|
قيامة الخوف: قراءة في رواية( الخائف والمخيف ) لزهير الجزائري
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1293 - 2005 / 8 / 21 - 11:47
المحور:
الادب والفن
تبدأ رواية ( الخائف والمخيف ) لزهير الجزائري بمجموعة من الحكايات المنفصلة التي توحدها صرخة ، ستبقى تتصادى عبر صفحات الرواية ، مانحة إياها توترها ومناخها المأساوي المقلق الموحش ، والمترقب ، من خلال رؤية تسعى إلى استكناه عالم تتحكم به قوى شتى ، ظاهرة وخفية ، لتقوده إلى مصير فاجع ، وغرائبي . غير أن زهير الجزائري استطاع باستخدام أنساق سردية مختلفة ، تعطي للرواية شكلها البانارومي ، إنجاز عمل يمتح خصوصيته من هذه التوليفة التي لا تجمع شخصيات متصارعة ومتناقضة فحسب ، وإنما تحقق تعدديتها في الرؤى والأفكار ، أي بوليفينيتها . ولقد زج زهير الجزائري بشخصيات كثيرة في التيار العام لعالم روايته ، وكان طبيعياً معها أن تتلاحق الأحداث وتتراكم ، فبدا وكأن الروائي لم يعد يستطيع السيطرة على مسارات الأحداث ومصائر الشخصيات ، وأن المشهد الكلي ـ بالمعايير التقليدية ـ ممزق ومتناثر ، والخيط الذي يربط بعضها ببعض واه أحياناً ومقطوع في حالات .. بيد أن الروائي ـ في اعتقادي ـ أراد تصوير واقع هو مفتت ومضطرب في بنائه .. ذلك أن عالماً ممزقاً مفتتاً لا يولّد إلاّ رواية تفتقد إلى عنصري التماسك الظاهري والتمركز . ففي هذه الرواية تتعدد المراكز فتتبادل مواقعها ، وأن مركز العمل ووحدته يكمنان في رؤية الجزائري التي بثها في نسيج روايته .. رؤيته لفن الرواية وعالمها بالعلاقة مع المرجع الواقعي التاريخي الذي عاشه الروائي وخبره . إن ( الخائف والمخيف ) إمكانية أخرى مضافة لم تتحقق من خلال عملية تجريبية سائبة ، بل جاءت نتيجة وعي مسبق مخطط له ، كما أظن ، لأن وحدة بنائها الداخلي بحاجة إلى إحكام سيطرة الوعي عليها ، وعدم تركها للمصادفات . فإذا كانت الروايات التي هي من هذا القبيل تسرد بضمير المتكلم ( أنا ) فإن ( الخائف والمخيف ) تغامر ، هاهنا ، باستثمار ضمير الغائب ( هو ) لتحظى بتقنيتها الخاصة أولاً ، وثانياً لكي تكتشف منطقة أخرى من مناطق الرواية التي هي النوع الأدبي الوحيد الذي ما زال قيد التشكل بحسب باختين ، بمعنى أن الرواية لم تستنفد بعد إمكانيات تشكلها جميعها ، على الرغم من إنتاج آلاف وعشرات آلاف الروايات منذ بزغ فجر هذا النوع الأدبي الفذ والباهر . وإذ تبدو الرواية للوهلة الأولى وكأنها مكتوبة من خلال وجهة نظر الراوي العليم لاستخدام ضمير الغائب فيها ، إلاّ أننا نحس وكأن الرواية بمجملها تتخلق إبداعياً في ذهن الشخصية الرئيسة ( وليد ـ الشاعر والروائي ) ليكون هو الراوي المركزي الذي يكتب روايته ، ويعيش أحداثها في آن معاً . ( ويخرج الروائي من داخل زير النساء اللاهي ليكشف اللعبة ساخراً من مواطآتها .. في الطابق الأسفل اتكأ وليد على السياج مولياً ظهره للنهر وقد أشعل السيجارة الثالثة غير راغب في التدخين ، بل لمجرد أن يفعل شيئاً غير المراقبة ، آخذاً موقع مراقب لئيـم يتتبع شخصياته من ذلـك الوعي الشفاف الذي يسبق السكر )* الصرخة هي بداية رواية زهير الجزائري ( الخائف والمخيف ) ، وهي بداية الرواية التي يكتبها وليد داخل الرواية الأصلية .. تلك الصرخة التي لا تفاجئه إذ تفاجئ الآخرين لأنها تنطلق من بين سطوره ، وعلى الـرغم من ذلك ينتابه الرعب ؛ ( وتذكر أن هذا الرجل المرعوب ، المقرفص في سريره ، باحثاً عن مصدر الصرخة في ظلمة الليل سيكون هو في النهاية . ولذلك غادر الورق باحثاً عن مكان وزمان آخرين تجري فيهما وقائع روايته ) . إن جدل الداخل ـ الخارج يحكم علاقة وليد بروايته ، وبالواقع من حوله ، ولاسيما بالقائد وهاب !! .. إنه يسعى ليتمثله ويمثله من أجل أن يكون مكافئاً له ؛ ( سنكتب الرواية معاً يا سيدي .. منك السيف ومني القلم ، منك الأفعال ومني الكلمات ) . غير أن وليد تؤرقه قضية كتابة الرواية : كيف يبدأ ومن أين .. ومن هو الراوي ، أو من هم الرواة ، وكيف يتبادلون المواقع ؟ وما هو الشكل الأنسب للرواية المرتقبة التي تنكتب على خلفية أحداث الرواية الأصلية ؟ . ( ستكون القصة بوليسية إذا وضعت السفاح مكان الراوي .. ما أحتاجه هو واحد من أبطال دستويفسكي الحائرين بين الخـير والشر ، ولتكن الجريمة استطراداً ) . إن رواية الداخل هي ظل لرواية الخارج تناظرها وتناقضها ، ثم تتحدان معاً ، ولكأن الجزائري يموّهنا ، أو يلعب معنا .. يكتب روايته ويقول لنا كيف يكتبها .. أو أن وليد الراوي هو الخالق الذي يستحيل إلى مخلوق بين مخلوقاته فلا يستطيع التحكم بمصائرهم ذكرتني هذه الرواية برواية ( خريف البطريرك ) لماركيز ، وبرواية ( السيد الرئيس ) لأستورياس ،وبرواية ( صاحب الفخامة الديناصور ) لخوزيه كاردوسو بيريس ، وبروايـة ( 1984 ) لجـورج اورويـل ، وبروايتي عبدالرحمن منيف ( شرق المتوسط ) و ( الآن / هنـا ـ أو شرق المتوسط ثانيـة ) وحتى برواية ( القصر ) لكافكا .. غير أنها يقيناً نسيج آخر ، ورؤية مختلفة ، لأن مرجعيتها الواقعية هي التجربة العراقية تحديداً ، في العقود الثلاثة الأخيرة التي لا تشبه أي تجربة أخرى في التاريخ . ليس بمقدورنا القول أن هذه الرواية تؤرخ للحياة العراقية في الربع الأخير من القرن العشرين وثائقياً ـ لأن الرواية شيء والتاريخ شيء آخر ـ لكنها تخلق عالماً مناظراً ومكافئاً لها ، فهي لا تحاكي بقدر ما تعيد إنشاء وضع سياسي واجتماعي خبره العراقيون ، في تلك المدة ، والذي هو الأشد التباساً وعجائبية ربما في تاريخهم ـ تاريخهم الذي لا يخلو من الالتباس والعجائبية بالتأكيد ـ . وهاب هو البطريرك العربي / العراقي ( حصراً ) الذي لم يعرف أباه كما بطريرك ماركيز والذي هو امتداد لبطاركة آخرين مثل بطريرك ماركيز أيضاً الذي ( جاب مرة أخرى كل المنزل ، والمصباح في يده ، رأى نفسه أربعة عشر جنرالاً يسيرون مع مصباح مضاء في المرايا ) / رواية ( خريف البطريرك ) / وبطريرك زهير الجزائري ( سار في نفس الممر الذي سار فيه عشرون قبله ، بخطوات طويلة وهو يضرب الأرض المرمرية ) .. إنها السلطة المشيدة بجماجم الضحايا ، والمعجونة بالدم ، والممهورة بالدسائس والعنف والخيانات .. لعبة السلطة اللعينة التي لاشك ستحطم في النهاية اللاعبين جميعهم كي لا يلبث منتصر ثمة لأن الميدان حتماً ( لا يكشف إلاّ عن حماقته وبؤسه ، وما النصر إلاّ وهم من أوهام الفلاسفة والمجانين ) كما يقول أحد أبطال رواية ( الصخب والعنف ) لوليم فوكنر . إننا نتنقل في هذه الرواية من قصر الرئيس حيث تُحاك الدسائس وتُتخذ القرارات الخطيرة ، إلى مخادع العشاق حيث تتفجر الشهوات والرغائب ، إلى خنادق الحرب حيث يتربص الموت ، إلى غرفة المرأة المتوحدة إذ تُذبح باسم الله ، إلى النفق المحفور تحت الفرشة الرثة للزنزانة أملاً بالحرية ، إلى مكتب الشاعر / الروائي وليد الذي على ورقه الأبيض تلتقي الشخصيات وتتصادم وتتصارع في وحدة جدلية تروم اكتمالها في الشكل النهائي للرواية . تتلاشى أصوات شخصيات الرواية ، الواحد تلو الآخر ، ولا يبقى في النهاية سوى صوت الدكتاتور / البطريرك مكللاً بأصوات القطيع الذي دُجن تماماً وفقد أية إرادة أو صوت مستقل .. القطيع المستعد ، على الرغم منه للموت من أجل القائد ؛ ( سأجلب لك كل هؤلاء من أقبية التعذيب ، من المقابر ، من ردهات المستشفيات ،ما من أحد أجدر منهم برسم النهاية . سأجمعهم حولك أنت الواقف بسيفك المسلول فوق المنصة .. بقيودهم ، بطاسات الصفيح الفارغة ، بصور الأبناء الذين فقدوا في الحروب دون قبور ، بالعكازات والسيقان الصناعية التي تلمع تحت الشمس سيهتفون كما الرعد : ـ نموت ويحيا القائد ) . في نهاية رواية ( 1984 ) لأورويل يضع المحقق المسدس في رأس الرجل المتمرد ( الشخصية الرئيسة ) الذي تجرأ وكتب عبارة ( يسقط الأخ الأكبر ) خفية ولمرات كثيرة . وفي السجن خضع لعملية غسيل مخ هائلة ، وعندما صار مؤكداً أنه بات يحب الأخ الأكبر أطلقوا عليه النار ، لأنه لا يجب أن يموت إلاّ وهو يحب الأخ الأكبر . تحتفي الضحية بالجلاد .. تحبه فيقتلها .. تهتف بحياته فيقودها إلى الهاوية . * * * حاولت أن أتصور الرواية ـ وهذا ما يجب ـ نصاً أدبياً ليس من وظيفته مطابقة الواقع التاريخي ، لكني لم أستطع .. ربما لأن تفاصيل هذه الرواية هي كتابة عن تجربتنا نحن العراقيين ، والتي عشناها بدقائقها المريرة . بيد أن الرواية ، أيضاً ، كانت شيئاً آخر موازياً مثل عالم روايات كافكا الذي هو عالمنا نفسه كما يقول روجيه غارودي ، ولهذا ، وعلى الرغم من اندماجي واستمتاعي الفائق بعالمه إلاّ أنني كنت أحس أن الحرب الموصوفة بوقائعها التفصيلية لم تكن الحرب ذاتها التي خبرتها شخصياً ، طوال خمس سنين ، على الجبهة مع إيران . هل أظلم الرواية بهذه الملاحظة ؟ . ربما .. بيد أنني لا أريد أن أغمطها حقها بعّدها إضافة هامة للرواية العراقية والعربية. *المقتبسات من ( الخائف والمخيف ) رواية / زهير الجزائري .. دار المدى ـ دمشق / 2003 .
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية والمدينة: إشكالية علاقة قلقة
-
المجتمع الاستهلاكي.. انهيار مقولات الحداثة
-
العولمة والإعلام.. ثقافة الاستهلاك.. استثمار الجسد وسلطة الص
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|