديد،ما أن جاء وعرف بوجود حياة حقيقية داخل غابات الرصاص والنخيل،أمراً جائراً،كان بمثابة طلقة رحمة كتم بها نبض كياني المحتضر،كان ترحيل(وداد)ترحيل قسري لحياتي المتبقية،من لحظتها متُّ بـ قلع آخر جذر نبت لي في حياتي الجديدة. عادت دورة حياتي،العزلة،الجنون،والعودة لمستنقع الرذيلة،الجبهة ساكتة،ربما العدو حزين لرحيل(وداد). *** ((وداد ـ و ـ وداد/كل ـ وداد ـ محطة جروح/أم هي لعبة قدر قارع/لم تعد الشمس تغسل جدائل رغباتي /لم تعد أرض عواطفي مزارع/ليس لي إلاّ هذا الصهيل المتواصل/النبض الضائع)) *** ((أمد كفيأطلق بلابل جوفي/تنبح بوجه مشاعري/كلاب المستحيل/تلك الـ ـ وداد ـ واجهتني بعنادها الجميل/وهذه الـ ـ وداد ـ /أفق مجروح/حلم مفتوح/أبداً ودائماً جائع/ومازال مستقبلي القريب أفق مخادع)) *** ((الماضيمن مملكة بوحي لا ينجلي/وحاضري يجرجرني/إلى مدافن المستقبل/يغريني نداء قلبي/أن فاكهة أبدية/سترخي عباءة وجدها/على صهوة الصدفة/ستأتي/تجعل فتائل روحها مشعل/لتورق ـ في القريب العاجل ـ /ريحانة أخرى/في حقل الأمل)) *** 19حزيران/1981
رافقت الجندي(صلاح)إلى ساحة(سعد)،بعدما أقنع نائب الضابط(حسين)بضرورة إيصال راتبه إلى أهله،عن طريق سائق حافلة بينهما صلة قرابة،يشتغل على خط(البصرة ـ بغداد)،لم يمانع من مرافقتي له،بعدما طلب مني،كيلو غرام(جرزات)،كان يجب أن أخرج من السياج المكهرب بالرصاص والحرارة وموت آخر جذر حياة لي،المتمثلة بقلع(وداد)من بستان الحب والحرب. كل الناس يواصلون حياتهم بحيادية،لم تعد الحرب هاجساً يلغي رتابة الحياة،قد تكون شكل المدينة اتخذت لون الحرب،زرافات الجنود يلهثون،لكن أهل المدينة،مسكونون بالحب والسلام الروحي،أهي طبيعة أهل(البصرة)؟،أم أن الحرب فاصل زمني،يلغي زمن ويأتي بزمن آخر،يقبر التاريخ ويفتح صفحة جديدة لتأريخ حافل بمتناقضات وحداثات تنفرها الأذواق وتستقبلها على مضض بعد حين. لا تفارق البسمة شفاههم اليابسة،ولا تغادر الدهشة والسرور عيونهم الغائرة،ففي ظل الحرب يشعر الإنسان بإنسانيته،ينسلخ من وقاحة العيش،من قباحة الغايات العليلة،تلك التي توفرها الظروف،وقسوة المناخ،ووحشية الطبيعة،وتعمق جراحاتها توجهات الـ حكومات الشاملة،يتجرد الإنسان من روح العزلة،من الغضب،من الأحلام السرابية،يغدو كائناً متعافياً روحياً،يميل إلى التجمع،تنهض فيه مصابيح التعاون،وكل إنسان يساهم ولو بقدر معين مما يمتلك،فتغدو الحياة غير عابئة بما يدور من تجاوزات وغرائب سلوك. المركبات بدأت أكثر الأشياء الأخرى دعماً للـ مجهود الحربي،مركبتان ركبنا،وجدت السائقين يبديان المرح،رفضا أن يقابلا معروفهما ببضعة دراهم،عندما نزلنا من المركبة الأولى..قال صلاح: ((أنها الحرب،أنها..سقوط الإنسان في الفراغ،فلابد من وسيلة للخروج من هذا الفراغ،لذلك تدفع الإرادة المزعزعة كل واحد منا نحو الآخرين بشيءٍ من فطريتنا المبادة،أنه تعبير متأخر عن روح الجماعة)) لم أفهم مراده،ولم أرغب أن أعقب،كنت مشغولاً بتلاطم الأمواج البشرية من حولنا. بعد هبوطنا من المركبة الثانية..قال: ((هي الحرب..بعد أيّام تتبدل الأمور،تموت الدهشة ويعود المرء ليسقط في فراغ جديد،يخرج منه خشن الطباع،يومها تعم الفوضى،يكثر الفساد،وتتشكل خلايا أرهط بشرية من بيننا،يسمونهم ـ تجار الحروب ـ سيمتصون رحيق بشريتنا،وتغدو حياتنا المتبقية طعاماً للجحيم،عندها تولد مستنقعات الفردانية)) قلت له: ((أليست لحكومتنا عيون ساهرة تطارد العث والعناكب)) حدجني بنظرة،عرفت أنه غضب،هز رأسه..قال: ((أخشى أن أقولها)) ((عرفتها)) ((حسناً قلها لنفسك،ذلك هو ردي!)) الكلمة المتوقعة التي حضرت على لساني(عاهرة)،الحكومة مشغولة بالحرب،تنام عيونها عن مجريات حياتنا الداخلية،فتغدو الأمور سفن منفلتة في خضم محيطات هائجة. (صلاح)شتلني في مقهى،لم أرغب أن أستفسر أو أعرف سبب تركي وذهابه في أمر منفرد،سأمت الجلوس وشربت قدحين شاي،وجدت مكوثي يثير الريبة،شعور شخصي،بعدما وجدت العيون تلاحقني،صاحب المقهى..قال: ((جاياتك واصلة ـ أبو ـ التحرير)) لم يمهلنِ السؤال..أردف: ((أنت ضيف عزيز علينا)) خرجت إلى أقرب مطعم،تناولت غدائي وعدت..وجدته حائراً يجلس..قلت: ((تأخرت كثيراً عليّ)) أبتسم،وجدته فاقداً الكثير من نقاء سحنته،لم يفه بشيء،مسكني من معصمي وسرنا عائدين. قبل الغروب بقليل وصلنا رعيلنا،بعد العشاء وفي فترة الواجب الليلي،قال لي كل شيء،لم يكن صادقاً في قضية إيصال راتبه إلى أهله،شرح لي بالتفصيل علاقته بـ عاهرة،كلما سنحت له فرصة ملائمة يختلق عذراً ليجتمع بها. ((كان يجب أن تشركني معك)) يبدو كلامي كان ثقيلاً،لم يستسغه،هزّ رأسه بعد صمت قال: ((ليست كما تظن،كانت زميلتي في الكلية،لم تسعفنا الظروف لنتحد في حياتنا،أجبروها الزواج من ضابط سقط في الأسر. ((قد لا أصدق كلامك)) ((لك ما تشاء،إلتقيتها صدفة في دائرة البريد والإتصالات،لم أرغب أن أنكأ جرحاً قديماً،تقدمت مني وحكت لي حياتها وفراغها)) ((كان يجب أن لا تدنسها)) ((ثق هي من قامت بتدنيسي،وضعتني بين كماشة رغباتها القديمة وحرمانها المفاجئ بغيّاب زوجها)) ((كان يجب أن لا تنخدع كي تبقى كائنتك المثالية)) (صلاح)أظهر لي وجهه الآخر،كلامه لا يشبه كلام الجنود،يتكلم بمصطلحات منمقة،يتفلسف دائماً،عرفت منه أنه يكتب القصص القصيرة،نشر بضع قصص في مجلة(الطليعة الأدبية)،فتشكلت لدي معه تلك العلاقة الساحرة والجدلية الملهمة،بين أهل الثقافة والفن عندما يتواجدون في منطقة الموت،هذه الطبيعة لا تشكل علاقة جدلية دائمة في أوقات السلم،غالباً ما تتواجد مشادات ومفارقات تمتد من المقاهي إلى متون الصحف ما بين تلك الشريحة المتعالية مشاعراً والمتسامية ثقافة،والمفروغة تواضعاً والضحلة مضموناً. نام وبقيت ساهراً،وجدت نار الـ مشاعر يتململ في موقد الروح. *** ((بريد الموت يقف على عتبة الليل/من يوقف عربة الجحيم؟/من يوقف هذا الجدل العقيم؟/لتعود شآبيب العشق إلى قامات النخيل)) *** ((بريد الموت يهيأ كفني/جالساً على حافة المصير/وعمر السعادة في بلدان الحرب قصير/هكذا يشخط قلم زمني/حلمك أيها التائه/عسير)) *** ((ذكرياتنا/كرات تتعلق بحبال الطفولة/مهما عشنا/سعدنا أو شقينا/ستظل مصابيحاً تشق ظلام حياتنا نحو خرائب الكهولة)) *** ((حبكشجرة تنمو معي يوماً بيوم/مهما تفعل الحرب/تاريخنا سينطق حلمي المعلوم/مشاعري أكثر من رمال الصحراء الكبرى/ورغبتي/غابات نخيل تمتد/من ـ عموريا لـ سدوم ـ/يروقني أن تضج عصافير عنادك/بعدما يغدو هذا الزمن الراقص/محض صقر مهزوم)) ***
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 28
-
ليالي المنسية ( رواية ) الجزء 27
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 26
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 25
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 24
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 23
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 22
-
ليالي المنسية (رواية)الجزء 21
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء العشرون
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء التاسع عشر
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء الثامن عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء السابع عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء السادس عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء الخامس عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء الرابع عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء الثالث عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء الثاني عشر
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء الحادي عشر
-
ليالي المنسية/رواية/الجزء العاشر/
-
ليالي المنسية/رواية/الجزء التاسع/
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|