عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4582 - 2014 / 9 / 22 - 20:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
النظام الأثري وقيمه
فالنظام القيمي الفكري عند الأثريون يقوم على التمسك الحرفي بالمأثور ليس لأنه مقدس فحسب أو لأنه تأريخي وله ارتباط بالعصمة كما يفهم أو يزعم السلفيون, ولكن يربطون أيضا بين هذا التمسك وبين عوامل الاستقرار والاعتياد والخوف من التبديل الذي يطرأ فيصيب بعض المصالح الشخصية التي تخدم فئة أو طائفة من المجتمع لها السطوة والجبروت على فرض هذا المنهج{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}طه63,هذه من الأسباب الرئيسية التي تجعلهم يتمسكوا بالطريقة (المثلى) دون أن يفحص هؤلاء مثالية هذه الطريقة أو يمتحنوها بمقارنتها بغيرها أو محاولة نقدها بما هو خارج اطارها الذاتي ومنها الحديث وما هو مستجد أو فحصها عبر الآلية العقلية والمنطقية للنظام العقلي السليم.
هذا النظام القيمي إذن يهدر عنصرين مهمين من عناصر فهم الحياة ونظامها الشمولي, وهما عنصر الحركة الزمنية وما يرافقها من منتج بالضرورة الزمنية, والعنصر الثاني حركة تبدل الفكر والتفكر وأساليب التعاطي مع الحاجات والمتراكم من التجربة الإنسانية التي لا تتوقف وإن أردنا تجاوز هذا التراكم , فهو حاصل بأي حال شئنا أم أبينا لأنها وببساطة لا تعلق حركتها بما نقبل أو لا نقبل, أو تطاوع أرادتنا بالمشيئة الذاتية.
القيم الأثرية تستند في نشر مفاهيمها على ما تعتبره عدم مخالفته للواقع لثبوت قدرته على التعايش معه واستمرار هذا التعايش لفترة طويلة دون أن يواجه بنوع من التحدي المصيري أو يخضع لتناقضات حادة مع الواقع, ولو كان هذا الواقع مرير باعتراف هذه المدرسة, ولكن الشعار المرفوع هو دائما(ليس بالإمكان أحسن مما كان),وطالما لم يجد هذا المنهج مقاومة حقيقية يبقى فاعلا ويسير بنفس الوتيرة المتباطئة والرتيبة حتى يصل بنا الحال إلى مرحلة الجمود ثم إعلان الموت الواقعي للفكر الذي يتمسكون بأثره مهما حاول أن يقاوم.
لقد شهدت بعض المراحل التأريخية في حياة المسلمين بعض الهزات التي ضربت أركان وقواعد الأثرية كمنهج وكفكر لكنها لم تصل إلى مرحلة الفعل القادر على تقويض هذه الأركان والأسس, وهذا طبعا ليس في قوة المنهج ولكن في ضعف الحاضنة وسطوة القوة التي يمتلكها الأثريون وهم الذين يمسكون بكل مقاليد القوة الفاعلة بكل أوصافها ومجالاتها إلا المجال الفكري المتنور ,والذي لم ينقطع أبدا في تواصله, ولكن العيب في تدفق هذا العزم, وخوف الجماهير التي تحاول أن تتمسك بالتنويرية الإسلامية والذي ضل ملازما ومستديما في عقول ونفوس المسلمين عامة.
مثلما استخدمت السلفية سلاح القداسة والعصمة والتكفير لكل من يحاول مس الأسس العقدية السلفيين, جعل الأثريون شعار الخوف والترهيب والتكفير سلاحا ماضيا في مواجهة الخط المتنور والذي يتابع المنهج الرسالي وفق ما يجده في الثابت من الوحي المدون في القرآن الكريم, فأنه أيضا يطعن بتيار المتابعة الحقة بما يسميه البدعة التي لم ينزل الله بها من سلطان, فصار مفهوم البدعة والابتداع المدفع الذي يفجر في كل لحظة في وجه التنويريين, لما لهذا المفهوم من خشية في نفوس المسلمين تقودهم للخوف بالوقوع بالمحذور الذي لا يصلح معه إيمان أبدا.
إن من المؤكد أن دفاع منهج الأثريين عن معطيات تفكيرهم الإسترجاعي ليس حماية الدين والرسالة بالمطلق وإن أعلنوه شعارا براقا, ولكن الحقيقة المرة أنه دفاع عن قيم محافظة قاتلت منذ أول الرسالة المحمدية لتثبيت أركانها بالرغم من افتضاح أمرها ومحاربة الرسول صل الله عليه وأله وسلم له والمؤمنين من بعده لهذا التيار المرتد.
الارتداد الذي نشير إليه ليس عن الإسلام كهوية بل جعل من مقومات الإسلام الأولى وهي شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله سلاحا في وجه الإيمان الرسالي المبني على حق التسليم والطاعة لله ولرسوله, باختراع مفهوم القريشانية والعربانية بدل مفهوم الأمة الإسلامية, وجعل طاعة الأمة لقريش وللعرب بدل طاعة أولي الأمر منهم, وقد تبين في ما سبق من ما سردنا من أقوال وفكر هذه المدرسة في بطون البحث لجعل شعار(الناس تبع لقريش).
كان شعار الرسالة لما بعد الرسول صل الله عليه وأله وسلم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}الأحزاب 6,فكان التأويل والتفسير له بعيدا عن قصدية وغاية النص معنى وروحا فجعلوا مثلا المعنى كما أورده السيوطي في التفسير الميسر((وذوو القرابة من المسلمين بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله وشرعه من الإرث بالإيمان والهجرة(وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والإيمان دون الرحم, ثم نُسخ ذلك بآية المواريث)إلا أن تفعلوا أيها المسلمون إلى غير الورثة معروفًا بالنصر والبر والصلة والإحسان والوصية, كان هذا الحكم المذكور مقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ, فيجب عليكم العمل به)).
لقد خرج النص المفسر لنص الآية تماما عما كان الله يريد أن يجعله قيمة رابطة للمجتمع الإسلامي تقوم على مبدأ الولاية التي بينها وبنى عليها ما يصح فيه الإيمان ليس بالرسول محمد صل الله عليه وأله وسلم ,بل امتدت في مقام المحاجة مع أهل الكتاب من غير المسلمين إلى ولاية نبي الله ابراهيم عليه السلام بقول الله تعالى{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}آل عمران 68.
الولاية عند الله قيمة أصلية وحقيقية وثابتة تمتد من أول ما صدع بالرسالة وتنتهي بالوقت الذي يرث الله فيها الأرض ومن عليها, ومفهوم النص يشير لي كفرد مؤمن أعيش في هذا الزمن المتأخر بهذه الولاية الممتدة من ابراهيم إلى رسول الله محمد صل الله عليهم وعلى ألهم وسلم لأنها أصلا ولاية الله, فكيف بدل الأثريون تلك الولاية إلى مفهوم الناس تبع لقريش.
ومن القيم الأخرى التي حرص عليها الأثريون ودعموها في بناءهم الفكري مسألة عدم قابلية النصوص لأن تمتحن مرة ثانية, فإن ما وصل لنا من أثار القوم هو غاية ما يمكن أن تجود به العقول اجتهادا, وليس هذا فحسب بل أن غاية ما يمكن أن ينتجه النص هو ما وصلنا, ولا أمل في أن يعطي النص مدى أكبر مما أعطاه سابقا, وكأن النصوص القرآنية أفرغت كل مقاصدها وصلاحية موائمتها للموضوع مع أول محاولة قراءة وقد تمت ,العبث هو الوصف المناسب لكل اجتهاد في استنباط وفهم المقاصد والمعاني ولزوم التوقف عن هذا الجهد هو الحل الأمثل والعقلاني بل والشرعي الذي كما يقولون أمر الله به.
لننظر مثلا إلى هذا المثال من كتبة الأثريون يبينون ما قلناه في موضوع فراغ النصوص من امكانية أن يجود بفهم أخر أو متطور أو متعالي عما تركه السلف من أثار تتناسب مع حدود تعقلهم وارتباط ذلك بالكم المعرفي والعلمي الذي وصلوه(( ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى بين لك في كتابه الكريم حيث قال {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}الأعراف 54,ذكر ذلك في سبع آيات من كتابه العظيم منها هذه الآية, ولما سئل مالك رحمة الله عليه قال(الاستواء معلوم والكيف مجهول, والإيمان به واجب) وهكذا قال غيره من أئمة السلف, ومعنى الأستواء معلوم يعني من جهة اللغة العربية وهو العلو والارتفاع, وقال سبحانه وتعالى{ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}غافر 12,......,في آيات كثيرة كلها تدل على, علوه وفوقيته, وأنه سبحانه فوق العرش فوق جميع الخلق ,وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي وغيرهم فالواجب اعتقاد ذلك, والتواصي به, وتحذير الناس من خلافه)),هذا الكلام ورد في أحد المواقع الإليكترونية والمسمى بمنتدى مكافحة الشيعة الروافض_ساحة العقيدة والتوحيد.
لقد رمى هؤلاء وأمثالهم الناس بالبدع والتبدع مقابل تمسكهم بالجمود الذي ورد في أخر الكلام((فالواجب اعتقاد ذلك, والتواصي به, وتحذير الناس من خلافه)) ليس لأنه ثابت بالنص القاطع اليقيني من الله أو من معصوم ,ولكن لأنه من أثار أئمتهم والذي فهم النص بظواهره المنقطعة عن الفهم الكلي للموضوع المشار إليه في جملة فكر القرآن كله ومنه ما هو باليقين القاطع مخالف لما قاله إمامه بنص قول الله تعالى {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}البقرة 115.
فكيف حكم أن الله فوق الخلق والله تعالى يقول{وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً}النساء 126,ومعلوم أن المحيط بشيء هو الذي يحده من كل الجهات, فهو فوق وتحت وأمام وخلف وكل ما يمكن الاشارة له أنه حد, بل أكثر من ذلك أن الله مع الإنسان وأقرب ما يمكن أن يكون{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }ق 16,بل أن الله وصف الرسول والذين معه بأنهم الأعلون وأنه معهم, فهل يعني ذلك ارتفاع وفوقية لهم على الخلق ؟{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }محمد 35.
لقد نهى السلفيون والأثريون أن يجتهد الناس بما مكن الله لهم من عقول وحركة شمولية تستوعب كل المتغيرات والمتبدلات وتستلهم منها فاعلية المنتج المعرفي والعقلي لكي ينظروا ويتدبروا ما في النص من عطاء يتوسع تحت غطاء القصدية الحقيقية للمباني القرآنية, ورسول الله صل الله عليه وأله وسلم يقول(هذا الدين متين, فأوغلوا به برفق).
ومن مقولة للإمام علي عليه السلام يصف القرآن الكريم وكيفية التعامل به من خلال العلم البادي فيه وذم ما سواه من أثر تركه الرجال وسماع ترجيع صوتهم بدلا من متابعة القرآن الذي كفى بالمئونة((فَالْقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ، حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ ،أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثاقَهُ، وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ، أَتَمَّ نُورَهُ، وَأكْرَمَ بِهِ دِينَهُ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ(صل الله عليه وأله وسلم) وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحكَامِ الْهُدَى بِهِ فَعَظِّمُوا مِنهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً، وَآيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيء سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم، وَلَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيء رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ،وَإِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَر بَيِّن، وَتَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَول قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ، قَدْ كَفَاكُمْ مَئونَةَ دُنْيَاكُمْ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ،َ افْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ)) .
تلك القيمتين التي أعتمدها أهل الأثر إنما تستهدف أولا وأخيرا المجال الحيوي للعقل المسلم ,وتربط على حركته الحرة في أن ينطلق في فهم الرسالة من خلال فحص النظام العقلي وامتزاج هذا الفحص بنتاج التجربة الإنسانية مع النقل المقدس وغير المقدس ليخوض بها وفق أسس المنطق القرآني نقدا بناءا يستهدف الكشف عن نقاط الجمع لا نقاط التفريق فيها ومنها, ويشكل بذلك نموذجا متلائم ليس مع الواقع المادي بل مع الواقع الرسالي الذي يحث على التفكير والتدبير والتعقل ,وبهذا يمارس العقل التنويري تصويب الأثر الذي لم يكن في توافق مع معطيات الفهم القصدي للرسالة ويحتفظ بالجزء الذي يتوصل منه إلى هذا التوافق, العقل التنويري لا يرفض التراث والأثر لأنه كذلك ,بل يمايز وينقي الفكر المسلم وليس الإسلامي من عوامل الجمود وانحطاط والإسترجاعية المميتة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟