|
الألوهة الذبيحة في المسيح الإله (3)
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4579 - 2014 / 9 / 19 - 20:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في روايتي ( الملك لقمان ) التي كتبتها عام 1994 . وصدرت عن دار نينوى في دمشق 2009 ، يأتي لقمان إلى موضع للتعذيب وتقديم القرابين البشرية لله أقامه طغاة على كوكب في السماء . لم يحتمل لقمان هول ما كان يجري فراح يخاطب الله تذاهنا . ليجيبه الله بما لم يكن يتوقعه . سأورد المشهد كاملا : (وانتقل الملك لقمان إلى أنساق المذابح حيث تُنحر وتذبح القرابين، وكم كان المشهد مرّوعاً للملك لقمان، فقد كانت الجثث تتكدّس على المذابح وتتبعثر من حولها في أشكالٍ عشوائيّة. جثث أطفال من أعمار مختلفة، وجثث فتيات، وجثث شباب، وجثث شيوخ وجثث نساء، بعضها عارٍ وبعضها شبه عار، وأحواض تفيض بالدّماء حول المذابح، وأناس ينتظرون بوجوه شاحبة بائسة تخيم عليها أشباح الموت. أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه شابكاً أصابعه فوقه، مُخفياً وجهه خلف مرفقيه، جاهداً بكُلِّ قوّته ليمنع صرخة هائلة من الإفلات منه، وما لبث أن رفع رأسه إلى السَّماء فارجاً مرفقيه قليلاً، ليتيح إلى عينيه الرؤية وكأنّه يأمل مشاهدة الله، وراح يصرخ في أعماق نفسه دون أن يعرف أحد ما يدور في بطينته، سوى الملكة نور السَّماء: لِمَ، لِما! لماذا يا إلهي تجعل كُلَّ هذا يحدث، لِمَ تتيح لكُلِّ هذه الدّماء أن تنزف، ولكُلِّ هذه الأرواح أن تقضي، بكم قلبٍ سأحتمل كُلَّ هذه العذابات والآلام، وأنت لم تمنحني سوى قلبٍ واحدٍ ضعيف؟-;- وأنزل الملك رأسه وهو يُطبق بيديه عليه ويتنفّس بتسارع وعمق لعلّه يسيطر على نفسه. غير أنّ جسده كان يتلوّى وكأنّه أصيب بمغص شديد، فسارعت الملكة إلى مواساته، فيما شرع صوت هائل يهتف في دخليته: كل هذه الجثث جسدي يا لقمان، وكل هذه الدماء العائمة دمائي، وكُلُّ الأجساد المصلوبة والملقاة في القبور والتي أحرقت جسدي، كل حنجرة قطعت هي حنجرتي، وكل حلقوم نُحر هو حلقومي، وكل قطرة دم سالت هي من دمائي، وكل عين فُقئَتَ هي من عيوني، وكل روح قضت هي روحي، فكم من الدّماء التي سالت عبر ملايين السّنين من دمي، وكم من الأرواح التي أزهقت من روحي، وكم من العيون التي فُقئت من عيوني وكم من الأعناق التي قطعت من عنقي، وكم من القلوب التي توقّف نبضها من قلبي؟! لو أنّك عشت مقدار ذرّة من آلامي يا لقمان، لمتّ ألف ألف ألف بليون مَرّة، فهل تراني كنت قادراً على منع حدوث كل هذا لي ولم أمنعه؟ هل تراني كنت قادراً على وقف نزيف جسدي ووقفت متفرّجاً عليه؟ هل تراني كنت قادراً على صَدّ الرّماح المنطلقة نحو جسدي ولم أصدّها؟ أم تراني كنت أنعم بمواضيكم وهي تقطّعني إلى أشلاء؟ ورصاصكم وهو يخترق صدري، وقنابلكم وصواريخكم وهي تحيلني إلى رماد وركام؟-;- وتوقف الصوت ليرفع الملك لقمان رأسه المتفجّر المضطرب، ويدور حول نفسه فاغراً فاه مشدوهاً مرسِلاً نظراته إلى الفضاء وهو ما يزال يشبك يديه خلف رأسه، ليهتف متسائلاً بحيرة وذهول مُفجّراً الصوت الذي طالما حبسه في دخيلته: لا! أهذا أنت حقاً؟ هل كان هذا صوتك؟ وهل أنت من كنت توحي إليَّ بالكلام الذي قلته للناس؟ هل هذه الدّماءُ دماؤك، وهذه الأجساد جسدك؟ هل كنت في حاجة إليّ بقدر ما أنا في حاجة إليك، وكنت تبحث عنّي كما أبحث عنك، فعثرت عليّ قبل أن أعثر عليك؟! أجبني؟ أجبني؟ هل يُعقل أن تكون ضعيفاً بقدر ما أنتَ قوي؟ وأن تقدر على كُلّ شيء ولا تقدر على شيء؟ هل يُعقل أن تموت بقدر ما تحيا، وأن تتألم بقدر ما تحب؟! لا! لا! مستحيل! ساعدوني، أعينوني، ساعدوني،أعينوني، أعيدوا الحياة إلى الله وكفاكم تمزيقاً لجسده وتقطيعاً لأشلائه وطعناً لسويداء قلبه، وإثارة لأحزانه وآلامه )!! كانت هذه حال لقمان حين صدمته الحقيقة التي لم يكن يدركها جيدا ، وبالقدر نفسه كانت صدمة المسيح حين وجد أنه كإله غير قادر على منع الألم عن نفسه ، فصرخ صرخته العظيمة : إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي ، إلهي، لماذا تركتني (متى 27) لم يكن المسيح يدرك أن ألوهة الأب فيه هي التي تصلب دون أن يقدرهو أو الأب على ايقاف هذا الألم .فقد كان يعتقد أنه باتحاده بالذات الإلهية سيكون قادرا على كبح آلام التعذيب والصلب . يروى عن الحلاج أنه احتمل آلام صلبه وتقطيع أوصاله ولم يكن يردد إلا كلمة " أحد أحد "خلال ذلك . ويروى عن متصوف آخر أنه طلب قطع رجله لداء فيها وهو يصلي كي لا يحس بالألم ، ورويت قصصا مشابهة لمتصوفين ،غير أنني لم أقتنع تماما بهذه القصص . يمكن أن تكون حملت قدرا من الصدق في تحمل بعض الألم ، لكن ليس الألم كله . في حال قصة الملك لقمان وحال المسيح ، لا نعرف إلى أي مدى تشعر الذات الإلهية المنزهة ، بالألم الذي يتعرض له الآخرون ، الذين يشكلون جزءا من ذاتها المتجلية ،فالذات المنزهة ليست إلا كلمة مجردة أوجدها البشر ( الله ) للتعبير عن القدرة الكامنة وراء الخلق أو فيه ، وليس هناك تنزيه غيرها ، حتى أننا لا نعرف ما إذا كان الله ينزه نفسه بها أو بغيرها أو حتى يوظف مفردة لغوية لتنزيه ذاته عن الوجود !! إذن لم تخرج الألوهة من جسد المسيح كما تصور بعض اللاهوتيين بل بقيت فيه وذبحت أو صلبت معه .. لتذهب معه في اتحاده بالذات الكلية ( المطلق الأزلي – الله – الطاقة الخالقة ) الكائن في كل مكان بما فيه الجدث الذي ووري جثمان المسيح فيه ، ليبعث فيما بعد في خلق أكثر كمالا وتحملا للآلام والعذابات إن وجدت في حينه .وليس بالضرورة أن يكون البعث القادم هو يسوع المسيح نفسه ، بل مادة جسده التي تفاعلت مع مواد الطبيعة ، لينتج عنها طاقة خلاقة ، تبعث خلقا جديدا أرقى وأكثر كمالا . لقد شكلت ملحمة المسيح أول ملحمة تراجيدية صوفية أبدعها العقل البشري منذ أن وجد . قدمت للبشرية رؤية خلاقة للخلق والخالق ( حسب زمنها ) انطلاقا من رسالتها الداعية إلى المحبة وبلوغ الكمال الإلهي ورؤية البشر جميعا كأخوة وأبناء لله . نهاية رؤيتنا لملحمة المسيح . محمود شاهين 18 – 9 – 2014 ( التاريخ حسب تعديلات أخيرة أجريت على النص )
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قلق قلق قلق !!
-
المسيح الصوفي والبطل التراجيدي (1)
-
مسيحية غير يهوائية ومسيح نقيض موسى !!( ألوهية يسوع المسيح تا
...
-
طفولة المسيح وألوهيته ( ألوهية يسوع المسيح تاريخيا)
-
شاهينيات ( في الخلق وفناء المادة )!!
-
ألوهية يسوع المسيح تاريخيا .
-
تابع: ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة (5)
-
تابع: ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة ( 4)
-
تابع: ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة ( 3)
-
تابع: ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة ( 2)
-
ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة (1)
-
شاهينيات : في الخلق والخالق مرة أخرى!
-
آه على وطن !
-
التحالف بين يهوه ( الله ) والشيطان على أيوب !
-
لو أن المثقف راقصة !!* ( برسم السلطة الفلسطينية واتحاد الكتا
...
-
شاهينيات في الخلق والخالق ( وإن شئتم في المادة والطاقة )!!
-
تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة !!
-
محمود شاهين يوقع أبناء الشيطان
-
شاهينيات : في الخلق والخالق والعقل البشري
-
ملكة السماء تعد الأديب بالنسيان
المزيد.....
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
-
المغرب: إحباط مخطط إرهابي لتنظيم -الدولة الإسلامية- استهدف -
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة في الميدان اعطى دفعا قو
...
-
الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة بالميدان اجبر العدو على التر
...
-
أختري للعالم: هدف الصهاينة والأميركان إقصاء المقاومة الإسلام
...
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|