عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4597 - 2014 / 10 / 8 - 09:03
المحور:
الادب والفن
حدث ذات ليلة
أدخل الرجال جنازة الميت بعد التغسيل في مسجد داخل المقبرة بأنتظار الصباح لتورى الثرى ومضى الجميع خلا أحدهم الذي كان مأجورا للمبيت مع الجنازة كما هي العادة ,مهدي المؤذن أسمه وكنيته ولد وعاش في المقابر لا يعرف مكانا أخر ولا يرغب في ترك عالم الأموات في جعبته عشرات القصص بين حقيقي ومتوهم كان يروي البعض منها للناس يسلب لب عقولهم الكثير كانوا يظنون أنه يكذب , لا بأس بليلة أخرى مع جنازة أخرى وقصة متجددة تضاف لرواياته التي تتبدل بأبطالها وأحداثها بين الحين والحين , هذه القصة كانت الأخيرة أكثر ما في بشاعتها أنها حقيقية كما يقسم .
والي عسكريا من بغداد خدم في منتصف الستينات في قيادة الأركان العامة ضابطا فنيا في قسم الاتصالات السرية الموجهة لرئيس الأركان , ما كان بمقدور أحد أن يطلع على ما فيها من دقائق غيره وصولا لرئيس الأركان ولأنه كان كتوما جادا قليل الكلام لقبه الزملاء بوالي أسرار ,سيق فيما بعد إلى جهة مجهولة في عام 1969 شهر أيار وقد أشيع عنه خبر إنه أنتحر أو هكذا وجدت جثته في مقر عمله صباحا معلقا في سقف الغرفة وكرسي خشبي قريب ومقلوب حتى ليبدو الأمر طبيعيا.
الميت الذي جيء به الليلة هو شقيقه التوأم الذي عاش بعده لمدة أربعين عاما بالتمام والكمال حتى تأريخ الوفاة كان متطابقا الحادي عشر من أيار , يا لها من مصادفة أو ربما كان هو هذا التوقيت الطبيعي لوفاة الشقيقين لولا تدخل السياسة في تحديد أعمار الناس ,مهدي المؤذن كان يعرف أن قرب المسجد من مقبرة أهل والي ربما تعني شيئا له قد لا نعرفه أولا لا يعرفه تحديدا ,بقى يقظا حتى ساعة متأخرة من الليل يستمع للأخبار عبر جهاز الراديو الذي يستعيض به عن التلفاز عندما ينام في الجامع في ليالي معدودة في السنة.
أخوان والي وزوجته التي ما زالت تتذكر تلك الليلة المشؤمة عكس ولديه اللذان كانا في عمر لا يسمح لها حتى بتذكر شكله أو ما مر من أحداث على مر الأربعين سنة أنه لم ينتحر ولم يفكر يوما بهذا الحل فلم يكن مأزوم ولا بحاجة لأن يهرب من شيء فلا مشكل أمامه ولا من داع يجعله يسلك طريقا مخالفا لعقيدته , كانت الفكرة العامة إنه أغتيل بهذا الأسلوب لأن شيء ما قد كشفه القدر له في لحظة من لحظات الواجب , كان عليهم أن يسكتوا هذا الصوت ويطفئوا هذه العين .
مهدي المؤذن تنتابه رغبة بالنوم لكنه يقاوم تعب النهار بإحساس أن هذه الليلة لربما لم تكن عادة أبدا , قاوم موجات النعاس القادمة وحاول أن يتمشى خارج المسجد أولا ليقضي على حالة الخدر التي أصابته نتيجة طول النهار وأيضا لتمتلئ رئته بهواء نقي متجدد , خرج وحيدا يتمشى أمام باب الجامع الرئيسية بخطوات وئيدة ومتعبة سمع صوتا ظن أنها مما يثيرها بعض حيوانات المقبرة حول المكان , تلفت يمينا وشمالا لا شيء يسترع الأنتباه تكرر الصوت مرة أخرى وبوضوح أشد , لا بد من خطب في الداخل .
شقيق والي الذي كان في الأمس من كبار رجال القبيلة وممن أهتم بالتاريخ السياسي للبلد كونه كان من رجال الدولة وقضى وطرا كبيرا متنقلا بين دواوين الوزارات والمؤسسات العامة وخاض في الكثير من القضايا العامة وفي جعبته تاريخ طويل يمتد لأكثر من ستين عاما ,اليوم مجرد جسد خال من كل شيء حتى من الاسم فهو مرحوم وجنازة وميت كباقي ممن سكن هذه التربة منزوعا منه كل ما خوله الله وقلدته الحياة من خصائص ,أخر ما يمكن أن تعطيه فرصته الطويلة هنا قبر ليدفن فيه وتنتهي حكاية رقم سيسقط من سجلات الإحصاء لينتقل من خانة محددة إلى خانة تسمى الوفيات .
مهدي وقف مرتبكا من المشهد الذي أمامه الميت المسجى داخل التابوت يتحرك وكأن ما فيه قد عادته الحياة أو تم أستثنائه من حالته بحال العودة المجددة لعالمنا المتحرك ,لم يكن شجعا بما يكفي للكشف عما يجري داخل الصندوق الخشبي ,هنا كشف الرجل عن الكثير مما كان يكذب به علينا من حكايات كانت تنتزع منا نحن المستمعون قلوبنا مما يجري فيها أغرب الأحداث ,ظل واقفا يترقب متحيرا يفكر مرة بالهروب ومرة بالأستعانة بدورية الشرطة القريبة من المكان , لكن فضوله حتم عليه أن يرى ما يمكن أن تنتهي عليه الحكاية .
والي كما تقول زوجته كثيرا ما كان يزورها في الأحلام أحيانا بشكله المعتاد وأحيانا على شكل رسول يخبرها أنه ما زال حيا وأنه سيعود يوما ليأخذ بثأره ممن سرق عمره ,البعض فسر تلك الأحلام هو حديث نفس أو إنعكاس لعقيدتها أن زوجها قد تم أغتياله ولم ينتحر أصلا ,كانت تؤكد دوما أن زوجها حي وفي مكان ما وليس داخل المقبرة التي يزورها الجميع في الأعياد الدينية , كان حدسا متجذرا أن والي ليس هو من أنتحر بل كان الأمر مجرد تمثيل في تمثيل لإخفاء أمر ما , لم تشاهده عندما جيء به ميتا , لقد تم الغسل والتكفين والدفن سريعا وبأمر السلطة .
لا شك إن ما يحدث الآن يستحق المتابعة كما يستحق المجازفة ,الأحداث الفريدة لا تتكرر دائما قد يكون وراء ما يحدث شيء وشيء كبير ليس بمستوى غرابته فقط بل يتعدى لما هو أخطر , كلما تأمل مهدي المؤذن المشهد تتوارد خواطره يتمنى أن يملك ما يمكنه من تسجيل وتصوير الحدث حتى لا يتهمه أحدا بالكذب ,مع كل حركة كان موضع التابوت يتغير وكأن من يحركه يريد أن يشعر مهدي أن ما بداخله رجل حي أو أن أحدا حيا قد دخل ليفتش عن شيء أو يحاول أن يعمل أمرا ما .
شقيق والي المتوفي عكس أخيه المرحوم كان ضخما طويلا بنفس طول أخيه لكن الضخامة التي عليه تبدو لمن لم يعرف الأثنان أن هناك فوارق حقيقية بين الجسدين , والي كان طويلا نحيفا ممشوقا لأنه كان شابا في أول عمره لم تؤثر عليه الحياة المدنية التي عاشها شقيقه بترف ,هذه الكرة أبعدت عن مهدي فرضية أن حيوان أو ربما أفعى دخل التابوت وأن ما يصدر من حركات نتيجة حركة الداخل , هذا الأمر زاد من مخاوفه وهم أن يترك المكان , حاول أن يخرج فعلها ولكن لم يبتعد قليلا عاد ليجد الرداء الصوفي الذي يعتلي التابوت قد أنتزع من مكانه وأن الغطاء قد تحرك عن محله , لا بد أن الأمور خرجت من السيطرة ولا بد من حل.
والي المتوفي من أربعين سنه أول المستبشرين بوصول أخيه لعالمه , هكذا يقولون عادة الناس ولربما من جاء هذه الليلة إلى هنا هو مرحبا بأخيه لكن ما حير مهدي أن عالم الأرواح لا يفعل ما يحدث أمامه وما قد سيحدث , عالم الأرواح عالم سكوني صامت يحدث في فضاء قد لا يكون بالضرورة في هذا المكان فالأرواح سائحة في ملكوت الله ,حاول أن يطمئن الخوف الذي أعترى كل أوصاله فأحالته جسدا مهتزا لا يكاد يثبت على حال حتى أنه تعثر أكثر من مرة وهو يهرول خارجا من المسجد ليرى الأمور من بعيد ويستأنس بوجود مفرزة الشرطة قريبه منه في حالة تطور الأمور إلى ما لا يمكن السيطرة عليها تماما .
غالي في مسيرته لم ينسى أبدا قصة موت أخية وبحث في الكثير من الملفات من بعيد وبهدوء لفته محاولاته تتبع القصة إن زج به بالسجن لبضعة أشهر تدخلت الألطاف الربانية لتخرجه حيا مه تعهد بعدم متابعة الأمر , لكنه كان وفيا لروح أخيه هو الأخر كان يعتقد أن أخيه حيا لم يمت وأن كل ما في الأمر مؤامرة صاغها أطراف عدة للقضاء على سر لم يطلع عليه أحد , بعد سقوط النظام قبل ست سنوات أستغرق كثيرا في البحث عن وثائق من المقربين من الحادث ممن بقى على قيد الحياة منهم , كل ما حصل هو التأكيد على أن سرا عظيما ما كان وراء قضية أغتيال شقيقه وأن ما حدث هو قتل لهذا السر .
من بعيد يرى مهدي أطفاء واشتغال الأضواء داخل المسجد مرات عدة لكنه تمالك نفسه وسرى بهدوء نحو دورية الشرطة التي تعرفه جيدا ودار حيث بينهما وهو مقابلهم ليكون نظر الشرطة مركزا نحو المسجد عسى أن يروا ما يحدث للأضواء لكنهم لم يلتفتوا أو لم ينتبهوا لها أو قد يكون مهدي يتصور هذا الشيء في خياله الخائف ,طلب من أحد من أفراد الشرطة أن يصاحبه لداخل المسجد ليسقيهم كما العادة شاي مخمر ليعينهم على السهر ,أعتذر الجميع لأن موعد تبديل الواجب قد حان وبالتالي فهم ذاهبون للنوم .
في تلك اللحظات التي أختفى فيها والي كان غالي في حالة أضطراب شديد شهد لها الجميع ويتذكر تفاصيل مريرة في تلك الليلة التي تم فيها إعدام شقيقه تحت عنوان الأنتحار ,لم يهدا منذ أن فقده وصار كثيرا ما يرى مشاهد ليلية تدور في أحلامه عن مقابلة بين ثلاث رجال وشقيقه تنتهي دوما بأختفاء الأخ وغياب ملامح الأشخاص , يركض خلفهم لكنه في كل مرة لا يقبض إلا على الهواء هذا ما جعله يكرر المحاولة في معرفة الحلقة المفقودة ,جرب مرات عديدة أن يمارس تسخير الأرواح نجح كما يظن في مرة واحده خرج منها بوعد أنك ستلتقي يوما ما بوالي سيحكي لك كل ما تسأل عنه.
مهدي الذي لم ينجح في هذه الليلة في فهم ما يجري حوله ينتظر الفجر وظهور الشمس ليتخلص من هذا العبء الكبير ,لقد خانته الشجاعة المعهودة فيه يتحسس حرارة جسمه يشعر بالحمى تنتابه أو أن حرارة الموقف زادت من نسبة الهرمونات المحفزة للقلب في جسمه فأرتفعت الحرارة , من المؤكد أن موقفا كهذا لم يمر من قبل ولن يمر من بعد ,التابوت يتحرك ويفتتح لحالة وأنوار المصابيح الداخلية تعمل لحالها ,هذا ليس موقفا ينسب للجن .
تيقن أن روح المرحوم ترفض أن تغادر الجسد لذلك هي تشاكس تريد أن تلفت الأنظار لشيء ,هنا فهم القضية وتقرب بهدوء من التابوت وهو يتمتم بآيات من القرآن الكريم ,ما زال يهذي بكلام واضح يسمعه الجميع لم أسرقه لم أبع جسد ميت في عمري ,لقد هربت الجثة بصحبة جثة أخرى إلى هناك بأتجاه عمق المقبرة ,لم أعمل شيئا كنت خائفا مرعوبا الجبن قيد أرجلي ولم أعد أستطيع حتى النطق , كل شيء حدث أمام عيني لقد هرب الأثنان معا ها هم أمام عيني شيء مخيف أن يهرب ميت من قبره.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟