|
الثقافة وديناميكية التجدد
صبري المقدسي
الحوار المتمدن-العدد: 4578 - 2014 / 9 / 18 - 13:20
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
المقدمة بدأت الثقافة الإنسانية حينما عاش الانسان في جماعات ومجتمعات بشرية. وبعد أن إكتشف الكتابة بالحروف الابجدية، ودوّن نشاطاته التجارية والحربية والقانونية والتشريعية والزراعية. ظهرت للعيان حضارات مُتمدّنة إستطاعت أن تحكم مساحات جغرافية شاسعة، وأن تعطي للبشرية كنوزا لا تُقدّر بثمَن من المعارف والعلوم المختلفة التي كانت أساسا للحضارة البشرية المعاصرة. فالثقافة الحديثة إذن هي ثقافة جامعة. وهي وليدة كل الثقافات البشرية التقليدية القديمة. وتعد العامل الأول والأهم في تكوين خصائص الشعوب والأمم. إذ تختلف الشعوب باختلاف ثقافاتها وحضاراتها. فلا فكر لأمة، لا تملك ثقافة متميزة. كما ولا يمكن الوثوق والاطمئنان بثقافة لا تقبل بالعقل، ولا تستمد رؤيتها من قدراته الخلاقة. فلابد إذن للعقل البشري أن يلعب دوره الفعال والمسؤول في كل مكونات الثقافة، ومن ضمنها الثقافة الدينية. وقد بدأت الثقافة اليوم أكثر من أي وقت آخر بإعادة تشكيل مفاهيمنا وخياراتنا وأذواقنا وسلوكنا اليومي، بشكل أكبر وأسرع من ذي قبل. وما نشاهده من المقاومة ضد الثقافة الحديثة بدلالاتها ورموزها الجديدة، هي من الأمور الطبيعية والمتوقعة. لأنه من الوارد جدا، مقاومة كل تغيير جديد في المجتمع بسبب تنوع البشر، وإختلاف أفكارهم، ومستوياتهم الفكرية والثقافية والاقتصادية. ويبدو أن الثقافة في عصرنا الراهن قد أخذت بتغيير اتجاهها والابتعاد عن الأيديولوجيات السياسية والمشاعر القومية والطائفية والإقليمية والعرقية. وتحاول أن تحوز بإمكانيات وقدرات أكبر للظهور بمظهر العالمية لكي تنشر بظلالها على البشرية جمعاء. ولذلك تجد الثقافات المحلية تصارع من أجل الصمود في وجه هذه الموجة، ولكن من دون جدوى، وذلك لعدم امتلاكها القدرة الكافية للمقاومة والبقاء. ومن الواضح جدا أن التقدم والتغيير المؤدي في هذا الاتجاه، له ضرورته القصوى. وليس باستطاعة أحد مهما امتلك من قوة وسلطان أن يوقف أو يُعطل هذه الحركة، خاصة إذا كانت متجهة نحو الأحسن والأفضل. وما نحتاجه بدورنا لقبول كل ذلك، النظرة العلمية والنقدية لواقعنا المحلي والعالمي، رغم كل التحولات والتحديّات والتطورات المتلاحقة والسريعة التي تجري في العالم. فمن الضروري إذن لتحقيق هذه الأهداف، انحصار النظرة التشاؤمية المظلمة لدينا، والانفتاح نحو الآخر، وقبوله كما هو، مع قبول قيمه وثقافته وتقاليده. لأن الناس بدأوا يرون في القرن الواحد والعشرين وبشكل أوضح، الرؤى الجديدة للعالم من خلال الثقافة الحديثة، ومكوناتها التي تشمل كل العناصر اللامادية، كالمعرفة والعقيدة والفن والاخلاق والعادات والأفكار واللغة والحقوق الاساسية للإنسان. وتتأكد حاجتنا على ضوء التغييرات والتحولات الجذرية في العالم كله، إلى إعادة الاعتبار للعقل، والإحاطة بكل ما تتطلبه عملية البحث من شروط معرفية ومنهجية، ومحاولة استيعاب كل منجزات الانسان عبر التاريخ، والتفاعل معها بطريقة تنسجم مع مقتضيات أوضاعنا الثقافية والحضارية. لأن العقل هو القوّة الحقيقية التي يُحرّك العالم ويُقرّر مصيره، إذ به يصنع الإنسان الثقافة والحضارة، وبه أيضا يستطيع هدمها وتخريبها، كما يستطيع هدم العالم والقضاء عليه نهائيا. ولكن غياب العقل وعدم الاعتبار له يؤدى في الحقيقة إلى نتائج وخيمة ومؤسفة. إذ يحل الضعف والوهن في جسد المجتمع، ويقضي على الطاقات المختلفة، ويشلُّ الحركة ويوقف النمو ويجمد التطور ويؤخر النهضة ويجعل من الشعوب تعيش في التاريخ والتراث، بدلا من العيش في الحاضر والتطلع نحو المستقبل، كما يحدث في مجتمعاتنا المحلية. وقد يكون الحل الأمثل في هذه الحالة، النظر إلى كل تلك الأزمات بعيون نقدية وموضوعية، بعيدا عن الوعي الزائف بالتاريخ، وإلإنبهار الغير المعقول في التقاليد الموروثة. وبعيدا أيضا عن التفسيرات العاطفية واللاعقلانية للحضارة والدين والتراث التي تنتشر في أوساطنا الدينية والسياسية والثقافية والإعلامية، مع تعديل وتحسين المفاهيم الخاطئة التي تسيطر على عقولنا من نظرية المؤامرة واتهام الآخر، وإلقاء اللوم عليه في كل ما يُصيبنا من خراب ودمار وفشل. فالمستقبل هو إذن للثقافة النزيهة والحرّة، ولدعاة الانفتاح والتجديد، وليس لممارسة القمع والاستبداد بكل أنواعه وأشكاله. فما لا يمكن قبوله في عصرنا الراهن هو ممارسة السلطات السياسية لهذه الأساليب اللاإنسانية واللامعقولة ضد حرية الفكر والصحافة، وضد الثقافة والمثقفين. ولعل هذا هو السبب المباشر في ما آلت إليه الأمور في محيطنا الجغرافي الشرق أوسطي، وفي العالمين العربي والإسلامي. وسوف نحاول من خلال هذا الكتاب إظهار دور الثقافة في بناء الفرد والمجتمع، ودور التجمعات الفكرية والمراكز الثقافية في خلق نوع من التقارب المبني على التسامح وتبادل الافكار، وخلق نوع من التنافس السلمي بين الافكار والثقافات، مع محاربة الأفكار الهدامة والمنغلقة التي تحاول إستعباد العقول البشرية بحجة الحفاظ على القيّم والتقاليد والارث الديني أو الثقافي. وما يدعونا للفخر والاعتزاز اليوم، وما يجعلنا نشعر بأننا جزء من هذا العالم الواسع والمتغير بسرعة شديدة، هو توجه البشرية نحو تحقيق هذا الحلم التاريخي العظيم، والقبول بالعيش في بيئة حضارية واحدة، من أقصى الشرق في اليابان إلى أقصى الغرب في الولايات المتحدة، وذلك لغرض تحقيق كيان بشري واحد، عوضا عن بشريان متعددة. وحضارة إنسانية واحدة بدلا من حضارات متعددة منفصلة، كما كان في السابق. بالرغم من الخلافات والاختلافات في القيّم والمعتقدات، والبحار والمحيطات التي تفصل بين الدول والقارات، والتعقيدات الكبيرة في مستوى الفهم والإدراك، والتوترات العميقة في العلاقات الدينية، وضعف الحوار بين الأديان والثقافات.
الفصل الأول
تعريف الثقافة ان التطورات الحافلة التي تتوالى بسرعة مذهلة، وتؤدي الى التغيير في رؤية الكثير من المرتكزات في مجال القيّم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والحياتية، أدت في الحقيقة الى تغيير كبير في كل المفاهيم، ومعها مفهوم الثقافة الذي ينطوي على كل تلك المكوّنات والمرتكزات. ويواجه الإنسان وخاصة في مناطقنا الجغرافية، وفي مختلف المستويات الثقافية والحضارية، الأسئلة التي يسألها دائماً في خصوص الثقافة، وعلاقتها بالحضارة والدين والتقاليد والسلوك والفن والأخلاق والسياسة والبيئة، وأهمية الحوار بين الحضارات، ودور العولمة والحداثة، وتأثيرهما على الثقافة والمثقفين، وصمود الثقافة، وكيفية نشرها وتحديثها وتجدّدها. ويبدو أن الإنسان في شرقنا العزيز، مُثقل بالهموم ومُتهدّم تاريخيا وإجتماعيا، بسبب الجهل والأمية. وبسبب الاستعمار وما خلفه من تدمير وإهمال وتجزئة، بالاضافة الى سلب كرامته من قبل الحكام المُستبدين القابعين على صدره، والذين يحرمونه من حقوقه الفردية المشروعة. وعلى المفكرين والمثقفين، إيجاد السبل الصحيحة للقضاء على كل هذه الأسباب والمسببات لكي يكون في مقدور الجميع متابعة النهضة الحضارية الحديثة في العالم، والإطلاع على ما كتبه القدماء، والإقتداء بهم، بإعتبارهم الخميرة الحقيقية للثقافات العالمية، والأساس الذي بنيت عليها المعارف والأفكار التي لا يمكنها أن تنقطع عن جذورها. لأنه ما قيمة ثقافة، تتجاهل عن عمد أو عن غير عمد علاقتها بالتاريخ والجغرافية والأحلام والآمال التي عاشها المجتمع عبر تاريخه الطويل. فالافكار لها قوتها ومداها الوجودي، ولها أيضا القدرة الرهيبة على التطور والانفتاح، والغزو والتوسع، وخلق الوقائع الجديدة. فهي القوة الحقيقية التي حرّكت العالم عبر التاريخ وقرّرت مصائر البشر، وأخرجت الشعوب من الظلمات الى النور، وحرّرتهم من العبودية، وقادتهم الى الحرية، وأخرجتهم من البؤس والفقر الى الغنى والوفرة. مع أن البشرية استخدمت قوة الأفكار خير استخدام لنهوضها من كبوتها وإستيقاضها من سُباتها العميق، إلا أنها لا تزال تعاني من المجاعة والحروب في الكثير من المناطق التي لم تصلها الحضارة والتمدّن. انطلاقا من المقولة القائلة: أن أفكار المجتمع ليست سوى إنعكاس لظروف حياته الواقعية الموضوعية والتي تؤثر على مسيرة تطوّر المجتمع. وعلى هذا، فإن استخدام الظروف الحياتية الطارئة بطريقة تلائم التطورات الحاصلة في العالم، ومناهضة الأفكار المستوردة، ومقاومة الغزو الثقافي بكل أنواعه وأشكاله، والمحافظة على موروثنا الثقافي، وتجديده على ضوء المعطيات العلمية والمعرفية والثقافية الجديدة. هي مسؤولية الثقافة والمثقفين قبل أن تكون مسؤولية السياسة والسياسيين. وغايتنا من هذا العمل ليست الاستغناء عن مورثونا الثقافي والروحي، بل النظر إليه نظرة معاصرة تخدم أجيالنا القادمة في المستقبل، وخاصة إنساننا الشرق أوسطي، الذي يحتاج الى رفع مستواه الثقافي والحضاري والاجتماعي، ولتشجيعه على الانفتاح والتجديد. وتنحصر غايتنا أيضا في نشر ثقافة الحوار والتسامح والانفتاح والتواصل والقبول بالآخر وغيرها من الأمور الايجابية التي لا بد من تعميمها كأسس أساسية لكل مجتمع مُتحضر ومُتمدّن. لأن غياب هذه القيم من واقعنا المجتمعي يؤدي بالتأكيد إلى تراجع مسيرتنا، والى تقهقر أوضاعنا الداخلية والخارجية، التي تكلفنا الكثير من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن هنا تبرز أهمية الثقافة، كعنصر لا غنى عنه في الدراسة التي تهدف الى التعرّف على الحياة الاجتماعية للناس وتفسيرها وفهمها فهما صحيحا. ولكن الثقافة تبقى كلمة غامضة المفهوم والدلالة، بسبب أبعادها وآفاقها الواسعة، ومكوّناتها وعناصرها المتعددة، ومدلولاتها وإتجاهاتها المتنوعة. إلا أنه مع غموضها وصعوبة تعريفها يتفق المختصون: على أنها فعل ديناميكي حيّ، تتطلب كفاحا عظيما من أجل تحقيقها الفعال. لمواجهة أكبر وأعظم مشكلة في مجتمعاتنا وهي مشكلة التخلف بكافة صوره وأنماطه. ولو تأملنا الواقع الثقافي الراهن في مجتمعاتنا، نجد أن فقرنا الثقافي يتجاوز الوصف، ولا يقبله العقل السوي. ولكن لا يمكننا إلقاء اللوم كله على الحكومات والمسؤولين، وإن كانوا يتحملون الجزء الأكبر من ذلك العبء الثقيل. إذ تتحمل العائلة أيضا الجزء المهم من ذلك، وكذلك الموروثات الثقافية والدينية والشعبية والقائمين على تفسيرها وشرحها للناس. فالثقافة إذن هي في أمس الحاجة الى التنشيط والفاعلية عن طريق الحوافز والدوافع والمهارات التي تضع الاستعداد الملائم، والأرضية المناسبة لتحقيقها وإنجازها. وهناك دور مهم للعائلة والمدرسة والمحيط والبيئة للتأكيد على الثقافة عن طريق التربية الحسنة والتعلم الذاتي والتثقيف المستمر. لأن الإنسان وليد ضعيف، وليس كمثل الكائنات الحيّة الاخرى، التي تستقل عن مربيها بسرعة، وتستطيع الإعتماد على أنفسها. ولهذا يحتاج الانسان الى الركائز والمكوّنات والأسس التربوية والمنهجية والبيئية لتحضيره تربويا وثقافيا. ويقول الفيلسوف كانط في هذا الصدد: الثقافة ليست شيئاً موروثاً يتناقله الناس جيلا بعد جيل، بل هي عمل مكتسب، يقتنيه الانسان من خلال حياته اليومية، وتعامله وبحوثه ومطلعاته، التي تساعده على الخروج من عجزه وقصوره، لإتخاذ الموقف الحازم والشجاع في إستخدام الفهم المتحرّر والمستقل في التأمل والتفكير بعيدا عن التبعية والتقليد الأعمى. ولعل ما يصيبنا اليوم في الشرق الاوسط من انتشار للأمية التي تتسع رقعتها يوميا، والتديّن المزيّف، الذي يُغطى معظم المجالات. والتجزئة العرقية والمذهبية، والطائفية الممقوتة والمفروضة علينا منذ قرون عديدة. والقصور الفضيع في غياب القدرة على إتخاذ الموقف الصحيح. وعدم وجود القدرة على التحرّر من تبعات التاريخ. وعدم التفكير الجديّ في بناء الذات والمجتمع والدولة. والاندفاع نحو الماضي كمَهرب أو ذريعة في كثير من الأحيان، والتبشير به في كل الفرص والمناسبات، هي كلها أمور سلبية وسيئة، تجعل من مجتمعاتنا، استهلاكية وغير مثقفة، تنشد للرجوع الى الماضي، بدلا من العيش في الحاضر، والتوجه نحو المستقبل. ومن هنا نستنتج بأن الثقافة تميّز الوجود الانساني والحضاري للبشر. فهي شأن كل عملية حيوية تنطوي على بُنية مُركبة، ووظيفة هادفة، وعمليات تتفاوت في درجة حيويتها، وتختلف في مستوى إبداعها. ولهذا تفسر الثقافة من قبل علماء النفس والاجتماع: بأنها الضامن الرئيسي الوحيد لتحضر الأمم، والمظهر الأكمل للرقي والازدهار، والعامل الديناميكي الوحيد الذي يستطيع تحرير الانسان، من قيود التاريخ والتقاليد البالية، وإنقاذ الفرد والمجتمع من حالة الرتابة والجمود والكسل. ويشترط بالثقافة أن لا تكون ثابتة وجامدة بل أن تكون دائمة التغيير والتجديد، بما تضيف إليها الأجيال الجديدة من خبرات وأدوات وقيّم وأنماط سلوكية مختلفة. فهي إذن كما يُعرّفها مجمع اللغة العربية: كل ما فيه استفادة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع. وأما المثقف فهو: الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة، ويطالع الأدب والفكر والفلسفة والعلوم المختلفة، ويحاول معرفة الآخر على ما هو عليه. ومن هذا المنطلق يجدر بالثقافة في مناطقنا الجغرافية الخوض في التجربة الكونية للثقافة العالمية، وعدم تجاهل ما يجري من تطورات، وعدم رفض كل ما هو جديد، ومحاربة الانغلاق الذي يؤدي إلى ضعف البنى الثقافية وجمودها، وبالتالي موتها المحتوم. ويؤكد العلماء والمختصون على ضرورة التفاعل مع جميع وجوه الثقافة العالمية، لكي لا تبقى مجتمعاتنا سجينة لثقافة منغلقة ومحدودة، بل تكون منطلقة مع ثقافة تنسجم مع الكرامة والاخلاق وتطلعات المستقبل، في الفكر والسلوك، وفي كل العوامل التي تتعلق بها. لذلك ليس هناك لوم ولا قصور في الإقتداء بالمجتمعات المتمدّنة في العالم، والإستفادة من تجاربها في استخدام الوسائل والأساليب، لكي نصل إلى مصاف المتنورين الحاذقين، الذين لا يحكمون على الأمور من الخارج، بل يُركزون على منطق الأمور من الداخل، ويفحصونها ويتعرفون على وظائفها وأدوارها، فيقرّرون التسليم بها أو رفضها. ولا شك في أن الإنتشار السريع والواسع للمعارف والافكار والمعلومات أدى الى فتح آفاق الثقافات والحضارات بشكل غير محدود. وكان لا بد من أن يترك ذلك أثره البالغ في ثقافاتنا التي تدعونا الى النهوض بها، وإعادة تشكيلها وإعطاءها فرصتها الجديدة بعيداً عن الأطر التقليدية القديمة المتشبثة بعناصر الماضي الجامدة والمتحجرة. ولابد كذلك من الأخذ بمفهوم النهضة المعرفية والعلمية الحديثة بشروطها وعناصرها وقواها. والتركيز على العناصر الثقافية الحديثة. ومعرفة الأخطاء والنواقص التي شابت مسيرة ثقافتنا في المراحل السابقة، والاسباب التي دعت الى قصورها للقيام بدورها التاريخي. ولا يمكن تحقيق ذلك وإنجازه في طبيعة الحال، بعيدا عن الحرية التي هي مَكسب إنساني وتاريخي، يضمن المساواة الحقيقية للجميع، ويتضمن بالدرجة الاولى والأساس، ضمان حرية الضمير، وضمان الحريات الديمقراطية الاخرى، كحرية التعبير والنشر والتنظيم وغيرها من الامور الاخرى. ففي الحرية الثقافية، قوة لا يمكن التهاون بشأنها، فهي الطريقة الوحيدة لتحرير الانسان من التخلف، وتحرير المجتمع من العماهة والرتابة والكسل. لأنها الشرط الضروري في تنمية المجتمع، تنمية شاملة وفي خلق الأجواء المناسبة لنهضة ثقافية حقيقية وتحقيق الإبداع في الأمور المتعلقة بها. وأما مسألة غياب الحرية الفردية والثقافية وإنكارها على الفرد، فهي مسألة تعد من المسائل المُخجلة والمضحكة خاصة في عصرنا الراهن، المليء بكل المتغيرات السريعة. وإن كان عمر الثقافة بمعناها المعاصر، حديثاً وجديداً نوعا ما، إلا أن الثقافة البشرية وجدت منذ البدايات الاولى للجنس البشري. وهي أهم ما يميز المجتمع الانساني عن التجمعات الحيوانية بعاداتها وأفكارها واتجاهاتها المختلفة. وقد ظهرت الثقافة، كمفهوم جديد، في القرن التاسع عشر. وهي إذن لا يتجاوز عمرها بمعناها المعاصر، حسبما تفيد كل الترجيحات، بضع مئات من آلاف السنين من تاريخ البشرية المدوّن. ويمكننا إحصاء عدد كبير من المصطلحات الثقافية، ذات أبعاد جديدة ومُستجدة، والتي ظهرت منذ تلك الفترة الزمنية، والى مطلع القرن والواحد والعشرين، كالثورة الثقافية والمعلوماتية والاتصالاتية، والأصالة الثقافية والعولمة والحداثة وحوار الثقافات. وهي مصطلحات تُعبر في معظمها عن دور الثقافة وأهميتها وضرورتها، وعن المعانات الثقافية للفرد والمجتمع، والرغبة في التقدم والتغيير، والانبعاث الحضاري الجديد. وقد وردت كلمة الثقافة في المعاجم العربية القديمة، ولكنها لم تتجاوز نطاق الكلمة الضيّقة والمحدودة، الى نطاق المعنى والمفهوم الذهني المتحرك. لذا يؤكد معظم العلماء والمختصين على الأصل الغربي لكلمة الثقافة في جذورها اللغوية. ففي اللغة الانكليزية تعود جذورها الى كلمة cult والتي معناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation والتي تأتي بمعنى: حراثة وتهذيب ورعاية. ومن مشتقاتها أيضا cultural والتي تأتي بمعنى الثقافة. مما يعني أن كلمة الثقافة ترتبط في أصولها وجذورها الأجنبية بحراثة الأرض، ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، والدين والعبادة. ولطالما استخدمت لفظة الثقافة في الغرب الاوروبي على الأمور المتعلقة بالفكر والمعرفة، أو بالرجل المُهذب الذي يجني ثمار قراءة الكتب. وتعني كلمة الثقافة في اللغة العربية بمعنى الحذاقة، وفهم الكلام بسرعة، والتمكن من الفنون والعلوم والآداب، كما يرد شرحها في المناجد اللغوية العربية. وفي قاموس(لسان العرب)، نجد أن كلمة الثقافة تنتسب الى فعل ثقف، والذي يدل على الحذق والفهم، وسرعة التعلم وثبات المعرفة. وأكثر ما تركز عليه المعاجم اللغوية لمجمع اللغة العربية، هو التأكيد على معنى الحذق كجذر وأصل لكلمة الثقافة. وتوضح تلك المجامع: أن (اللغة) تعتبر خادمة، وحاملة لمشعل الثقافة الى جميع أقاصي الارض. فعليها أن تبقى دائما الخادمة المُطيعة، وأن تقوم بدورها المشرّف في القيام بوظيفتها كحلقة الوصل بين الفكر والصوت. ولم يكن تعريف الثقافة هينا وسهلا لدى معظم الباحثين والمختصين، وذلك بسبب التداخل الغريب بين الثقافة والحضارة، وعلاقة الثقافة بالمفاهيم الانسانية الأخرى. ولا يمكن تعريف الثقافة وحصرها في إطار خاص ومُحدّد. لأن الثقافة لا تمثل شيئا واحدا، إذ يختلف محتواها ومستواها من محيط الى آخر، ومن مجال الى آخر. وكثيرا ما نجد الكُتاب الذين يتعرضون لهذه المهمّة، يقومون بجمع عشرات، بل مئات التعريفات المختلفة، والتي تقترب كلها من المعنى الحقيقي، ولكنها لا تعبّر تعبيرا دقيقا عنها، ولا تكتشف الفكرة الحقيقية لها ولمكوناتها الكثيرة. فلا يمكن لأي تعريف أن يهمل فحص واختبار كل المعاني والدلالات التي هي من مكوّنات فكرة الثقافة. وقد يكون التعريف الأكثر مُبسطا ومقبولاً هو: أن الثقافة والمثقف متلازمان، فلا يمكن وجود الثقافة من دون المثقف، ولا يمكن وجود المثقف من دون الثقافة. ولعب علم الاجتماع دورا كبيرا في تطوير فكرة الثقافة وتجديد النظر فيها. إذ أصبح تعريف الثقافة بعد إكتشاف علم الاجتماع أكثر تحديدا ووضوحا. فالثقافة هي من أهم الظواهر الاجتماعية المميزة للإنسان، والتي تشكل موضوعا مهما لعلم الاجتماع، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الاجتماعي للإنسان، ومن سيرورة المجتمع. ويعد الكاتب العراقي (علي الوردي) من أوائل الكتاب العرب الذين وضعوا تعريفا شاملا للثقافة، وكيفية تمييزها عن الحضارة. ولعل الكاتب العراقي (الوردي) قد تأثر في دراسته المنهجية في الولايات المتحدة الامريكية التي تُميز بين مفهوم الثقافة التي تضم الادب والفن والعلم والقيّم والمعايير والنظم والاعتقادات والتقاليد، وبين مفهوم الحضارة التي تضم المظاهر المادية والاقتصادية. وتشير القواميس اللغوية العالمية الى تعريف الثقافة، وتحاول إعطاء المعنى الشامل لمكوّناتها ودلالاتها، كما في قاموس اكسفورد الذي يعرّفها: بأنها القيّم السائدة في مجتمع معيّن، تعبر عنها الرموز اللغوية والأساطير والطقوس وأساليب الحياة ومؤسسات المجتمع التعليمية والدينية والسياسية. وقاموس وبستر Webster الذي يُعرف الثقافة بأنها: مجموعة معيّنة من الإعتقادات والتقاليد والاراء والقيّم التي تؤلف خلفية وأساس لمجتمع ما. وتعاريف أخرى كثيرة تدل في معظمها على المعنى التهذيبي والتربوي، وتركز على إعداد وصقل العقل البشري وسلوكه اليومي. بالاضافة الى تهذيب المجتمع وتقويم الاعوجاج فيه، في السلوك والاخلاق والتعاملات اليومية. وللعلم أيضا تعريفه الخاص للثقافة، إذ يعرّف الاكاديميون والباحثون العلميون بأن الثقافة: منظومة متكاملة، تضم النتاج التراكمي لمجمل موجات الإبداع والابتكار التي تتناقلها أجيال الشعب الواحد، وتشمل بذلك كل مجالات الإبداع في الفنون والآداب والعقائد والاقتصاد والعلاقات الإنسانية، وترسم الهوية المادية والروحية للأمة لتحديد خصائصها وقيمها وصورتها الحضارية، وتطلعاتها المستقبلية ومكانتها بين بقية الأمم. ولعلماء الاجتماع والانثروبولوجيين تعريفهم المتميّز الذي يُركز على الفرد والمجتمع بصورة عامة ويدعون بأن الثقافة هي: إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات الحياة، فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة، زاد معدل الوعي الثقافي لديه، وأصبح عنصراً بناءً في المجتمع. وأما التعريف الشائع والمنتشر للثقافة فهو: أنها مجموعة من القيّم والأهداف الفكرية والمعيارية التي يؤمن بها المجتمع كضوابط لايقاع حركته السلوكية حسب العادات والتقاليد والأديان والفنون المعايير العالية التي ينبغي مراعاتها سلوكيا. وبالنسبة إلى الأدباء والمفكرين العرب، تُعرّف الثقافة بأنها: مجموعة من الإجابات التي تتشكل وتتبلوّر وتتكامل في صيغة أفكار وقيّم ومعتقدات وسلوكيّات، وتسمى بالكل المعقد والمتشابك روحيا وجسديا وتسمى بالثقافة أو الجسم الثقافي أو المجتمع الثقافي أو الشخص الثقافي. ونستشهد هنا بتعريف الكاتب العربي (مالك بن نبي) الذي يقول عن الثقافة بأنها: مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه. وأما التعاريف الحديثة التي جاءت بعد موجة الحداثة والعولمة، تركز جميعها على المفهوم العالمي والكوني، سواء من جانب المعرفة والعلم والتقنية أو من جانب الفنون والآداب والسلوك والتعاملات اليومية. إذ يحث مفهوم العالمية، جميع المثقفين على التكلم باللغة العالمية، بالإضافة إلى لغاتهم المحلية. وبجعلها جزءًا من عالمهم الذي أصبح موضوعيا وعمليا، عالما صغيراً يسمى بالقرية الكونية. فمن حق كل الثقافات اليوم أن تطمح بالعالمية، وأن تكون منبعا للقيّم الانسانية العامة. وعلى الثقافة التي تنوي أن تكون عالمية وسامية، ويكون لها الاعتبار والوجود بين الثقافات الاخرى، أن تخاطب الانسان وتصون كرامته، وأن لا تنظر اليه نظرة دونية على أساس العرق والجنس والدين، كما هو الحال في مجتمعاتنا التي لا تزال تفرق بين الرجل والمرأة، وبين أتباع الديانات والقوميات المختلفة. وأن تعترف بالتنوع الثقافي بصفته مكوّنا أساسيا للحقوق الانسانية، وأن تحافظ على الهويات والثقافات الفرعية، وعدم المساس بها، بحجة الوحدة الوطنية ووحدة الصف وما الى ذلك. إذ لكل شعب ثقافته الخاصة التي تعكس روحه وتراثه وتاريخه. فلا بد من احترامها وصيانتها وتجديدها مهما كانت الظروف الداخلية والضغوطات الخارجية. ويجدر بنا أن نقدم الشكر والامتنان للمنظمات العالمية مثل منظمة الأونسكو التي تحاول حماية الثقافات المختلفة من الضياع والاندثار، بكونها ميراث إنسانيّ، ساهم في تطوير الفرد والمجتمع، وعمل على إغناء الجوانب الانسانية والابداعية عبر التاريخ. وقد عملت المنظمات الإنسانية للأمم المتحدة في الإعلان عن حماية حقوق الإنسان المدنية والدينية والعرقية والجنسية. ففي شرعة حقوق الانسان لعام 1948 في المادة 27 (1) يرد ما يلي: لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع، وفي الاستمتاع بالفنون والإسهام في التقدم العلمي، وفي الفوائد التي تنجم عنه. وبعد إعلان شرعة حقوق الإنسان الأولى سنة 1948، وبعد الميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية سنة 1966، اعترفت جميع الدول رسميا في سنة 1993 وفي الفقرة 27 بالاقليات كشريحة ضمن القانون الدولي، وحرصت على ضمانة حقوقهم الدينية واللغوية أسوة ببقية أعضاء البشر الساكنين في ذلك البلد أو الدولة، لكي يتمتعوا بثقافتهم ويعلنوها ويمارسوها بحرية كاملة. ومن طليعة الحقوق الأخرى التي على الحكومات صيانتها: حق الانسان في الوجود، وحقه في حماية لغته الخاصة، وحقه في الاحتفاظ بعقيدته وإيمانه الشخصي، والدفاع عن سيادته وكرامته ووجوده. ولا تزال بعض الدول بالرغم من توقيعها على كل هذه المواثيق والشرائع الدولية تمارس التفرقة العرقية والدينية والمذهبية، وتحاول وبكل الطرق اللاشرعية طمس هوية الأقليات العرقية والدينية أو إلغاء وجودهم، ولكن من دون جدوى لأن الاضطهاد لا ينجح يوما في حل المشاكل العالقة.
الفصل الثاني
الثقافة والمثقف
يؤكد تاريخ الانسان منذ وعيه ونشوء حضارته، بأنه كائن إجتماعي، تاريخي ومُفكر. يحيا بالفكر أكثر مما يحيا بالطعام، ويجوع بفقده أكثر مما بفقده للطعام. فالحياة المادية لا تحقق للانسان، الرضى والسكينة والاطمئنان النفسي في ذاتها، من دون الكلمة التي بها يشبع ويسود، كما شبع الغرب، وأصبح سيّدا للعالم بكل معنى الكلمة. ولذلك يصدق الرائي يوحنا الانجيلي عندما يقول في افتتاحية انجيله: في البدء كان الكلمة .. وبغير الكلمة لم يكن شىء مما كان. ففي الكلمة قوة خلاقة إذ بها خُلق الإنسان، وبها كان الوجود والعقل. وبها أيضا أصبحت اللغة، العامل الأهم على الاطلاق لتكوين أي ثقافة من ثقافات العالم. وتثبت الديانات الإبراهيمية على دور الكلمة، وتؤكد بأنها القوة التي أنارت طريق الأنبياء والرسل، والوسيلة التي أيقظت الشعوب من سُباتها، ووَحَدت طاقات البشر، وبعثت فيهم الروح الجديدة، فنشروا الرسالات السماوية في كل أرجاء المعمورة. وهي القوة نفسها التي ألهمت الشعراء والادباء، فملأوا الدنيا قصائدا وقصصاً وأشعارا، أصبحت بعضها أناشيداً تغنت بها الشعوب والأمم، وقرّبت قلوب المحبين والعشاق، وأفاضت فيهم الهوى والغرام. وهي القوة نفسها التي ألهمت شاعر المقاومة الفرنسي (بول ايلوار) قوله: بقوة كلمة، أتابع حياتي من جديد، تلك الحياة التي كاد أن يقطعها اليأس. ولا نعني بالكلمة، في طبيعة الحال، مجموعة حروف أو ألفاظ، بل بالأحرى المعنى الذي يحمل النبض والحركة والفعل. فالعلاقة بين اللفظ والمعنى وثيقة جدا،ً بحيث لا يمكن لإحداها أن تتبلور وتعيش إلا في كنف الأخرى. ولذلك تبقى الكلمة روحاً حيّة متحركة، تحمل أوجها متعددة تنبض بالحياة أبدا. وقد سعى الانسان منذ نشأته وتطوّره الى شق طريقه للسيطرة على الأرض، والقبض على الأشياء، وإستكشاف المجهول بالتقصي والمغامرة والبحث والدراسة. وجاهد الإنسان من أجل تحقيق ذلك للقيام بالاكتشافات والاختراعات وإنتاج الأدوات والأفكار، وإعطاء المعنى والمغزى لكل الأمور التي كان يراها ويصنعها. فالانسان هو من أحدث من ظهر الى الوجود. ومن أكثر الكائنات الحيّة على كوكب الأرض غموضا وتعقيدا. وقد استطاع البقاء في مختلف الظروف البيئية والطبيعية. وكان إنتصاره على الأرض بقدرته على استخدام عقله في استخراج المعنويّات من المحسوسات، وبقدرته على كبح جماح غرائزه، وبتحكيم عقله في إرادته، وبوضع نظام سياسي وإجتماعي، لتحقيق الخير والسعادة والكرامة والحرية والاستقلالية، له وللأجيال من بعده. ومع ظهور الإنسان العاقل المُنتصب القدمين، وظهور أولى محاولاته للنطق، والتعبير الصوتي عن كل مكنوناته. بدأت الحاجة الى الحكمة، التي قادته نحو السموّ والتمدّن. ويجيب الكتاب المقدس بهذا المعنى في سفر الجامعة: كل ذلك إختبرته بالحكمة وقلت سأكون حكيما، فإذا الحكمة بعيدة عني. هي بعيدة جدا وعميقة جدا، فمن يجدها؟ فتفحصت قلبي لأعلم وأبحث وأنشد الحكمة، وألتمس جواهر الاشياء، وفي معرفة أن الشر غباء وأن الجهل جنون(سفر الجامعة 7: 23 ـ 25 ). فعلى الانسان أن يبحث عن الحكمة والمعرفة الحقة. وإذا ظن بأن له ما يكفي منها، فهذا دليل أكيد على أنه لا يملك منها شيئا. فالثقافة إذن هي الحكمة بالمعنى الحديث. تجذب الانسان وتصقله وتبنيه وتسمو به. وهي للعقل غذاء ودواء ومعبر الى العلى. فإذا ظن المرء بأنه له منها ما يكفي، فهذا دليل أكيد على أنه لا يملك منها شيئا. غايتها قيادة الانسان الى مستوى الأنسنة الحقيقية، بإعتبار أن الثقافة تهذيب وتنقية للعقل من كل أنواع الجهل والتخلف والسفسطات الكلامية المتوارثة. وتؤكد معظم النظريات العلمية، على أنه لو ترك الانسان من دون توجيه أو تربية، بعيدا عن البشر والعائلة منذ صغره، لعاش مثل الوحوش، أو قريبا منهم. لأن الحيوان يستطيع الاعتماد على غرائزه، والقيام بوظائفه من دون عون ومساعدة. وأما الانسان، فهو وليد عاجز، يحتاج الى التقويم والتشكيل والإعداد. ولا يستطيع العيش إلا في وسط اجتماعي بتوفير العوامل والمقوّمات المختلفة وتهيئة العوامل المهمة، كالضوء والماء والغذاء، التي تساعده على النموّ والوصول الى الأنسنة الحقيقية. لأن مزية الإنسان ألا يرتقي حقا وتماما إلى مستوى الإنسانية إلا عن طريق الثقافة بإعتبار الثقافة، من الانسان وبالإنسان ولأجل الإنسان(التعليم العقائدي للكنيسة الكاثوليكية). ولما كانت رسالة الثقافة الحقيقية هي خلق حياة نموذجية للفرد والمجتمع. فإن رسالة المثقف إذن تتحدد في خلق روح حضارية مُتجدّدة مع نشر قيّم المحبة والتسامح في الفكر والعمل، ورفع مستوى الفرد والمجتمع. ولولا الثقافة والدور الذي تلعبه، لكان الإنسان العاقل مجرّد قرد يختلف عنه بعض الشىء في الذكاء والبنيان(رالف لنتون). فالمثقف هو الداعية الأول لإحداث هذا التغيير في المجتمع، وذلك لإنعاش الحياة، وخلق روح جديدة في المجتمع بصدق وشجاعة وإخلاص، والدفاع عن حقوق الإنسان، وحقوق الشعب والتطلعات المشتركة للإنسانية، واستعادة الحالة الإنسانية حتى في أبسط معانيها، بالرغم من خشية الناس من كل ما هو جديد، وعدم رغبتهم في تجاوز الأنماط الموروثة القائمة. ولم تكن مسيرة الحكماء أو بالمعنى الحديث مسيرة المثقفين هيّنة وسهلة عبر التاريخ. إذ أُتهم المثقف منذ بدايات ظهوره، من مسألة التبعية والالتفاف حول السلطة. ولهذا سُمي من قبل الفلاسفة اليساريين: بالكسول والمتطفل والثرثار الذي يدس أنفه في ما لا يعنيه(جان بول سارتر). يدفع به الغرور الى الشذوذ عن روح الامة وتراث الاسلاف (ليون دوديه). ولم يرد مصطلح المثقف في القواميس الفرنسية القديمة، وما يثبت ذلك هو خلو القواميس الفرنسية المطبوعة في القرن التاسع عشر منه تماما، كقاموس العام الكبير لبيار لاروس المطبوع سنة 1866 ـ 1878 ، ومعجم ليزيه المطبوع سنة 1876 . وتبرأت انكلترا أيضا في تلك الفترة من مصطلح المثقف، وادعت بعدم وجود ما يسمى بالمثقفين في ربوعها، باعتبارهم ضالين وخارجين عن الطريق السوي. حتى أن فلاسفة انكليز كبار لم يستخدموا مصطلح المثقف، بل كانوا يستنكفون في حينها أن يُسموا أنفسهم مثقفين. ولم تستمر الشكوك ضد المثقفين كثيراً، وأصبحت المجتمعات البشرية تقبل بوجودهم، وتعتز بنشاطهم الفكري والثقافي الموجه نحو البناء والنهضة. وخاصة عندما اثبتوا من خلال الواقع التاريخي الحديث ولادتهم في وسط الطبقات الاجتماعية العاملة، وعدم خضوعهم للسلطات السياسية الحاكمة، مما يبطل الاتهامات القديمة ضدهم سواء في فرنسا أو إنكلترا أو روسيا أو في محيطنا الشرق أوسطي والعربي والإسلامي. وما يدعو إلى الفخر والاعتزاز هو تحقيق المثقفين وجودهم من خلال الطبقات الاجتماعية الفقيرة، بنفس الطريقة التي حقق بها اليساريون وجودهم، وقطفوا ثمار نضالهم السياسي والثوري. وما لم يفهمه اليساريون عن المثقفين، ودورهم في النضال الثوري في بداية وجودهم، أدركه (فلاديمير لينين) قائد الثورة البلشفية في روسيا، الذي إستخدمهم خير إستخدام في نضاله الثوري، حتى أنه صرّح قائلا: إن المثقفين، أهم وأدق من يعكس تصور المصالح الطبقية والقوى السياسية في كل مجتمع. فمن واجب الثقافة الحقيقية إذن تناول السياسة، بصورة غير مباشرة وبصدق وموضوعية. وليس من منطلق النفعية، وكسب السلطة، والتحكم في أمور الناس، كما يفعل السياسيون الذين غالبا ما تتم تدخلاتهم السياسية بالفرض والقوة، وباسم الاستثناء، للسيطرة على المثقفين. وقد أصابت تلك التصرفات، الضعف والهوان في مؤسساتنا الثقافية، وعطلت معنى الثقافة، وأوقفت نهضتها وإبداعها، وجعلت من الثقافة، آلة بيد السياسيين الذين همهم الأول هو البقاء في السلطة والتحكم في أمور الناس. ولذلك يفترض بالسلطات السياسية، الامتناع عن تهميش الثقافة والمثقفين، وترسيخ العمل الثقافي الحيّ مع تحديث القوانين بحيث تتلاءم مع المفاهيم الحديثة للمؤسسة الثقافية، وإتاحة المساحة الكافية من الحركة والحرية، للثقافة والمثقفين وفسح مجال العمل أمامهم لكي يستطيعوا التعبير عن هموم الناس ومشاكلهم. وذلك باعتبار الثقافة بحث عن الحقيقة، وميدان للصدق، وخير مَعبر عن طموحات المجتمع وأحلامه. وإن كان مصطلح (السلطة) قديم وواضح ومعروف بما يمثله من عنف وبطش وإنتهاك للحريات. وتدخل السلطات التنفيذية في شؤون السلطات التشريعية، وعدم استقلالية القضاء استقلالا تاما كما هو مطلوب وواجب في كل المجتمعات المتمدنة. فإن مصطلح (المثقف) على العكس من ذلك، فهو غامض وملتبس، ويصعب ضبط مفهومه. إذ تحاول السلطات السياسية والتنفيذية السيطرة عليه وتسييره بطريقة تخدم مصالحها. فهو إذن مصطلح حديث العهد مقارنة بالمصطلحات الأخرى، كالحضارة والسياسة والآيديولوجيا والاقتصاد. وقد دخل المصطلح (المثقف) في قاموس اللغة الانكليزية لأول مرة كترجمة للكلمة الانكليزية Intelligentsiaوذلك من اللغة الروسية. ولم يكن المصطلح متداولا قبل تلك الفترة، لا في الشرق ولا في الغرب. ولكن إستخدامه الحقيقي إنتشر في الأوساط العلمية والأدبية، وبصورة رسمية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، في نص البيان الذي صدر من قبل مجموعة من المثقفين في فرنسا سنة 1894 والذي وقع عليه الكاتب الفرنسي (أميل زولا) مع عدد من كبار الكتاب الفرنسيين مثل (أناتول فرانس، مارسيل بروست، وليون بلوم). وحمل البيان أسم (بيان المثقفين)، وقوبل بإنتقاد شديد آنذاك، وبتهجم صارخ من قبل الفلاسفة الوجوديين واليساريين، وغيرهم من أقطاب الثورة الفرنسية الذين شنوا معركة تجريد المثقف من سلطة التفكير نيابة عن الآخرين. وإعتبروا المثقفين حالة مؤقتة مسيرها الزوال. ولكن مع اتساع قاعدة القراء وتطوّر وسائل النشر والطباعة والتعليم، وضمان حرية النشر والتفكير والتعبير، إتسعت مساحة المثقفين، وإشتدت قوّتهم، وإزداد نفوذهم، فأحدثوا تغييرا عظيما في أوروبا والعالم كله. ولا بد من الاشارة أنه لم يستخدم مصطلح الثقافة في مجتمعاتنا الشرق أوسطية والمجتمعات العربية، إلا في منتصف القرن العشرين. وما يهمنا في الأمر هو المعنى الاصطلاحي للمثقف، والميادين التي يشملها من الأدب والشعر والقصة والمسرح والرواية والفنون. ولم يكن المثقف المحلي في بداية ظهوره بأوفر حظا من المثقف الغربي. إذ طالما إصطدم بالسلطة الاستعمارية، وإتهم بالخيانة والخروج من الدين والطريق القويم، من قبل رجال الدين والطبقات الشعبية المُسيّرة من قبلهم. وقد أدى الوضع المتردي في المجتمع، من إنعدام ثقة المواطنين بالمثقفين الحقيقيين، والقيود المفروضة من قبل السلطات ضدهم، الى ضعف الثقافة، وإفتقار المجتمع الى الصوت الحيّ، الذي يحمل بصدق وأمانة، المبادى والمنطلقات الحضارية للمجتمع الذي يعيش فيه، ويقوم على خدمته، ويدعو الى تجديده وتطويره، ونُصرة قضيته. وتركز التعاريف المنتشرة في الأوساط الثقافية والأكاديمية اليوم، بأن المثقف هو الشخص المتعدد المواهب، الطموح دائما والمتفائل أبدا، الخلوق جدا، والمستعد للحوار مع الآخر. فهو من يواكب الزمن، ولا يعيش بعيدا عن الناس، ولا ينغلق على ذاته، ويستخدم قدراته لخدمة الاخر، ويفكر بلغة التعددية، ويقبل بالتعايش والتسامح، ويمارس الحرية والعدالة، ولا ينسى أوجاع مجتمعه، بل يعمل على تحويلها الى آمال وطموحات للمستقبل المشرق. فالمثقف الحقيقي هو الذي يصنع الثقافة، وينقلها ويُعطي لها الحياة الجديدة، وينفخ فيها الروح الجديدة، ويعطي لها الحرية والحركة، وينقذها من الجمود، ويدفعها الى التقدم والنشاط والحيوية. فهو عند البعض مصلح إجتماعي وفيلسوف عصره. ولكن عند البعض الآخر، يوضع في أدنى المراتب، لأنه يشاطر السلطة، ويتملق لها، من أجل المال والجاه والثروة. وأما عند المتدينين المتطرفين فهو كافر ومتمرّد على الدين والاعراف والقيّم والتقاليد. يسعى للتغيير والتخلص من المواريث والأعراف القديمة، وينطلق من مرجعية غربية، وليس من مرجعية المجتمع، وقضاياه المصيرية. ولعل ما يميّز الشخص المثقف عن غيره من الاشخاص، هو في علاقته بالآخرين، وبالأشياء والأمور التي تدور حوله، بالاضافة الى علاقته بالمعرفة والفكر والقيّم والأخلاق. فلا يمكن القول بأن الشخص الفلاني مثقف بمجرّد أنه يكتب المقالات في الجرائد والمجالات أو يصدر المؤلفات أو يختص في علم من العلوم. ولا يمكن في الوقت نفسه القول بأن شخصاً ما هو مثقف بمجرّد أنه يتكلم عن الحداثة والتجديد. إذ ليس كل ما هو جديد يبني ويفيد، وإن كان مغرياً وجذابا. فالتغيير جيّد، ولكنه يجب أن لا يكون على حساب الجوهر والقيّم والأساسيات المعروفة. حاول الكثير من المفكرين والفلاسفة التمييز بين المثقف والمتعلم، وجاءت آراءهم مختلفة ومتشعبة. ويميّز الكاتب العراقي علي الوردي بين المثقف والمتعلم. فالمتعلم عنده هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره، وهو من إعتنق رأيا أو مذهبا،ً وأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيد رأيه أو مذهبه. أما المثقف فهو الذي يمتاز بمرونة رأيه وبإستعداده لتلقي أفكاراً جديدة والتأمل فيها والأخذ مما يجعله يتقدم ويتجدد معها. ويعتبر العلم من الضروريات الأساسية التي لا يمكن لأي مثقف أن يستغني عنه اليوم. لأنه يعتبر أداة الوصل بين الحضارات، وناقل الإبداعات الإنسانية من منطقة إلى أخرى. فعلى المثقف إذن أن يتابع كل ما يحدث في الساحة من النشاطات الفكرية والاجتماعية المختلفة. وأن يستفيد من المعلومات والمعارف الموجودة في بيئته وعصره لتحسين شروط حياته ورفع قدرته على التحكم بوجوده. فالعلم يبقى جزءاً مُتمّما لشخصية المثقف. ويعتبر من مكوّنات بناء شخصيته، والشرط الضروري لبناء فكره وثقافته. ولكنه ليس شرطاً كافياً، إذ كلما ازداد غنى المرء منه، كلما أزداد وعيه أكثر، واتسعت آفاق فكره وقدراته وطموحاته. فلا يمكن للمثقفين اليوم تجاهل مناهل المعرفة المختلفة في العلوم النظرية والطبيعية والاجتماعية والنفسية والكونية والعقائدية والسلوكية التي تشكل كلها معاً الوعاء الكبير للثقافة. وللبعثات الخارجية أيضا دور في نشأة المثقفين الذين يستطيعون من خلالها أن ينهلوا من تراث الشعوب الأخرى وحضاراتهم وثقافاتهم. ففي الإطلاع على حضارات وثقافات الآخرين، أهمية كبيرة لمعرفة تجارب الآخرين، وكيفية الاستفادة من خبراتهم الثقافية، بالإضافة إلى تعلم اللغات الاجنبية التي تجعل من مثقفينا، أقرب الى مناهل المعرفة الحديثة. ولا ننسى دور الكتب والمجلات والصحف على أنواعها وتعدد اتجاهاتها، ودور وسائل الاعلام السريعة في عالم الاتصالات الحديثة، التي غيّرت بيئتنا عن تلك التي عاش فيها آباءنا وأجدادنا. وجعلتنا نفرح مع الفرحين، ونحزن مع الحزانى والمتألمين. ففي الثورة العلمية والتكنولوجية، وسائط وقنوات تصب في حياتنا شئنا أم أبينا وتلح على عقولنا وتتحدانا كي نعيد النظر في تربيتنا وسلوكنا ومنظوماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن أهم وسائط الثورة التقنية الحديثة هي الانترنيت. وهي من القنوات العظيمة التي احتكرت الساحة العلمية والثقافية والاقتصادية، وأصبحت بمثابة الجامعات الفكرية في كل بيت وحارة. يسهل استخدامها بأسرع الطرق، ويمكن إقتنائها بأرخص الأصعار. وكذلك القنوات الفضائية والتلفزيونية التي أحدثت إنقلابا كاملا في التربية والتعليم، وفي التغلب على التخلف والأمية، ومعرفة العالم المحيط بنا، والتحقق منه، والتعبير عنه. وكثيرا ما يشكو منه الآباء والأمهات، بسبب صعوبة السيطرة على مشاهدته من قبل الاطفال والشباب. ولذلك يجدر بكل المؤسسات الثقافية والروحية والمسؤولين السياسيين والإداريين والآباء والأمهات، القيام بحملة توعية وتثقيف للأطفال والشباب بطريقة تجعلهم يقاومون تلك البرامج السيئة الصيت والتي تدعو إلى الهدم والتخريب، كالمشاهدات الخلاعية والجنسية، والأفلام التي تشجع على الجريمة، وتدعو الى الكراهية، وتعمل على غسل الأدمغة، للسيطرة على الأطفال والشباب وتوجيههم بصورة خاطئة ومعوجة. فالثقافة تخص الإنسان دون غيره من الكائنات الحيّة. وهي من حيث مفهومها كقوة متحركة، لا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا انتشرت، وكان لها تأثيرها في المجتمع الواسع. وبما أنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها، فهي ليست ملكا لفرد معيّن، ولا تموت بموته، ولا تنحصر في مرحلة مُحدّدة، بل تقوم على جمع فعاليات ونشاطات مجموعة من الأفراد في أزمان كثيرة. وأما بالنسبة إلى دور المثقف في المجتمع فهو دور واضح. إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يصنع ثقافة نزيهة وخاصة به من دون وجود مثقفين مستقلين، يهتمون بصنع ثقافة مستقلة. ولذلك يفترض بالمثقفين ان يستشعروا بهذه المسؤولية الخطيرة. ولكن يجب الحذر كل الحذر من الجهات التي تعمل على تعطيل دورهم في بناءها وتطويرها. ومن إحدى وظائف الثقافة المهمة، إيجاد الطرق والوسائل اللازمة لزرع نوع من الشعور الوحدوي، والتماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمعات البشرية. لأنه لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تميّزه عن مجتمع آخر، وهكذا بالنسبة الى كل فرد، إذ له ثقافته الخاصة التي تميّزه عن غيره من الأفراد. فلا وجود لثقافة حيّة وملتزمة، إلا بوجود مجتمع حيّ وملتزم. ولا يقوم مجتمع حقيقي ومتحضر، إلا بوجود ثقافة حيّة وملتزمة. وتؤثر الثقافة أيضا تأثيرا كبيرا في الفرد، إذ تنمي فيه القابلية في حب الآخر وفهمه، وحُب الطبيعة وإحترامها، وحُب الوطن وخدمته. وتضفي الثقافة على حياة الفرد قيمة ومعنىً، وتكسب لوجوده غرضا له أهميته، وتؤثر إيجابيا على إمكانياته، وتساعد على تحرير قواه وقدراته المتعددة. فالفرد الذي يقضي حياته في مجتمع ذي ثقافة مستقرة نسبيا، يشعر بأن شخصيته أكثر تكاملا من الشخص الذي يعيش في بيئة غير مستقرة نفسيا وسياسيا. ومن هنا ننطلق في بحثنا عن العلاقة بين الثقافة والشخصية التي هي علاقة جوهرية مُهمّة جدا. بالرغم من أن العلاقة بينهما تتناقض كليا، لأن الشخصية تتميّز بالتفرّد، وبتخصيص السلوك في مجموعة من السمات الجسمية والنفسية. بينما الثقافة هي كلها عطاء وخدمة وتضحية. فلا يمكن وجود شخصية من دون ثقافة، ولا يمكن وجود ثقافة من دون شخصية. ولما كانت الثقافة مُكتسبة، ولما كان الانسان، صانعها وباعثها ومُحركها. فالانسان إذن ينفرد من بين جميع المخلوقات بقدرته على صنع الثقافة والحفاظ عليها، كما ينفرد بتكوينه لشخصيته التي لا يشاركه فيها أي شخص آخر. ولا يُمكننا تجاهل أزمتنا الحالية في مجتمعاتنا الشرق أوسطية التي تبدو مُستفحلة ومُثقلة بالهموم. إذ يؤثر الفقر الثقافي فيها تأثيرا كبيراً سواء على الفرد وأخلاقياته وسلوكه، أو على عطائه في كل المجالات. مما يجعل من مجتمعاتنا، إتكالية إستهلاكية في كل شىء. فالمأزق الذي تمرُ به ثقافتنا اليوم من فقدان الهوية، وعدم القدرة على إمتلاك الرؤيا الشمولية، يجعل منها ثقافة كسيحة وغير قادرة على قيادة المجتمع. ولعل الأسباب المهمة في كل هذا الوهن والضعف، تتلخص في العلاقة السلبية بين الثقافة والسلطة، والمثقفين والسياسيين من جهة، والخلط الفضيع بين الدين والثقافة، وبين العلم والتخصص من جهة أخرى. ولطالما أعاقت السلطات والأنظمة، نمو وتطور الثقافة، وحاولت ربط الثقافة والمثقفين بدائرتها وبتضيق الخناق عليها، وبتوجيهها توجيهاً مُحدداً، لكي تجعل من الثقافة صوتها الخاص، ولكي تحوّلها إلى آلة مُسيّرة بيدها، تحركها كيفما ترغب وتشاء. ولاعجب ما نراه من خمول للثقافة، وحتى موتها في بعض المناطق، وذلك بسبب الممارسات القمعية واللاإنسانية لبعض الحكومات والسلطات التي تقوم بإقصاء المثقفين، وتهميشهم أو إتهامهم بالخروج من الدين وتكفيرهم في بعض الحالات. ولعل من أسوا الحالات التي يمرُ بها المثقف الحقيقي، هي عزله عن اداء دوره في عمليات التغيير، وإبقائه معزولا عن الشعب، وعن قول الحقيقة. وتحوّله الى مُجرّد موظف في المؤسسات الثقافية، أو مجرد أداة تحركها إرادة السلطة السياسية، مما يؤدي به الى فقدانه لدوره المستقل، وإبعاده عن اداء مَهامه الثقافية، وبالتالي موته كمُثقف ومُبدع. والعلاج في هذه الحالة هو في استقلال المثقفين وإعطائهم حريتهم في الكتابة وفي التعبير عن آراءهم، وتشجيعهم على ممارسة دورهم الثقافي والاجتماعي والحضاري، حتى يكون باستطاعتهم الإسهام في مستقبل المجتمع وآماله وطموحاته. لأن في فقدان الحرية يكون الخناق الحقيقي لأي فكر مُثمر ومُبدع. ولا عجب في عدم وجود الابداع بين كتابنا ومثقفينا، وذلك لإفقتقارهم الى الزاد الرئيسي للثقافة وهي (الحرية). وجدير بالإشارة أن النهضة الثقافية الحديثة، في مجتمعنا العراقي الحديث، تسير في الطريق الصحيح، ولاسيما في إقليم كردستان الذي أعطى المجال لكل أنواع الثقافات والحضارات، ولجميع شرائح المجتمع العراقي، وذلك بتأسيس المجالس الادبية والعلمية الاكاديمية، والجمعيات والنوادي الادبية والثقافية الحديثة التي تختص في نشر الثقافة والادب والعلوم، والتي إهتمت في جمع شتات المفكرين والادباء والصحفيين، بعكس العهد البائد الذي مارس سياسات الخنق والتضييق والتهميش للثقافة والمثقفين. والذي لم يكن يسمح إلا لبعض الملتفين حوله من المثقفين التجار والمبوّقين لسلطته الدكتاتورية الغشماء. والكل يعلم ما أدى بالساحة الثقافية والاكاديمية في العراق في تلك العهود السوداء، من هجرة المُبدعين والمتنوّرين وأصحاب الاختصاصات والشهادات العالية، وتحويل العراق الى سجن كبير لا يُطيقه الناس العاديون، ولا المثقفون الحقيقيون. ونشكر الله على تحريرنا وإنقاذنا من ذلك الكابوس المُرعب والمُخيف. ونتمنى بناء عراق فدرالي حُر وديمقراطي، يكون مُتسامحا مع الجميع، ومُتفتحا على الجميع.
الفصل الثالث
الثقافة واللغة من الاختلافات الكبرى بين الانسان والحيوان، قابلية الانسان على التكلم والتخاطب بلغة، بعكس الحيوانات التي تتصل أو تتفاهم فيما بينها من خلال الإيماءات والاشارات، وإدراك حالات الاهتياج والانفعال، وإصدار أصوات معيّنة للعثور على مكان أصلح للإنتقال اليه. وقد تكون الإشارات والأصوات التي تبديها الحيوانات مثيرة للإعجاب والذهول، ولكنها لا ترقى الى مستوى اللغات التي نطق بها الانسان، والتي ميّزته عن جميع الكائنات الحيّة الأخرى. ومع كثير من الوقت والتضحيّات الجسيمة وعلى فترات طويلة من الزمن، استطاع الإنسان، البقاء والتكاثر حتى ملأ ظهر الأرض بوجوده ونسله. وسيّطر على كل الحيوانات وسماها بأسمائها كما جاء في التوراة: ((هكذا أعطى آدم أسماء على كل الطيور والحيوانات والبهائم)) تك 2/20. ولم يكن تفوّق الانسان ونُصرته على الكائنات الحيّة الاخرى، إلا بقدرته العقلية والغريزية والنطقية، التي جعلته يجوب الأرض أكثر من مليون عام، وهو يلتقط الثمار ويصطاد الحيوانات. ولكن شيئا فشيئا إستطاع أن يُسيطر على الطبيعة المُحيطة به، ويُكيّفها لمصلحته، ويَتكيّف معها. وتذكر الأبحاث العلمية والمُكتشفات الأثرية، أن الشعوب البدائية، مارست التنقل والرعي، ولم يكن يتوفر لديها الوقت الكافي لتقوم بتطوير أي شىء، بإستثناء عدد ضئيل من العناصر، لكي تؤمن الاتصال فيما بينها. وعندما إستقرت، مارست الزراعة والتدجين وحراثة الارض وجني المحاصيل الزراعية. فإنخفضت نسبة الترحال لديها، وبدأت لغتها تتطور وتنمو بالتدريج. وتتميز منطقة وادي الرافدين بكونها الموطن الجغرافي الأول للإنسان المُتحضر، الذي بدأ بتأسيس حضارته وثقافته، حينما صنع أدواته الحجرية والخشبية والمعدنية، التي استعملها بذكاء في آثاره الفنية والدينية والثقافية، وأظهر من خلالها انفعالاته وعواطفه وتأملاته في الكون والوجود والحياة. وحَقق الانسان الرافديني القديم تطوّرا كبيرا في بُنيته الحضارية، عندما إستطاع صنع أدواته بتقنية أكثر تطوراً جيلاً بعد جيل. وأزداد تناسله وتوطد رخاؤه الاقتصادي، حينما إتقن الري والزراعة. وتجلت حاجته الى تسجيل نشاطاته الدينية والتجارية والزراعية. فالزراعة إذا لعبت دورا بالغ الأهمية في حياة الانسان الحضارية والثقافية، لأنها أدت الى ظهور الفاعليات التجارية، بالاضافة الى ظهور الحاجة الماسة الى الكتابة والتدوين، بإستخدام الأشكال الطينية والرقيمية لتوصيف منتجات الزراعة من حبوب وفاكهة وزيوت، وغير ذلك من العمليات التجارية المتعلقة بها. وتمركزت الكتابة السومرية التي يُطلق عليها المسماريةCuneiform ، في الهلال الخصيب، منذ قرابة 5500 سنة. وبدأت كحاجة مجتمعية، ومن ثمّ حاجة انسانية عامة، انعكست على تطوّر المجتمعات البشرية إيجابيا، وشكلت طفرة حضارية وثقافية هامة جدا في التاريخ البشري، أدت الى توثيق التقدم في كل مجالات تطوّره، عبر تحريك الكلام من العالم السمعي والشفهي، الى العالم الحسيّ والمدّون. ولما كان حُب الاستطلاع، وإكتشاف المجهول، والتفكير المنطقي، من أهم خواص الجنس البشري. فمن الممكن إعتبار التدوين بحسب العلماء والمختصين، إنجازا كبيرا أبدع فيه الانسان، فأصبح كنزا وذخرا أبديا، أوصل البشرية الى عصر الصناعة والالكترون والفضاء والثورة المعلوماتية والاتصالاتية. وقد اكتشفت أقدم وثيقة تتضمن كتابة صورية في مدينة أوروك (الوركاء) العراقية، التي تعود إلى نهاية الإلف الرابع ق. م. ولم ينفرد أهل ما بين النهرين في هذا المجال، إذ بَرع المصريون أيضا، وإستخدموا الكتابات والنقوش التي تشمل السلطة والدين والزراعة والتجارة والفلك والعلاقات الاجتماعية. ولابد من تقديم الشكر الجزيل للعالم الفرنسي (جان فرانسوا شامبليون) الذي إستطاع بخبرته وجهوده العلمية، فك رموز اللغة المصرية الهيروغليفية التي تتكون من الرموز Logographic ، وهي بحسب علماء اللغة، تتكون من عدد كبير من النقوش والصور الرمزية Pictograms . فالحضارة السومرية البابلية، والحضارة المصرية الفرعونية، لهما الفضل الكبير إذن في نقل البشرية من ظلام الأمية الى نور المعرفة بأنواعها المختلفة، وفي الكشف عن نمط حياة وتفكير أجدادنا، وفي تقديم الدلالات الاولى لبداءة نشوء الحضارة على إختلاف أنماطها الاقتصادية والدينية والثقافية والتشريعية. ولم تكتفِ الحضارة السومرية بإكتشاف الكتابة، بل دعت الى دراستها وتعلمها وتدوينها، وأسست مدارس خاصة لتعلمها وتدريسها ونشرها. وكان التعليم في تلك المدارس يشمل فروعاً من العلوم والمعارف الاخرى، كالرياضيات والفلك والطب والأدب والموسيقى وغيرها من العلوم. وإهتم السومريون أيضا بتأسيس المكتبات لحفظ المدوّنات، كما هي الحال في مكتبة آشور بانيبال التي تعد من أهم وأكبر المكتبات التي عرفها التاريخ البشري القديم. وكان التدوين ضرورة تاريخية وحضارية لا مثل لها. ولهذا يشير البعض من المؤرخين على أن: التاريخ بدأ حينما بدأ الانسان بالتدوين. ويؤكد معظم العلماء والآثاريين في الغرب، ومنهم المؤرخ (توينبي) والعالم الفرنسي (جورج تات) والعالم (ج والتر أونج) من أن الكتابة حققت التواصل الفكري بين البشر، وأظهرت قدرة الانسان على الخلق، وأدت الى تغيير في الوعي الانساني أكثر من أي إختراع آخر. وبالرغم من قدم اللغة المدوّنة، إلا أنها تعتبر حديثة العهد بالنسبة الى اللغة المنطوقة، التي كانت وما تزال، الوسيلة الأهم في تسهيل أمور الناس، ومساعدتهم في التواصل والتخاطب، وفي نقل الثقافة والحضارة من جيل الى آخر. وفي خلق الروابط الاجتماعية بين أفرد المجتمع الواحد، من أجل تيسير الحياة الجماعية التي يستحيل بدونها قيام العمل الاجتماعي الموحد. ولذلك أصبحت اللغة برموزها اللغوية المرتبة والمنظمة، من أهم الوسائل للتخاطب والتواصل البشري، وفي انتقال الحضارة والاكتشافات والاختراعات البشرية من جيل الى آخر، ومن منطقة الى أخرى. وقد دأب البشر منذ القدم الى تعلم اللغة وتدريسها، والإستفادة منها في حوارهم مع الآخرين، وفي تبادلهم الحضاري مع الثقافات الاخرى. وكان التواصل يتم في حالتين، الحالة المنطوقة والحالة المكتوبة. واحتلت الحالة المنطوقة المكانة الاولى دائما، وتلتها الحالة المكتوبة التي أوثقت تراث وتقاليد وتواريخ وفعاليات البشر. وتبقى اللغة، العامل الأهم في نقل الرموز والألفاظ والكلمات، والوسيلة الحضارية الرائعة لنشر الأفكار وتسهيل الحياة، وإيجاد الروابط الضرورية بين أفرد المجتمع الواحد. وهي قديمة قدم الإنسان، وقدم حضارته. لولاها لما أستطاع الإنسان أن يسود على كل ما حوله، ولما كان في مقدوره صنع حضاراته وثقافاته التي توارثناها من جيل إلى جيل. ويؤكد المؤرخ (وول ديورانت) في قصة الحضارة الجزء الاول والثاني، على أن العلوم البابلية انتقلت الى اليونان وروما والاوربيين والامريكيين والى غيرهم من الشعوب الاخرى. وما أسماء المعادن وأبراج النجوم والموازين والمقاييس والآلات الموسيقية والكثير من العقاقير، إلا تراجم لأسمائها البابلية. ويؤكد العلماء والانثروبولوجيون أيضا على أن اللغة هي مجموعة من الرموز والحركات أو مجموعة من الصور الذهنية التي ترتسم في عقولنا وتطبع فيها آثارا تبقى الى يوم إنتقالنا من هذه الحياة. فهي إثبات لوجود الانسان، لأنها تخصه دون سواه من باقي المخلوقات، وتميزه عن الكائنات الحيّة الاخرى. وفي تعريف معظم الباحثين اللغويين حول اللغة بأنها: نتاج اجتماعي لملكة اللسان ولمجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما لكي يساعد افراده على ممارسة هذه الملكة. ولكن عملية النطق لا تتم باللسان بل بالفكر لأن المقاطع التي ينطق بها المرء انما هي انطباعات صوتية تدركها الأذن. وليس لهذه الأصوات وجود لولا أعضاء النطق كما تؤكد العلوم اللغوية(علم اللغة العام تأليف: فرديناند دي سوسور: ترجمة د. يوئيل عزيز ص28 ). وكان العالم القديم يشهد صعوبة كبيرة في نقل الكلمة عن طريق الرسائل عبر البحار والجبال الشاهقة قديما، إلا أن اليوم وبفضل الطائرات والسفن والهوائيات الشاهقة والالكترونيات، حُلت تلك المشاكل القديمة الى حد كبير. إذ بوسع الانسان اليوم نقل الكلمات عبر الحدود في غاية اليسر والسهولة. وتلعب وسائل الاعلام دورا عظيما في ذلك. وما نتمناه أن يكون الاعلام أكثر إيجابية في نشر الثقافة والمعرفة والسلام والتقارب والمحبة والتسامح. فاللغات هي المظهر الأكثر أهمية في أي حضارة، لأنها تتشكل من الدلائل للمعاني الحيّة التي تحمل النبض والمعنى والحركة. واللفظة التي ينطق بها الانسان هي الواسطة الشاملة الوحيدة للإتصال والتفاهم. إذ يجتاز الكلام الناتج عن الانسان كل العقبات ومن دون خط اتصال مع السامع، ومن دون الحاجة الى الضوء، كما تعتمد الاشارات البصرية. ومن الواضح جدا أن العلاقة بين اللفظ والمعنى وثيقة جداً، بحيث لا يمكن لإحداها أن تتبلور وتعيش إلا في كنف الاخرى. ولذلك تبقى الكلمة روحاً حيّة متحركة، تحمل أوجها متعددة تنبض بالحياة أبداً. ومع كل ذلك فإن الكلمة بمفردها لا قيمة لها، لأن الكلمة المفردة تذبل وتموت مثل أوراق الخريف، إذا ما لم تأخذ موقعها في الصيغة والجملة. ولذلك فالكلمات المرتبة بصيغ جميلة لها وقعها الرائع والحسن في القلوب. فإذا تحرّكت، حرّكت معها الأفراد والشعوب والأمم والجبال والسيوف والعواطف والمشاعر والهمم. فهي القوة التي تحرك الجبال من مكانها وتشعل الحروب وتطيب الخواطر وتلهب المشاعر وتصنع المعجزات. وهذا يدل على أن المجتمع البشري يلتحم باللغة إلتحاما عميقا، إذ ليس ثمة انسان اعتيادي مجرّد من هذه القابلية التي ما أن تحل عليه حتى تصاحبه بصورة دائمية، وتظهر من خلال سلوكه وتصرفاته اليومية. فلا يستطيع المرء من خلالها، التعبير عن نفسه، والتفكير مع نفسه، والابداع في الاشياء التي يصنعها أو يخترعها والامور التي ينتجها أو يكتبها. ولذلك تصرف الدول أموالا طائلة لتشجيع أبناءها في تَعلم اللغات الأجنبية. ونستنتج من كل ذلك أن اللغة كانت وما تزال، أهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية والذات والشخصية. فهي مليئة بوقائع الحياة وتجارب الماضي وتخيّلات المستقبل. وتعتبر اللغة بحسب ما تثبته الدلائل التاريخية والثقافية بكونها الوسيلة الوحيدة للتفكير والتعبير عن الأمور الخارجية والداخلية للإنسان، وعن مشاعره الجياشة، وحُبه ولوعته، وغضبه وكرهه، وميوله وطموحاته. وتدل الدراسات العلمية على أن اللغات في العالم يتجاوز عددها 10000 لغة. وبالرغم من ضخامة هذا العدد، إلا أنها تنقسم بدورها الى لغات أو لهجات فرعية عديدة. وهي تتألف من مجاميع لغوية كبيرة ترتبط بالمجموعات العرقية في حُقب تاريخية بعيدة. وتعاني عدد كبير من اللغات اليوم من محنة البقاء والاستمرار، بسبب العولمة التي من الممكن أن تقضي عليها بالفناء والموت المحتوم. إذ تشير التقارير العلمية الصادرة عن الباحث الفرنسي في اللغات (كلود هاغيج) بأن: العولمة تسبب في موت 25 لغة من لغات العالم كل عام. وفي نهاية القرن 21 سيختفي نصف لغات العالم إضافة الى ما تجريه وسائل الاتصال الحديثة من تسريع في ذلك. وما نأسف له حقيقة هو ضياع واندثار عدد كبير من هذه اللغات التي تشكل خسارة كبيرة للثقافات البشرية. إلا أن قانون الغاب أو بالاحرى قانون البقاء للأصلح، قد بدأ يظهر مفعوله وعمله في غربلة اللغات، لإبقاء الأصلح منها في المستقبل. وعلى لغاتنا المحلية أن تأخذ حذرها واحتياطاتها الضرورية في كيفية صيانة وتطوير لغاتها قبل أن يفوت الأوان. ولهذا تحتاج اللغات الى التطوير والتجديد حتى يكون في مقدورها مقاومة التطورات الجارية في العالم. ولا يتم ذلك إلا من خلال تنشيط الثقافة اللغوية الايجابية، وإحداث تغيير جذري في الخطاب الديني والثقافي والسياسي، واستكمال المعرفة اللغوية، وتقدير مستواها وقابليتها لقبول المفردات الجديدة، وتشجيع البحوث اللغوية ورعايتها بإصدار المجلات والدراسات المهتمّة بمدى مقاومتها للظروف والتحديّات الجديدة. فالثقافة واللغة إذن يحتضنان بعضهما بعضا، ولا يمكن لثقافة مهما كانت عريقة وفعالة أن تبقى وتصمد من دون أن يكون هناك لغة حيّة تحملها على جناحيها وتنشرها في العالم. وقد جاء مصطلح الثقافة، بصورة متداولة في تاريخ اللغات العالمية وبصيغ مختلفة. ورافق استخدام الثقافة إضطراب وخلط كبير، سواء في اللغة العربية أو في اللغات الاخرى. وينتشر مفهوم (الثقافة) في اللغة العربية اليوم، إنتشارا واسعا. ففي قاموس(لسان العرب)، نجد أن كلمة الثقافة تنتسب الى فعل ثقف، والذي يدل على الحذق والفهم، وسرعة التعلم وثبات المعرفة. وأكثر ما تركز عليه المعاجم اللغوية، هو التأكيد على معنى الحذق كجذر وأصل لكلمة الثقافة. وأكثر ما توضحه تلك المعاجم هو أن (اللغة) تعتبر الخادمة والحاملة لمشعل الثقافة الى جميع أقاصي الارض. فعلى المهتمين باللغات مسؤولية كبيرة، وخاصة في سياق التحوّلات المعاصرة والتحديّات الجديدة، التي تفرض على اللغة واقعا جديدا من فرض نموذج ثقافي مهيّمن، وإلا فسوف تنطبق علينا مقولة (ابن خلدون)، عن ولع المغلوب بتقليد الغالب. وحينها نقرأ السلام على لغاتنا وثقافاتنا، فتبقى محجوزة ومخزونة في المعاجم والمخطوطات والمتاحف.
الفصل الرابع الثقافة والحضارة حاول الانسان منذ بداية وجوده بتطوير قابلياته وإمكانياته وذلك باستخدام ما توفره الطبيعة من الماء والهواء والنار والتراب. ولا شك في أن الانسان إحتاج الى مستوى معيّن من النظام، أينما عاش، وفي أي مجتمع أو بقعة جغرافية. وتثبت الدلائل التاريخية على وجود نوع من أنواع الحضارة لدى الانسان القديم، ونوع من أنواع الضوابط والتشريعات. ولهذا نستطيع القول بأن الحضارة الانسانية الحديثة، إنما تعود بجذورها وأصولها الى ما قام به الانسان القديم من إكتشافات للنار بإستعماله للتدفئة والطبخ، وإكتشاف الحديد وتصهيره، وإكتشاف الري والزراعة، وإختراع الحروف الأبجدية، وغيرها من الاكتشافات والاختراعات الأولية التي بنى عليها الإنسان حضارته البدائية، وطوّرها إلى أن قادته الى التمدّن الذي نشاهده اليوم. وقد أثارت الحضارات القديمة، الرغبة الشديدة ولقرون عديدة خلت، في معرفة الصورة الوافية للثقافات الاولى، التي كانت تمارس فيها حياة القنص وجمع الغذاء، وتدجين النباتات، بفضل الري والزراعة، والقدرة على إنتاج كميّات أكبر من الطعام مع بذل جهد أقل، مقارنة بالجهد الذي كان يبذله الانسان القديم. وكانت الثورة الزراعية المرحلة الجديدة والمهمّة في حياة الانسان، لأنها بيّنت قدرته على صنع الثقافة الخاصة به، وما يتبعها من صنع المكائن، وترويض الحيوانات، وتأسيس المدن، واختراع الوسائل المختلفة، من فنية وصناعية واقتصادية، واختراع اللوازم الضرورية لإسعاد الفرد والمجتمع، عن طريق سلسلة من المراحل التي بدأت بتطويّر الاقتصاد، وتطوير العلم والأخلاق، وتحقيق الذات الفردية والاجتماعية، والنضال من أجل الكرامة والحرية والاستقلال. ويكفي الانسان فخرا واعتزازا، بكونه صانع كل تلك المدنيّات ومهندسها المُبدع، الذي ناضل منذ بدايات العصر الحجري القديم، للتكيّف مع البيئة المُعقدة والمُعادية، محاولا إكتشاف ذاته عبر تصرفاتها القاسية. فإعتبرها الأم التي تعطي الحياة، وتعامل معها بالطرق الملائمة أحيانا لترضية طموحاته اللامتناهية، وبالطرق العنيفة والقاسية أحيانا أخرى، بسبب سلوكها القاسي والمُدمّر. وبالرغم من أن الثورات الزراعية والصناعية والتكنولوجية، ساهمت في تطوير قابليات البشر وتمدنهم، إلا أنها أثرت تأثيرا سلبيا وبالغا على البيئة والطبيعة والمناخ. إذ قضى الانسان على ملايين الدونمات من الغابات والأراضي الزراعية، وحولها الى مشاريع سكنية وعمرانية لتدر له ربحا أكثر غزارة. وقضى الانسان كذلك على عدد كبير من الطيور والحيوانات والحشرات والنباتات النادرة. وأدت تصرفاته العشوائية والغير المسؤولة الى انتشار مساحات الصحراء في كثير من البلدان والمناطق الجغرافية، والى نضوب المياه الجوفية والأنهار والبحيرات، وإتساع ثقب الأوزون في طبقات الجو، وإرتفاع مناسيب المياه في البحار والمحيطات. فالحضارة Civilization التي نتنعم من خيراتها وانجازاتها العظيمة اليوم هي نتيجة جهاد طويل وشاق جدا. بدأت مع بداية الانسان في تكوينه الحضاري، عندما استخدم الأيدي في الحصول على الغذاء، وإستعمل الحجارة للدفاع عن نفسه. وتعلم كيفية الربط بين النظر وقذف الحجر، وكيفية تشكيل الحجر وشظفه وقطعه، مع استخدامه للأدوات الاخرى، من مواد هالكة كالأخشاب والعظام، كسهام وحراب ذات النصال الحجرية. وجدير بالاشارة أن الصناعات الحجرية وصناعة إبرة الخياطة من العظام الدقيقة لعمل الملابس والقوس والسهم، تمثل مرحلة متطوّرة ومهمّة بالنسبة الى الانسان القديم في تأسيسه للحضارة. وتشهد تلك الفترة أيضا استخدام الانسان للكهوف، كمساكن وأضرحة ومدافن لموتاه. ويظهر من خلال التاريخ أن الانسان في تلك الحُقب الجيولوجية السحيقة، هو الانسان الحيوان أو الانسان الشبيه بالبشر. وتسمى مرحلته الحياتية بالمرحلة الوحشية. وتلتها المرحلة البربرية وهي الفترة التي بدأ فيها الانسان بإستئناس الحيوانات، وإستخدام الارض للزراعة، ولكن من دون أن يعرف فيها أية لغة مكتوبة، فيما عدا بعض الرسومات البدائية في الكهوف والمغاور. وتلتها بعد ذلك، المرحلة المدنية. وهي مرحلة إكتشاف المعادن كالنحاس والبرونز والحديد وصهرها واستخلاصها، واكتشاف الأحرف الأبجدية، وإنتقال الانسان من طور القنص والصيد، الى طور الفلاحة والزراعة التي إعتمدت على الري للحصول على القوت اليومي. وكانت تلك الفترة مظهرا من مظاهر التمدّن والازدهار البشري، إذ بدأ الانسان بزرع كميّات تزيد عن حاجته المعاشية، فصار يخزن الغلة، ويحافظ عليها، كمصدر مُهم للرزق والثروة. ومن هنا بدأ الفكر التجاري يُسيطر على عقله، وبدأ يَطمح بالحصول على الاراضي الشاسعة للزراعة، سواء بشراءها أو بالاستيلاء عليها عن طريق القوّة أو شن الحروب. ومع أن الكيانات الحضارية القديمة، قدمت خدمات جليلة للبشرية في تلك الفترة، إلا أن روحا إستبدادية وطاغية كانت تهيّمن عليها، مما جعلتها في تنافس وصراع شديدين فيما بينها لغرض السيطرة على بعضها البعض. ولم يكن غرضها يوما خدمة الشعوب المغلوبة، بقدر ما كان غرضها إتساع رقعتها الجغرافية، وتأمين المنافع الجزيلة لنفسها، وبسط سيطرتها على تلك الشعوب والأمم. وبالرغم من كل الشرور والسلبيات التي نتجت عن الحروب والغزوات والفتوحات، إلا أن الحضارات القديمة ساهمت في الحقيقة على الصعيد التاريخي، بنقل الصور المُتعددة من التفاعل الحضاري والثقافي والتي تطورت الى تحقيق الحضارة الانسانية التي تجمع في طيّاتها كل الأفعال والنشاطات والفعاليات الشعبية والفكرية والثقافية والدينية والفنية. مع تطوّرات أخرى كثيرة أدت الى إخراج الكثير من الشعوب البشرية من المرحلة الوحشية والبربرية، الى المرحلة المتمدّنة، وبصورة تدريجية. فالمفهوم (الحضارة Civilization ) مع أنه بدا واضحا وجليّا لدى معظم علماء الاجتماع اليوم، إلا أنه لا يزال يثير اختلافات كثيرة من حيث التعريف والتحديد مقارنة مع المصطلحات الأخرى كالثقافة والسياسة والآيديولوجية. والمعنى الحرفي لكلمة الحضارة يعني ((ساكن المدينة Civilitiesـ Cities))، أي الاقامة في الحضر أو المدن بخلاف الريف والبداوة. ولذلك يطلق مفهوم الحضارة على مظاهر التقدم والرقي في جميع الميادين الثقافية والعلمية. فهو مرادف لمفهوم الثقافة Culture ، ويشمل كل مظاهر الحياة في المجتمع، مع جميع التجارب الاجتماعية والسياسية والفكرية للفرد والجماعة، وكل أبعاد التقدم والابداع، ومن جميع الجوانب الثقافية والاجتماعية والفنية والعمرانية والقانونية والروحية. وقد يسأل المثقفون عن الفرق بين الحضارة والثقافة، وبين الحضارة والآيديولوجيا كمفاهيم ومصطلحات. وقد يكون الجواب صعبا وغامضا في بعض الأحيان، بسبب التداخل العميق في مفهوم تلك المصطلحات. ولعل الفرق الرئيسي والواضح يكمن في إطلاق مصطلح الثقافة على الطابع الفردي وعلى النشاط العقلي والنتاج الروحي للفرد، والذي يشمل مختلف صنوف الإبداع والفكر السياسي والفلسفي والديني مع التراكمات الثقافية من الادب والفنون والموسيقى. وبينما يطلق مفهوم الحضارة على جميع المظاهر والاتجاهات والمجالات من الآثار المادية لأمة من الأمم كوسائل الانتاج والتكنولوجيا والعمارة والملبس. ويرى العلماء من خلال هذه النظرة بأن مفهوم الحضارة أعم وأشمل من مفهوم الثقافة. ويشيرون الى أن في كل حضارة جانبين، جانب مادي وجانب لامادي. في حين أن الثقافة تشمل فقط الجانب اللامادي. ولذلك تبقى الثقافة مظهرا من مظاهر الوعي الحضاري الذي يستوعب الإنسان من خلالها كل ما يدور في العالم، وتؤهله لكي يكون منسجما مع الواقع، وشفافا في التعامل مع الآخر، ومتفهما معه بالرغم من اختلافه في أمور كثيرة. ومن الطرق المهمة جدا في انتقال الثقافة والحضارة من جيل إلى جيل، هي التنشئة الاجتماعية التي يتم من خلالها تشكيل الأفراد منذ طفولتهم لتمكينهم من المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة. وبذلك تضمن الثقافة استمرار حضارة المجتمع، وصيانة قيمها وتقاليدها، وكافة أنماط السلوك والعناصر الثقافية فيها. وجدير بالانتباه إن الكثير من العلماء والباحثين يميزون بين الحضارة والثقافة إلا أن البعض منهم يرفضون التمييز، ويعتبرونه جهدا مصطنعا سببه الترجمة من اللغات الاجنبية. وأن اللفظتين (الحضارة والثقافة) بحسب رأيهم، هما بمعنى واحد. ويؤكدون على أننا لا نستطيع أن ننظر الى حضارة مادية وحدها، مجرّدة مما لها من الآداب والفنون والتراث والفلسفة. ولهذا فإن البعض من العلماء، يجيزون تعريف الحضارة بإسلوب يجمع بينها وبين الثقافة. ولعل المناهج الأمريكية هي الأولى التي فصلت بين المفهومين بصورة واضحة، وركزت بوضوح على الثقافة التي تدل على الابداع الادبي والفني والعلمي والفلسفي والروحي، وعلى مفهوم الحضارة الذي يدل على المظاهر المادية والاقتصادية مع جميع الانجازات العلمية والتقنية والفكرية. فالحضارة إذن هي الثقافة (Culture) بالمعنى الواسع للكلمة. ولكن مع وجود تمييز واختلاف بينهما فيما يتعلق بالأمور الذهنية بالنسبة الى الثقافة. وبالأمور المادية بالنسبة الى الحضارة. ولهذا غالبا ما تعرّف الحضارة على أنها: الإطار العام الذي تشترك فيه الثقافات المختلفة، وجميع مكوناتها من اللغة والعادات والتقاليد والفنون والفلكلور والأفعال والامكانات الاجتماعية التي يستحصلها الانسان من خلال امتلاكه لكل الوسائل التي تكوّن الوجود المستمر لأمة ما أو لشعب من الشعوب. أو هي بحسب علم الاجتماع: المُركب المتجانس من الذكريّات والتطوّرات والقيّم والرموز والمتغيّرات والإبداعات التي تحتفظ بها الجماعة البشرية بهويّتها الحضارية في إطار ما نعرفه من تطوّرات بفعل ديناميكيتها الداخلية، وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. ولذلك فالحضارة بكل مكوناتها وفعالياتها، بحسب معظم الباحثين والمختصين هي الثقافة الديناميكية الحيّة التي يجب أن يظل مشعلها مضيئًا في كلِّ الأجيال والعصور. وتستمد تطورها وإبداعها من الديناميكية ذاتها، على نحو يُحافظ على خصوصيتها. وقد اعتمدت كل حضارة عبر التاريخ على غيرها من الحضارات كما حدث في الماضي مع الحضارة العربية الاسلامية، التي اعتمدث كثيرا على الحضارات الاخرى كاليهودية والفارسية والاغريقية والسريانية في نمط البناء والفنون والأحرف الابجدية. وكما حدث أيضا في القرن العشرين بالنسبة الى الحضارات في الصين أو اليابان أو كوريا الجنوبية التي إعتمدت على غيرها من الثقافات والحضارات، وقلدتها في كثير من الأمور الصناعية والفنية والاقتصادية والاجتماعية مع احتفاظها بخصوصيتها وتقاليدها ومقدساتها. وقد اعتمدت التعريفات القديمة للحضارة، كثيرا على المفاهيم المحلية والضيّقة. ومنها تعريف (رالف بيدينغتون) الذي وصف الحضارة: بأنها مجموعة من الادوات المادية والفكرية التي يستطيع بها ذلك الشعب، اشباع حاجاته الحيوية والاجتماعية ويُكيف نفسه لبيئته. وكذلك تعريف (ادوارد تايلور) الذي وصفها أو عرّفها: بأنها ذلك الكل المركب الذي يحتوي على المعلومات والمعتقدات والفنون. وكذلك تعريف (وول ديورانت) مؤلف (قصة الحضارة)، الذي عرّف الحضارة بأنها: نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وتتكون من عناصر أربعة هي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون. وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين استخدموا المفردات المختلفة للتعبير عن معنى الحضارة، ولكنهم يجمعون على رأي واحد مع الاختلاف في استعمال المفردات. وجدير بالاشارة أن ما يتركز عليه مفهوم أي حضارة في العالم هو الطاقة البشرية الفاعلة، وذلك بالمثابِرة المستمرة للقدرات العقلية والفكرية والنفسية. فالعقل النيّر هو الاساس والمقياس الحقيقي لبناء ونشوء الحضارات، مع فتح الآفاق العلمية التي أدت الى ممارسة القابليات الذهنية في عملية التعلم والتعليم. وأما المقومات المادية والطبيعية كالماء الوفير والمناخ المعتدل والأرض الزراعية الخصبة التي اعتمد عليها الانسان، واستخدمها في تحقيق النمو الاقتصادي والنهضة الصناعية والتقنيات التكنولوجية، فلها ضرورتها وأهميتها أيضا، ولكن ليس بالاهمية نفسها كالقابليات العقلية والفكرية. إذ نجد كثيرا من البلدان التي تتوفر فيها كل هذه المعطيّات المادية والطبيعية، ومع ذلك يصيبها التخلف والخمول في كل شىء. بينما تفتقر بعض الدول الى تلك المصادر، ومع ذلك تتطور في جميع الميادين العلمية والتقنية. ولهذا فإن الانفتاح الفكري والثقافي، هو ضرورة حتمية لأي تطور ونهضة في المجتمعات البشرية. إذ يحث المجتمع ويدفعه الى البناء والنهضة والازدهار، على مستوى الفرد والجماعة. ولكن الانغلاق الفكري، وبفعل التطوّر السريع في جميع الميادين، أصبح اليوم أمرا مرفوضا وغير مقبول. لأنه يقيّد الفرد والمجتمع، ويُبقيه متخلفا، حتى ولو إمتلك كل الموارد الطبيعية والبشرية. ولعل من أهداف الحضارة الانسانية المعاصرة الجوهرية والمهمّة، ايجاد السُبل الكفيلة لإيصال التقنيات التكنولوجية الى أكبر عدد ممكن من البشر، سواء عن طريق الانترنيت أو الشبكات الفضائية أو الاتصالاتية. ومما ساعد على تحقيق هذا الهدف، هو التقريب في المسافات، وإزالة الحواجز العرقية والدينية والجغرافية بين الأفراد والشعوب والدول. فالحضارات السابقة كانت إما زراعية ترتكز على تربية المواشي وجمع الطعام وزرع البذور والحبوب والأشجار بأنواعها. أو كانت تدعو الى الصراع والحروب والسيطرة على مقدرات الشعوب الاخرى. أو كانت مُشبعة بالأفكار السياسية والآيديولوجية، كما شهد القرن العشرين، نشوء المعسكر الغربي الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والمعسكر الشرقي الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الوسط المسمى بمعسكر عدم الانحياز. والتي أدت الى نشوء معسكرات اقتصادية وسياسية متنافسة، أوصلت البشرية الى فترات حرجة جدا، كادت تقضي على وجود الجنس البشري بأكمله. ومن الأسباب والعوامل التي أوصلت البشرية الى تلك المرحلة الحرجة، إهمال الآخر كفرد، وإعتباره وسيلة للوصول الى المُثل العليا، وليس كغاية له قيمته وكرامته. بالإضافة إلى ذهنية العدوان والكراهية ضد الآخر كوسيلة لضمان المصلحة الذاتية. وعقلية النهب والسلب لخيرات الشعوب المغلوبة ومحاولة طمس حضاراتها وثقافاتها العريقة. ولم تؤدي تلك العوامل كما هو واضح من خلال التاريخ، سوى الى دورة متواصلة من العنف والكراهية التي لا تنتهي إلا بالإعتراف بالآخر، وبوجوده وبآراءه وأفكاره. وتأسيس الاحترام الانساني المتبادل بمعزل عن الأنا والكبرياء والقناعات الذاتية المفرطة. مع تأسيس الفهم الانساني القائم على الحوار والتواصل الحضاري مع الآخر، والذي يحول دون الصدام والتضارب. فكل الحضارات التي سلبت الحرية الفردية وطعنت في حقوق الانسان، وعملت على سحق الفرد على حساب الدولة والمجتمع والدين، كانت في الحقيقة حضارات استبدادية فاشلة. وثبت التاريخ والواقع فشلها وتحقيق إندثارها. وما لم تستطع كل تلك الحضارات القديمة النجاح فيه، نجحت فيه الحضارة المعاصرة التي تختلف في فعالياتها ومفاهيمها وممارساتها عن الحضارات السابقة في الفكر والاتجاه والنظرة الى الآخر. وتبدو الحضارة المعاصرة راسخة الدعائم، وثيقة البناء، أكثر من أي وقت آخر. وإن بدت لا دينية المظهر في تطبيقاتها وممارساتها، الا انها ليست بعيدة عن الدين بروحها وارثها وخصائصها. إذ أن الحضارة المعاصرة تشترك مع معظم الأديان في الغاية الرئيسية، والنظرة المستقبلية البعيدة، وذلك بجمع شمل الأجناس البشرية، وانجازاتها المختلفة في مضلة كونية واحدة، تتجاوز حدود الأعراق والأديان والثقافات. وما يدعونا للفخر والاعتزاز اليوم هو توفر هذه الأجواء في جميع الثقافات والأقطار للعيش في بيئة حضارية واحدة، من أقصى الشرق في اليابان الى أقصى الغرب في الولايات المتحدة، ولتحقيق كيان بشري واحد، عوضا عن بشريات متعددة. وحضارة انسانية واحدة بدلا عن حضارات متعددة منفصلة، كما كان في السابق. ومن الممكن تحقيق هذا المفهوم، بالرغم من الخلافات والاختلافات في القيّم والمعتقدات، وبالرغم من البحار والمحيطات التي تفصل بين الدول والقارات، والتعقيدات الكبيرة في مستوى الفهم والادراك، والتوترات العميقة في العلاقات الدينية، وضعف الحوار بين الاديان والثقافات. فالمفهوم الجديد للحضارة المعاصرة، يُركز على كل الثقافات والأديان والتقاليد الشعبية، بالاضافة الى القدرات الذهنية والفكرية لكل الأجناس البشرية، وذلك بتوحيد العالم عبر السوق والتقنية، وخلق التجانس الثقافي والحضاري، وتحرير المجتمعات البشرية من الجهل والتخلف، وقيادتها عن طريق سلسلة من المراحل، يتداخل فيها تطور الاقتصاد مع تطور الفكر والعلم والتقنية الحديثة، وإجتماع كل الأعراق البشرية في أسرة واحدة، من دون تمييز في اللون والعرق والجنس والمذهب. وتشكيل الحضارة الكونية الواحدة التي مجالها الكرة الارضية، بحيث تكون نتاجا متجانسا لكل الحضارات الانسانية القديمة. ولا نستغرب من الانتقادات اللاذعة التي توجه دائما من قبل بعض المتدينين ورجال الدين، مع كثير من المثقفين التقليديين بسبب الجوانب السلبية الواضحة للحضارة الانسانية المعاصرة، ولاسيما في الجوانب الروحية والاخلاقية أو الجوانب اللامادية. إذ تتهم الحضارة الحديثة بكونها إلحادية الإتجاه والهدف، غايتها التسلل الى عقول وقلوب البشر من دون استئذان، ولا رقيب دولي. تنحو بإتجاه محو ذاكرة الشعوب، وإفراغها من انتماءاتها وأصالتها وانظمتها الاجتماعية والدينية. وما نشاهده من انتشار اللامبالات والفتور الروحي، في كثير من الاوساط البشرية في أوروبا والبلدان العلمانية الاخرى، دليل وبرهان على ذلك(بحسب رأيهم). وكان البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني)، من هؤلاء المتشائمين، خاصة في القضايا الاخلاقية، وممارسات الحضارة المعاصرة، وتشجيعها لحالات الاجهاض، وقتل مئات الآلآف من الاطفال غير المولودين كل سنة، ونشر ثقافة الموت الرحيم الذي يتسبب في قتل الحياة قبل أوانها، بحجة إراحة المريض. وانتشار الاسلحة النووية والبايولوجية في كثير من دول العالم. بالاضافة الى الفساد الخلقي، والانتهاكات الصارخة ضد قوانين الله والطبيعة. وإدخال الجينات الغريبة في الارث الجيني للإنسان، وإنتشار الامراض الاجتماعية والنفسية، والانحرافات الجنسيّة والتشرّد والتسكع في الشوارع، والفقر والحرمان بأنواعه المختلفة. ويرى الذين ينطلقون من المنظور الايجابي، عكس ذلك، إذ ينظرون نظرة متجهة نحو التعاون والتفكير بالآخر، الموجودة في الحضارة المعاصرة. ويدّعون بأن الكوارث الطبيعية التي تحدث في العالم اليوم، لها آذان صاغية، أكثر من قبل. وخير دليل على ذلك ما حدث في البوسنة والهرسك ومقاطعة كوسوفو الصربية، من مذابح جماعية، لم تستطع الشعوب البشرية السكوت عنها. ناهيك عن الفقر والمجاعة في إفريقيا، إذ تحاول الدول الغنية مساعدة شعوبها المنكوبة بكل الطرق والوسائل. والمثال الأقوى على ذلك هو الزلزال الذي ضرب دولة هايتي، وأدى إلى دمار شامل لتلك الدولة، وقضى على بنيتها التحتية، وأدى إلى موت مئات الآلاف من البشر. وما قدمته الكثير من الدول والشعوب لهايتي من مساعدة ومساندة وحملات التعمير وإعادة البناء لهو دليل آخر(برأي هؤلاء)، يثبت الشعور الأخوي النابع من البشر، والذي يدل على التقارب بين الشعوب، والتجاوب مع آلام وعذابات الذين يقعون فريسة الكوارث الطبيعية والانسانية.
الفصل الخامس الثقافة والدين
يصف علماء الاجتماع، الانسان بأنه الكائن الثقافي المتديّن بالطبع، وذلك لكونه فريد في مقدرته على النطق والكتابة والتفكير، وتطوير عالم الأفكار الثقافية والروحية. وهو بحسب علماء الاجتماع (الانثروبولوجيين)، ميال بغريزته الى أن يكون صاحب ديانة أو نظام روحيّ. ولذلك يجب الحرص على فهم الانسان من هذا المنطلق، وعدم تهميش الجانب الثقافي والروحي فيه، وعدم تحريمه من الحرية في التفكير والتعبير عن نفسه، وعن الامور الثقافية والروحية. ويرجع تاريخ نشوء الاديان والمعتقدات الروحيّة لدى الانسان منذ بداية وعيه وشعوره الانساني. أي منذ أن كان يعيش في تجمعّات إجتماعية في الكهوف والمغارات. حينما بدأ يسال عن معنى الوجود والكون والزمن، وعن علاقته بكل ما يُحيط به من التراب والماء والنار والأرض والشمس والقمر والنجوم، وكل أنواع الحيوانات والكائنات الحيّة الاخرى. ويؤكد علم الآثار اليوم، بأن الشعوب البدائية كانت متديّنة جدا، بدليل الأنصاب والرسوم الدينية والمقابر والتعاويذ التي تركتها، كما قال الفيلسوف الروماني (شيشرون): ليس من أمة مهما توغلت في التوحش، إلا ولها إله تعبده حتى ولو جهلت من تعبده إذ قد توجد مدن لا بيوت فيها ولا حصون لها، ولكن ليس هناك من مدينة بدون بيوت للعبادة. وهذا ما يدعونا الى الأستنتاج بوجود دليل على وجود الدين منذ بدايات الأنسانية. ولقد اهتمت معظم الاديان منذ نشأتها بأن الشعوب جميعها تؤلف أسرة واحدة، لأنهم جميعهم من أصل واحد، ولهم جميعهم غاية قصوى واحدة، وهي الله الذي يبسط على الجميع كنف عنايته وآيات لطفه ومقاصده الخلاصة. فالدين إذن فطرة في الانسان، أو هو غريزة مشتركة بين كل الأجناس البشرية. يصفه البعض بأنه الشعلة المضيئة في كيان الانسان الذي أوحى له بالشعر والموسيقى والنحت والغناء وبكل أنواع الفنون. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أنه لا شيء يقوم مقام الدين في إقامة الحجة القوية لدى الإنسان لتعليمه الشعور والإحساس بالواجب تجاه الآخر والطبيعة والكون، وبما يستطيع أن يُقدمه من الخدمة في المجالات المختلفة. والملفت للنظر أن ظهور الأديان لم يكن باعثه العقل العلمي، بقدر ما كان باعثه النزوع الأخلاقي المتصل بضرورة التحلِّي بفضيلة التسامح. والتمييز بين الأخلاقيات كالأوامر والنواهي، والفضائل والرذائل، التي لعبت كلها دورا لا يُنكر في تأسيس الأديان، وتنظيمها طقسيّا وعقائديا وأخلاقيا. فالاديان جاءت في معظمها لتؤكد هذه المفاهيم، بالاضافة الى تأكيدها على أنها أنظمة روحية وخلقية بَشّر بها الرسل والانبياء، الذين وضعوا لها الأسس والتشريعات، لكي تبقى ذخرا حيّا للعالم أجمع. فهي لم تأتِ إذن لتحط من قيمة الانسان وطموحاته، بل لتسمو به، ولتحفظ كرامته وكرامة الانسانية. ولهذا يصف بعض العلماء (الاديان): بكونها، المراة التي تنطبع عليها القيّم الروحية والثقافية للشعوب بأجلى صورها. وبكونها، الحدقة من العين التي ترتسم عليها صور الحقائق التى توليها الاهتمام. وتشترك غالبية الاديان في أمور متشابهة حول مكانة الانسان باعتباره أسمى المخلوقات. وتؤكد معظمها على ضرورة توفير الحماية للإنسان من حيث وجوده وأمنه، وتوفير الحياة الكريمة له من حيث حاجاته الأساسية، وتؤمن جميعها تقريبا بتوفير الفرص المتساوية للجميع، من دون تمييز، على أساس العرق أو الجنس أو اللون أو المذهب. وتؤكد على الدخول في علاقات تعاونية وتفاعلية بين البشر من أجل مستقبل الانسانية الافضل. فعلى الدين والثقافة إذن مسؤولية أخلاقية جسيمة ومشتركة. غرضها خير الناس، وتقريبهم من بعضهم البعض، وزيادة وعيهم وقابلياتهم وثقتهم بأنفسهم، بالاضافة الى اهتمامهم بالامور الماورائية الميتافيزيقية. ولا يتم ذلك إلا بتشكيل حملات جديّة وحقيقية، لإزالة العقبات الرئيسية: كالجهل، بمحاربته في جميع أنواعه وأشكاله ومجالاته. والاستبداد، ومحاولة إيقافه بالموعظة الحسنة والطرق السلمية. والخوف والخجل، العدوان اللدودان الذان يقبعان على صدورنا، ويجعلان من مجتمعاتنا، عبيدا للتقاليد القديمة خوفا من التغيير، وخجلا من الآخرين. مع رفض ثقافة الممنوع والمحرّم التي ورثناها، والتي تعتبر حاجزا ضد التقدم والابداع. ولما كانت الثقافة الضامن الرئيسي الوحيد لتحضر الأمم، والمظهر الأكمل للرقي والازدهار، والعامل الديناميكي الوحيد الذي يستطيع تحرير الانسان، وإنقاذه من حالة الرتابة والجمود والكسل. فهي إذن لا تختلف في مفاهيمها ومنطلقاتها ودلالاتها عن الدين في رسالته الجوهرية. إذ يدعوان كلاهما الى التربية والتهذيب والاخلاق، والى إعادة بناء الفرد والمجتمع الحضاري الصحيح. ولا شك في أن الدين له حكمته وفلسفته الخاصة به، كما أن للثقافة حكمتها وفلسفتها الخاصة بها. فلا يمكن للدين والثقافة أن ينفصلان عن القيم والأخلاق. فإذا أنحرف الدين عن مساره، وأنقلب على أصوله، فلا يكون إلا مصدرا للتخلف والانحطاط. وكذلك الثقافة، فإذا انحرفت عن مسارها ولا سمح الله، فإنها تتحول الى ثقافة منحرفة ومزوّرة، لا تنتج سوى متعلمين، وتصبح بالتالي من دون أصالة حقيقية. ولذلك فعلى الثقافة أن لا تبعد الدين عن موضوعاتها، وكذلك الدين لا يمكنه إبعاد الثقافة عن مجالاته الروحية والتراثية. وجاهدت الأديان منذ مجيئها جهادا حقيقيا لتأسيس الحضارات، التي تبلورت من خلالها العلاقة الحقيقية بين الثقافة والدين. وعملت بجد وإخلاص في صنع الثقافات الكبرى، التي رفدت الحضارات البشرية بالمعارف والعلوم والقيّم والاخلاق. ولا غرابة من أن تتشابه الأديان فيما بينها، وخاصة في جوهر رسالتها التي تكمن في حث البشر الى التقارب والعمل والبناء، والإستزادة من العلم والمعرفة، والتحكم في القيّم والاخلاق. فالدين قلب الثقافة النابض، الذي يدخل في جميع مجالاتها الحيوية. والثقافة أيضا هي لسان الدين وفكره الحيّ. وكما أن المجتمعات البشرية لا يمكنها أن تعيش من دون حضور حقيقي للدين كمصدر يوفر القيّم الضرورية للمجتمع، هكذا بالنسبة الى الثقافة التي لا يمكن للمجتمعات البشرية أن تحضى بوجود حضاري متمدّن من دونها. وإنه لمن الطبيعي وجود التوتر والخلل في العلاقة بين الثقافة والدين. لأن الصراع القائم بينهما هو أمر واقع لا يمكن نكرانه. ويبلغ الصراع أشده في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، وخاصة بين الثقافة من جهة، وسيادة الدين على معظم المرافق الحياتية وإحتكاره لها من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى الصراع بين الثقافة الحديثة والثقافة التقليدية القديمة. فلا بد إذن من السعي الحقيقي والصحيح لفهم الدين والثقافة فهما صحيحا. والاقرار بوجود الصراع بينهما. إذ لا يمكن حل الاشتباك من دون تشخيص السبب، ولا يمكن إعطاء الدواء والعلاج الناجع من دون معرفة وتشخيص المرض. فالعلاج الامثل في هذه الحالة هو القبول بتجديد الدين والثقافة معاً، وجعلهما مناسبين لمواكبة واقع العصر وظروفه وتغيير واقع الحياة ومتطلباتها. مع خلق الاجواء الحرّة والديمقراطية لكليهما، وإنشاء السُبل التي تهتم بالشأن الثقافي والديني معاً في مهامهما بحرية وديمقراطية، ومن دون رقابة حكومية أو إرهاب ديني. لأن وجود الحرية الحقيقية، ضرورة حتمية تؤثر على وجود الثقافة الحقيقية، وعلى صيانة مقدساتها بصورة حقيقية. من الواضح أن الحياة الراهنة لم تبق في إطارها التقليدي القديم، بل أصبحت حياة متغيّرة ومتطورة في كافة المجالات. ولذلك لا يمكن للدين أن يبقى كما كان في القديم. فإذا لم يتجدّد ويتطوّر، تراكم عليه الغبار، وأصبح شيئاً من الماضي العتيق. وكذلك الأمر بالنسبة الى الثقافة التي يؤكد العلماء والمختصون على استمرارية تجددها وتحديثها لكي لا يبقى الانسان أو المجتمع سجين ثقافة محدودة ومنغلقة، بل لكي يكون منطلقا مع ثقافة تنسجم مع كرامته الشخصية وطموحاته المستقبلية. فمن الضروري إذن إنقاذ الدين من جموده وقيوده التاريخية وإنقاذ الثقافة من التعلق الشديد بالتاريخ والمواريث القديمة والتراث الجامد. ولا يتم الخلاص إلا بإعادة تفسير الدين، وتأويله وفقا لمنطق العصر وضروراته. وبالتأكيد على أهمية العلاقة الروحية والإيمانية بالله، والفصل بين مفهوم الدين والدولة بكافة الانشطة والمظاهر كما حدث في اوروبا وأمريكا ومعظم الدول المتمدّنة التي حققت نجاحا باهرا في هذا المجال. ولعل السبب الرئيسي في نجاح الدول الأوروبية هو أنها أعطت القيمة العليا للثقافة والدين، ورفعت من شأنهما معاً. مع أن البعض يتصور أن في العلمانية طعن للدين وتهميش له، إلا أن الحقيقة غير ذلك، لأن الدين يبقى في ظل هذا النظام، مُحافظا على قيمته الأخلاقية وقدسيته الروحية، ومساهما بصورة جدية وعميقة في النهضة الحضارية والفكرية الحديثة. ويكون حينئذ فقط في مقدوره القيام بدوره الحقيقي الذي كان غائبا ولقرون عديدة. وعلى كل حال، فإننا في أمس الحاجة الى النهضة والاصلاح الديني والثقافي، وتجاوز الفهم الأحادي والمتعسف لقيم الدين، والطعن المقصود والمباشر بالثقافة والمثقفين. فالإصلاح ضروري للدين لإنقاذه وتحريره من الجمود والقشرية. كما هو ضروري أيضا للثقافة لإعطائها الدافع القوي في النهوض والتطور والتخلص من التبعية للسلطة والتقاليد البالية. وما يصيب الشرق الأوسط من جمود وتخلف هو نتيجة من نتائج الجمود في الفكر الديني، وتحجر رموزه الشخصية والدينية والثقافية. فالدين والثقافة أمران متشابهان. إذ لكل منهما، دوره العظيم في خدمة الانسانية. فمن الممكن أن يعملا معا في نشر القيم والاخلاق الحميدة. لأنهما كلاهما يدعوان الى الاخلاق الصحيحة، والسلوك الحسن، والعمل النظيف، مع نشر ثقافة الاحترام للإنسان وفكره وحضاراته. وكلاهما يدعوان الى تنمية وتهذيب الشخصية الانسانية المثالية، والى فهم الحقائق الانسانية، من تنظيم العائلة والمجتمع البشري الواحد. ولا بد من التنويه على أن الدين والثقافة لا يمكنهما أن يعملا من دون وجود الدور الحقيقي للدولة، ولاسيما في التربية والتعليم التي هي من أهم الوسائل المؤثرة لخلق مجتمع متآخ ومتسامح. إذ يجب على الحكومات أن تقوم بدورها في هذا المجال، وذلك بدعم برامج البحث التربوي والعلمي، من أجل العناية بالانفتاح على الثقافات الأخرى، وقبول الاختلاف، ومنع الصراعات أو حلها بالوسائل السلمية والسليمة. وما يجري الآن في كردستان العراق هو في الحقيقة، الإنموذج الأمثل في الشرق الاوسط من تأسيس للنظام الديمقراطي الحرّ، وإعطاء الفرص في التعبير والتفكير وبناء الذات، وخلق الثقافة التسامحية مع الآخر، وإحترام الأديان من دون تمييز أو تفرقة. وما نتمناه يوما أن تنتشر هذه الثقافة في عموم العراق والدول الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، وذلك لخير شعوبها وتطوّرها وتمدنها.
الفصل السادس الثقافة والسياسة لعبت تساؤلات الإنسان القديمة التي كانت تأخذ شكل رموز وأساطير وقصص، دورا كبيرا في إنشاء وتكوين الحضارات والثقافات والمعارف المختلفة. فإنتقلت تلك الحضارات والثقافات من منطقة الى اخرى، عن طريق التجارة أو الهجرات أو الغزوات أو غيرها. وكان لكل ثقافة أو حضارة على مدى التاريخ أسلوب جديد في فهم الانسان والحياة والوجود والمجتمع. ولقد ثبت العلم والتاريخ أن حُب الإنسان للاختلاط والتعارف، أدى به الى تكوين بعض التشريعات والنظم القانونية التي منها تطورت النظم السياسية، والتشريعية والقضائية والتنفيذية وأنظمة الحكم السياسية بعد ذلك. وبالرغم من إختلاف أنظمة الحكم في العالم، وإختلاف مشاكلها الداخلية والخارجية، إلا أنها تكاد تتفق على بعض الثوابت والركائز في حكم الناس وإدارة شؤونهم. ولكن السلطات الحكومية لم تكن دائما صادقة وعادلة في حق شعوبها ورعاياها، خاصة في الامور الاقتصادية والقضائية وممارساتها التشريعية والقانونية. ومن هنا فكرت الشعوب المُعذّبة والمَقهورة بإحداث تغييرات لتلك الأنظمة، وكشف عيوبها وشوائبها الرديئة. ولما كان الفكر السياسي يهتم بالظواهر السياسية المحيطة بالانسان، فلا نستغرب من وجود هذا الفكر لدى الانسان، منذ نشوء الحضارات البدائية. كما يؤكد الدكتور نظام محمود بركات، في كتابه (مبادىء علم السياسة) ويقول: فأينما وجد الانسان ظهرت معه الحاجة لإيجاد نوع من التنظيم لحياته، ووجب وجود سلطة تكون مسؤولة عن إدارة شؤونه. ومع نشوء العائلة في عهد ما قبل التاريخ، تكوّن مفهوم السلطة التي إحتاجت الى سلطة الأب لإدارة شؤونها الداخلية والخارجية. كما يذكر الاستاذ بركات في المصدر نفسه قائلا: أن إطاعة الوالد وقبول سلطته في الاسرة قد انتقلت الى مجلس شيوخ القبيلة. ومع إجتماع الأسر تكونت العشيرة التي إحتاجت بدورها الى سلطة رئيس واحد يتحكم في أمور العشيرة، ويدير شؤونها، سواء مع مجموعة شيوخ يتحاور معهم، أو بمفرده كسلطة مطلقة. ومع ظهور فكرة المال والثروة والتعامل بهما في البيع والشراء، تطوّرت الحاجة الى المحاكم التي تقضي بالقضايا والأمور التشريعية المختلفة(السلطات التشريعية). ومع تلاحم العشيرة مع البطون الاخرى المرتبطة معها بصلات القربى، تكوّنت القبيلة التي شكلت الدولة القبلية. وتطورت الحالة الى إنشاء منظمات سياسية أدت الى نشوء الدول والحكومات السيادية لتقوم بإدارة الناس وتحقيق مصالحهم، وتمشية معاملاتهم اليومية وضبط الأمور (السلطة التنفيذية)، وفرضها بالقوة من خلال الجيش والشرطة، إذا تطلبت المصلحة العامة. ولم يكن الهدف من ذلك كله إستبداد الناس وقهرهم، وسلب حريتهم، والطعن في كرامتهم. بل بالأحرى، تحقيق مصلحتهم، وسن القوانين لفائدتهم، وتفسيرها بشكل يلائم وضعهم، لخيرهم وسعادتهم، ولتحقيق طموحاتهم وتمدنهم. ولا يزال الكثير من الشعوب البشرية تعاني من هذا التعسف، وهذه المرارة، ولاسيما في الدول النامية والمتخلفة والدول الشرق أوسطية التي تجثم على صدور شعوبها أنظمة استبدادية تحول دون التقدم والتطور السياسي والحقوقي والحضاري، مما يمنعها من الشروع بأية نهضة حقيقية، ومن إرساء معالم صادقة وعادلة لمستقبلها ومستقبل أجيالها المظلم. وإذا اردنا لشعوبنا ودولنا العيش في كرامة، والتمتع بسعادة وهناء، فما علينا إلا الإفتخار بهذه التشريعات كإرث لا غنى عنه، والعمل على إحترامها وتطبيقها والحفاظ عليها. فهي تبقى ضرورة بالغة لتسوية التجاوزات والخلافات، والسيطرة على المتجاوزين والمخالفين وتأسيس مجتمعات حديثة ومتطورة. وفي ذروة بلوغ البشرية الرقي والتقدم، قام الناس بالثورات، بسبب شعورهم بالظلم والغبن، وذلك بسبب تحكم المستبدين بإمور حياتهم رغما عن إرادتهم، بلا خوف ولا خشية حساب ولا عقاب مُحققين. فقام الناس بتنظيم الأحزاب والمفاهيم الآيديولوجية، لغرض الحصول على الحرية والعدالة، على أساس القيّم والأخلاق الجماعية، وتكوين عوالم جديد. ونجح بعضهم وأنتصر بعد أن قدم تضحيّات كبيرة، وذلك ببذل دماء غالية من أجل الحصول على الحرية والعدالة والديمقراطية. ولكن فشل البعض الآخر، وينتظر فرصة أخرى، ونرجو أن لا يطول الانتظار. وقد عرفت الأمم والحضارات القديمة بعض مظاهر التشريعات القانونية والأفكار السياسية كما في الحضارة العراقية القديمة، التي أكدت على ظهور أولى الخطوات والمحاولات الانسانية في المسيرة التاريخية الطويلة عبر العصور، للوصول الى تنظيم مجتمع حضاري ومتمدّن. وإستمر هذا الاعتقاد وتحوّل بمرور الزمن الى نظرية سياسية. ومورس هذا الاعتقاد حتى عصور متأخرة في حكم المناطق والبلدان العديدة في العالم. وكان المَلك في الحضارات القديمة وخاصة في العراق القديم، بمثابة الوسيط بين الآلهة والبشر، وبمكانة القاضي الذي يتلقى الأوامر والتشريعات من الآلهة، ليحكم بمقتضاها بين الناس. وبرز في تلك الحضارة المعلم والمشرّع (حمورابي) الذي كان ملكا وقاضيا. والمعلم والحكيم (كونفوشيوس) في الصين، والمعلم (كوتيليا) في الهند وغيرهم. ومما يلفت الانتباه لدى العلماء والآثاريون أن التشريعات في العراق القديم هي من أقدم ما عُرف من شرائع وقوانين في سائر المجتمعات والحضارات الأخرى، سواء في مصر القديمة أو الهند أو اليونان أو الرومان. وتثبت الأبحاث العلمية والكشوفات الأثرية أيضا، أن الحضارة في وادي الرافدين، سبقت الحضارات الأخرى في الكتابة والتدوين، وفي تطبيق التشريعات القانونية في نظام الدولة بقرون عديدة. ويؤكد العلماء على وجود هذه التشريعات القانونية في وادي النيل أيضا، إذ لعبت مصر دورا كبيراً في هذا المجال. وكذلك الحضارة الاغريقية في اليونان، التي كانت المثال والأنموذج في العالم القديم، لكونها طوّرت الأفكار القانونية والسياسية للحضارات الأقدم منها، وحوّلت الفكر الانساني من التأمل في الكون والطبيعة والامور الخيالية، الى الانسان ومشاكله، بإعتباره الأساس الذي يجب أن يقاس به كل شىء. وتطوّرت الافكار السياسية في العصور الوسطى المسيحية، كتعبير عن الصراع القائم بين السلطات الزمنية، والسلطات الدينية والتشريعية المتعلقة بها. وتميّزت تلك الفترة بظهور صراع حاد بين الكنيسة من جهة، والدولة الممثلة في الامبراطورية من جهة أخرى. ومحاولة كل منهما، بمد نفوذها الى مجال الأخرى للسيطرة عليها وإحتوائها من جميع النواحي. واستمر الصراع لفترة طويلة الى أن بدأت الدولة القومية بالظهور. فإمتدت الأفكار السياسية الى وقتتنا الحاضر، لتشمل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية. ولا يزال الناس يحاولون جاهدين تطبيق القوانين والشرائع لتحقيق الديمقراطية والحرية والمساواة، وذلك لحل الأزمات المختلفة في المجتمعات البشرية، ولكن من دون جدوى. وتبدو حالة العالم الراهنة بتناقضاتها المتفاقمة على صعيد السياسة والاقتصاد، دليلا كافيا على ضرورة العقل والتفكير المنطقي، الذي لولاه لبقيت الشعوب قابعة تحت نير الجهل والتخلف والطغيان. ويشغل عالم السياسة نواحي سلوك الانسان، وتصرفاته المتعلقة بالقوة السياسية كوسيلة للسيطرة الاجتماعية. فالفرد الذي يستطيع أن يقود مجموعة أو مجموعات من الأفراد الآخرين، ويسيطر عليهم ويوجههم، يجب أن يكون في الواقع ذي قوّة وسلطان. وليس المقصود بذلك السيطرة والاستبداد، بل تأمين السلام والطمأنينة والحرية. وقد اتفق على أن الدولة هي المنظمة الوحيدة التي تستطيع إحتكار هذه السلطة ازاء المخالفات، وهي الوحيدة التي لها صلاحية سحبها من الأفراد. فالسياسة إذن هي دراسة السيطرة والمسيطرين كما يقول آرسطو في كتابه (السياسة). وللسياسة اشتقاقات في جميع اللغات، ولكن بنفس المعنى والمفهوم. وغايتها حكم الناس وإدارة شؤونهم، وكيفية إدارة مدنهم بطريقة منظمة لتسهيل أمور حياتهم، وزيادة سعادتهم وثرائهم. واللفظ اللغوي للسياسة بالانكليزية politics ، وبالفرنسية politique ، يدلان على المفهوم نفسه. إذ هما مصطلحان مشتقان من اللفظ اللاتيني polis الذي يأتي بمعنى المدينة أو الناحية، أو بمعنى اجتماع المواطنين. وقد تأتي بمعنى الفن السياسي أو معالجة الامور التي تعني المدينة. وأما في اللغة العربية فإن كلمة(السياسة) كما وردت على لسان العرب: هي من السوس وتأتي بمعنى الرئاسة، أو بمعنى القيام على الشىء بما يصلحه. ويُقرّبنا إشتقاق هذا المصطلح من دلالة الكلمات ومعانيها الاولية، إذ لا يمكن تصوّر سلطة سياسية من دون ممارسة التسلط. ولذلك يستدعي وجود السياسة في جميع المصطلحات والتعريفات مع وجود السلطة السياسية. ومن هنا تعرّف السياسة بأنها: إدارة أناس يعيشون في مجتمع، حاكمين ومحكومين، مدافعين عن الواقع أو معارضين له. وفي الموسوعات الأدبية والعلمية تعرّف السياسة: بأنها علم دراسة الحكومة ودراسة عملية الممارسة السياسية والسلوك السياسي أو هي علم حكم الدولة الذي يهتم بدراسة التوزيع السلطوي الالزامي للقيّم في المجتمع، والذي يتابع الصراع بين الصالح العام، وبين مصالح الجماعات الخاصة، والتي تشمل دائما على استعمال القوة أو السعي اليها. وبحسب مفاهيم الكاتب جوليان فروند: السياسة هي تأمين السلامة الخارجية والوفاق الداخلي لوحدة سياسية خارجية مع صيانة النظام داخل الجماعة. وأما الفيلسوف (ماكس فيبر) الذي يُعد من كبار علماء الانثروبولوجيا (علم الاجتماع) فهو يعرّف السياسة بأنها: الفعالية التي تطالب بحق السيطرة من أجل السلطة القائمة على أرض ما، مع إمكانية استخدام القوة أو العنف في حالة الحاجة، سواء من أجل النظام الداخلي أو من أجل الدفاع عن الجماعة في وجه التهديدات الخارجية. ونستنتج من خلال هذه التعريفات وغيرها بأن عالم السياسة وإن ركز كثيرا على السلطة والسيطرة التي تفرضها الدولة، إلا أنه لا يقتصر فقط على الدولة والحكومة، بل يمتد ليشمل بعض المؤسسات الاجتماعية والتجارية مثل العائلة والمدرسة والنادي الثقافي والاجتماعي والمصنع والبنك والنقابة العمالية وشركة الاعمال والجامعة والمؤسسات الثقافية. ويستبعد البعض من المفكرين، المدرسة والاسرة والنوادي الاجتماعية والشركات والبنوك والمعابد الدينية من مجال السياسة. لأن السياسة عندهم تهتم في الأساس في الامور الباعثة على السيطرة السياسية، وأسسها ومكوّناتها وحيويتها، لتنشغل في نواحي سلوك الانسان وتصرفاته المتعلقة بالقوة السياسية، وللسيطرة على الناس وادارتهم وتنظيمهم. وتتطلب أسلوبا خشنا ومراوغا، لا يليق بتلك المؤسسات. لذلك يجب أن تكون السياسة بعيدة عن بعض المؤسسات المعروفة بالمدارس الاخلاقية التي لا تقبل المساومة على حساب كرامة الانسان وقيّمه السامية (بحسب مزاعمهم). ويُعد آرسطو من الاوائل الذين عرّفوا السياسة تعريفا علميا شاملا: بكونها علم السيطرة والمسيطرين وكيفية السيطرة على الاخرين، وإدارتهم وتوجيههم نحو سلوك معيّن لخير وفائدة المجتمع بأسره. وترتبط السياسة عنده بالاخلاق ارتباطا عميقا ومُكملا، وغايتها الحياة الرغيدة. ولا تختلف السياسة عن الاخلاق، إلا بمدى تطبيقها المتعلق بالمجتمع بدل الفرد. والشىء المميّز بخصوص آرسطو هو نقله لعلم السياسة من أسلوب المحاورات المعروفة لدى أفلاطون، الى أسلوب المحاضرة المعروفة بدقتها، والتي تظهر بشكل أدبي مميّز. ويُفسر البعض الآخر من الفلاسفة الغربيين بأن السياسة هي القدرة على الاتصال بالناس والتفاهم معهم. وأما الفيلسوف المعروف (جون لوك)، فإنه يعرّف السياسة بأنها: القوة للمحافظة على الحياة والحرية والاملاك. وننطلق من هذه المفاهيم والتعاريف لنبيّن العلاقة بين الثقافة والسياسة، وتأثير السياسة في المجال الثقافي، ودورها في بناء المجتمع البشري وتنظيمه وقيادته. فالمسألة الثقافية التي هي من أساسيات كل مجتمع متمدّن وحضاري، تؤكد على وجود صلة حقيقية بين الثقافة والسياسة. فهي في حقيقة الأمر صلة ضرورية وحتمية، مع وجود الكثير من الإشكالات وسوء الفهم بينهما. فالتاريخ لم يعرف حالة توافق حقيقي بين الثقافة والسياسة، إلا في بعض المظاهر السطحية. ولكن العلوم السياسية والاجتماعية تؤكد اليوم على وجود السياسة في الثقافة، وعلى وجود الثقافة في القرارات السياسية، بالرغم من أن طبيعة كل منهما تختلف عن الأخرى، وأن أساليب السياسة والسياسيين هي غير أساليب الثقافة والمثقفين. وللثقافة وظيفة تاريخية جوهرية، وهي الحفاظ على العناصر الضرورية لأي مجتمع بشري من اللغة والتاريخ والمعرفة والدين والاخلاق والهوية والتطلع الى المستقبل المشرق. ومن هنا يبرز دور المثقفين بإعطائهم الحرية الحقيقية للتعبير عن مكنوناتهم من دون تقييد وتجريد من أفكارهم وآراءهم. ويُعد هذا أملا وحُلماً لكل المثقفين في العالم، وخاصة في بلداننا التي هي في أمس الحاجة الى الاصلاح السياسي والنهضة الثقافية الحقيقية. إذ أن التضيق على المثقفين بحجة المحافظة على القيّم والتراث والتقاليد ووحدة الصف، أدى بدوره الى نشوء أزمة غياب المثقف السياسي، وإنقطاع معظم المثقفين المختصين عن السياسة، وإنصرافهم للثقافة فقط. مما أدى كنتيجة لذلك إلى ظهور عدد كبير من السياسيين العاطلين والفارغين من الثقافة، والمسيطرين على الساحة، من الذين هيّمنوا على المراكز الحساسة في المجتمع، مع عدد هائل من رجال الدين الذين جعلوا من الثقافة والسياسة منبرهم المقدس ليفتوا من خلاله، ناسين رسالتهم الدينية والاخلاقية في بناء المجتمع. ويشرح علماء النفس وعلماء الاجتماع من الجانب الآخر الروح الإزدواجية الفضيعة التي تسيّطر على معظم أفراد مجتمعاتنا، والتي تظهر أكثر جلاءً في السياسيين، وأصحاب السلطة السياسية التي تؤثر على مصداقيتهم في الحكم على الامور المختلفة، ناهيك عن الصراعات الاجتماعية والاثنية، والتوترات الدائمة بين الأنماط التقليدية والأنماط الحديثة، وبين الانماط الثقافية والدينية، والانماط الثقافية والسياسية. فالثقافة من جانب، هي مطلوبة ومرغوب فيها، من قبل معظم الحكومات في بلداننا الشرق أوسطية والعربية والاسلامية، لغرض إعطاء حكوماتها الشكل الحضاري المتطوّر. ولكن في الوقت نفسه، تشكل الثقافة الخطر بعينه لتلك الحكومات، وخاصة إذا كانت نزيهة وحرّة ومستقلة، لأنها تثير البلبلة(بحسب رأيهم)، وتزيح الستار عن أشياء يفترض أن تكون خفية ومستورة. ويعاني المثقف في هذه الحالة من المشكلة نفسها، إذ يعتبر موضع شك وريبة وتساؤل؟! فإن جرب التقرّب من السلطة والحكومة، وحاول تطمينها، فلا فائدة من ذلك، لأن الحاكم الفاسد والمستبد، يمارس سلطته بشكل مطلق وقمعي وإستبدادي. فلا قيمة عنده للمثقف، ولا لمصير الثقافة، بقدر ما يهمه حكمه، وإستمراره في السلطة. فهل يقوى المثقفون المفكرون والمتنورون على إخراجنا من أزمتنا الخانقة هذه بسبب كل هذا الخلط والخلل الحاصل؟!. وهل تستطيع الثقافة الحقيقية التي هي أجوبة لهمومنا وآمالنا وطموحاتنا، أن تزيل سوء الفهم بين الثقافة والسياسة، وبين الثقافة والسلطة السياسية؟!. وهل تستطيع الثقافة البدء بقراءة جديدة للقوانين والدساتير والدين والتراث والاخلاق والمستقبل، وإنقاذنا من سيّر السلحفاة البطىء نحو الانفتاح والحضارة والتمدّن؟!. وهل من الممكن إنقاذ الدين من عزلته الفكرية والسياسية، وإنقطاعه عن مناخ العصر الحاضر؟!. ومع كل هذا التشاؤم في النظرة والتحليل إلا أن هناك حلولا مثالية لهذا التعقيد، والتي تكمن في تطوير المؤسسات الثقافية المستقلة لكي تكون المعيار الوحيد، والملجأ الدائم والمستقل لكل المثقفين والمفكرين بعيداً عن إستبداد السلطة والسياسيين. وأطلب العذر من بعض السياسيين، إذ لعل هناك من يُحب الثقافة، وينهل منها زاده الثقافي، وإن كانوا قلة قليلة. والحل الآخر في طبيعة الحال يكمن في توفير الحرية الحقيقية للصحافة والفكر. لأن القابضين على الحكم منذ نشوء الدولة الحديثة، لم يتركوا الحرية للمثقفين، والمثقفين السياسيين، في معظم دول الشرق الاوسط، والعالمين العربي والاسلامي. ولم يعطوا المجال للتعبير الصادق عن طموحاتهم بحجة وحدة الصف وحماية المشروع الاول والأهم، وهو بناء الدولة القوية، وتأسيس الجيش العرمرم، والاساطيل الحربية، وحماية المجتمع من الاخطار الخارجية. وينطبق هذا أيضا على معظم الشعوب الاستبدادية والشمولية التي سخرت كل طاقات شعوبها لبناء وتسليح الدولة على حساب الثقافة والابداع الحضاري. وأدت في الحقيقة الى إلغاء العقل والحرية في آن واحد، والى تحطيم ذاتية الإنسان وكرامته، وسلب المثقفيين إرادتهم الحرّة، وجعلهم مجرّد موظفين في الدوائر والمؤسسات الثقافية. فالسياسة إذن لم تستطع بمفردها، ولن تستطيع، معالجة مشكلات الشعوب. فلا بد من تعاضدها مع الثقافة والسير معا في تغيير المجتمع. لأن الثقافة تتناول الانسان بكليته، جسدا وروحا، عقلا ووجدانا. وكما أن البشر يحتاج الى السياسة، كذلك يحتاج الى الثقافة. وكما أنهم بحاجة الى السياسيين، فهم بحاجة أيضا إلى المثقفين والمثقفين السياسيين، الذين عليهم أن يلعبوا دورهم السياسي في الساحة. وقد إختلطت الامور كثيرا لدى شرائح كبيرة من المجتمع عن المثقف الحقيقي، ومفهومه ودوره السياسي في المجتمع، وعن السياسي والسياسي المثقف والمثقف السياسي. إذ هناك من يتحصن بالسلطات السياسية، منذ بداية وجوده، ويتحاشى المساس بها وبممارساتها الظالمة. ومنهم من يقوم بدور الخدم للسلطات السياسية، ولكنه يظل يقتنع بالاستقلالية وحرية الرأي، وينتظر الفرصة لإظهار استقلاليته، والكشف عن مفاهيمه. ومنهم من يحاول إقامة الجسور مع السلطات السياسة لحماية نفسه من الحرمان والسجن والتشريد، ولكن من دون جدوى. ومنهم من بقي صامدا ولم ينهزم، ولكنه جاع وضعف صوته أو هاجر، وفقد هويته وشعوره الوطني. ولعل الاختلاف الرئيسي والاهم بين المثقفين الحقيقيين والسياسيين يكمن في تركيز المثقفين لبناء الإنسان، والالتزام بالواقع الموجود، والحرص الشديد على الثراء المعرفي والتجديد الإبداعي. في حين أن هموم السياسيين السلطويين، تتمركز في بناء الاقتصاد والدولة القوية، وتحقيق السيطرة على رقاب الناس وحماية الكراسي، والظهور بمظهر الحامي للوطن والأمة. وقد تكون تلك الاسباب وراء ضعف الاقلام الثقافية النزيهة وإختفاء الابداع الثقافي والصناعي والتكنولوجي في مناطقنا الجغرافية. لأن الثقافة الحقيقية لا يمكنها العيش إلا في مناخ الحرية والديمقراطية، والمساواة أمام القانون لسائر الناس كما يقتضيه المنطق والاخلاق. فالحرية كما هو معروف هي غرض كل إنسان، وخاصة المثقفين والمفكرين الذين يعتمدون عليها أكثر من أي شخص آخر. فلا يمكن أن يكون المستقبل للقمع والتضييق والإنغلاق الفكري والثقافي، بل للثقافة النزيهة والحرة، ولدعاة الانفتاح والتجديد. ولذلك لابد من توفير الحرية الحقيقية لكل أنواع المجلات والجرائد المستقلة. وجدير بالذكر أن المناخ الانفراجي النسبي الذي يحدث في بعض المناطق ولاسيما في مسألة حرية الفكر والصحافة، كما في إقليم كردستان العراق ودولة لبنان وجمهورية مصر العربية، هو الفرصة الذهبية لمثقفينا وأدبائنا لكي يتناولوا القضايا بصدق ونزاهة، وشجاعة وموضوعية. إذ تقع عليهم المسؤولية في تطوير المؤسسات الثقافية والتشريعية والقضائية للعمل على استقلاليتها وإبعادها عن استبداد السلطات وتدخلات السياسيين.
الفصل السابع
الثقافة والتربية يحتاج الوليد البشري الى من يقوم بتربيته وتكوينه وتشكيله، من الناحية الجسمية والنفسية والاجتماعية. لأنه يتميز عند ولادته بعجز كبير، ولا نجد لعجزه مثيلا في الكائنات الحيوانية الأخرى. ولهذا فإن التربية ضرورية لبقاء الفرد وإستمراره، بل هي وسيلة نموّه وتقدمه وتطوّره، لولاها لعاش الانسان قريبا من المرحلة البهيمية، ولتأخر المجتمع البشري، وإندثرت معه الحضارات والثقافات إندثارا كبيرا. ويؤكد معظم علماء التربية، على أن التربية بدأت بدورها منذ أن وعى الانسان بدوره الانساني، ومنذ أن وجد آباء وأمهات رعوا أبناءهم، وكوّنوا أسرهم وتجمعاتهم البشرية. ونقلوا عبر التربية مجموع المعايير الاجتماعية والثقافية التي تؤمن التضامن بين أعضاء المجتمع (أميل دوركهايم). ولما كانت الحياة الانسانية قصيرة جدا، كان على الجيل القديم أن يصل أسباب بقائه واستمراره ببقاء قيّمه وعاداته، ونظمه السياسية والاجتماعية وغيرها. ولعبت الكتابة والتدوين دورا كبيرا في تنمية الوسائل التربوية الأكثر تهذيبا ودقة، وساعدت الإنسان على ممارسة سيّطرته على البيئة والطبيعة، والانتقال من ثقافة بدائية الى ثقافة حضارية متقدمة ومتمدنة. مع أن المعرفة كانت امتيازا لفئة صغيرة حاولت المحافظة عليها بشتى الطرق والوسائل. ولكن تلك المعارف أصبحت اليوم ملكا للجميع، وساهمت في تطور البشرية وتقدمها الكبير. ويعتقد الدكتور (عبدالله عبد الدائم) في كتابه التربية عبر التاريخ ص 8 : بأن الاتجاهات التربوية الحديثة تتم عن طريق وسائل المجتمع وثقافته في شتى أبعادها ... فالتربية عرفت أشكالا أخرى أكثر مرونة وأرحب مجالا .. وتهدف التربية أولا وآخرا الى دمج الفرد بعادات مجتمعه وتقاليده وقيّمه وأساليبه. ولذلك يعرّف معظم العلماء والمختصين بأن التربية: عملية يقوم بها المجتمع لتربية أبنائه ولتمييزهم عن غيرهم بصفات معينة، وذلك باكسابهم معارف ومعلومات معيّنة تمكنهم من إدراك المفاهيم التربوية واكسابهم المهارات المختلفة، الوجدانية والإجتماعية والإقتصادية والسلوكية. ففي دراسة قام به العالم (أميل دوركهايم) عن الأقوام البشرية البدائية، كشف فيها بوضوح، على أن الشعوب القديمة، علمت أبناءها ودربتهم على أعمال الخدمة المنزلية وصناعة الادوات الضرورية، وحياكة الأقمشة المختلفة، والتمرس بالصيد والتدرب على أمور الحرب، ورعي الماشية والقيام بالأعمال الزراعية والتجارية، بالاضافة الى المأكل والملبس والمأوى وإقامة الطقوس الدينية، والتكلم بلغة الأم. وتؤكد تلك الدراسة: على أن التربية التي عرفتها تلك الشعوب، تحمل في حقيقة الأمر، سمات وخصائص شبيهة جدا في أنواع التربية التي تمارسها شعوبنا في أكثر مراحلها نموا وتطورا. وهذا يدل على أن البشرية سارت على نهج بعضها بعضا في سياق التربية، مع إختلاف الأفكار والأماكن والتضاريس والمعتقدات. وتؤثر هذه الظواهر في الفرد تأثيرا كبيرا، وتكسبه طابعا خاصا. فالجماعة التي تعيش في الصحراء وفي السهل وفي الساحل وعلى الجبل، لها كلها سمات خاصة تميزها عن غيرها، تبعا للمحيط الذي تعيش فيه. ولكن الشىء الذي لا يمكن الخلاف بشأنه، هو السمات الانسانية التي وكلت الى بني الانسان في كل العصور. فهي من المهام الضرورية والأساسية، كالشعور الخلقي القائم على التمييز بين الخير والشر، والحرية والعدالة والمساواة، وتكوين الأسرة، والعادات والتقاليد، والمساهمة في بقاء الجماعة وإستمرارها. ولم يبق مفهوم التربية جامدا عبر التاريخ، إذ تطور وتغير من عصر الى آخر، مع نمو وتطور الأبحاث التربوية، حتى بلغ اليوم حدا عاليا من النضج، مما جعله من العلوم المنتشرة والمتطورة في خطوات ثابتة مع الابقاء على المُثل العليا القديمة وتطويرها بما يلائم العصر. وتأخذ الوظيفة التربوية في المجتمع دورها الهام بتطبيق العلوم التربوية والمنهجية، لكي تكمل ما تعلمه الفرد من والديه، ومن البيئة المحيطة به. ولهذا فالوظيفة التربوية لها مكانة مرموقة في كل المجتمعات البشرية. ويبقى دورها نافذا وفعالا في شرح المراحل التربوية للأفراد مع زرع القيّم والأخلاق. وأما الغاية الرئيسية من التربية فهي لتشكيل الفرد والمجتمع تشكيلا إنسانيا، وتطويره خلقيا، لغرض بقاء المجتمع الانساني وإستمراره. وتلعب الثقافة دورا كبيرا في هذا التشكيل، لأنها تجمع كل المكوّنات من اللغة والعادات والتقاليد والتراث والسلوك الاجتماعي والديني التي تستند عليها التربية. ولما كانت الثقافة بهذه الأهمية بالنسبة الى التربية، فلا عجب من أن تأخذ التربية دورها الحقيقي والفعال في نقل الثقافة عن طريق الأفراد. فالتربية هي تجسيد للثقافة، التي تؤكد مع التربية على وجود وتجذر الحضارة. فلا بد من تطوّر التربية مع تطوّر الثقافة والمعرفة والتعليم. ولا يمكن تجاهل القيمة العظيمة للمعرفة العلمية والعلوم الادبية والخلقية. فهي بمثابة الرأس لكل الحضارات والثقافات، وإن خلت منها حضارة أو ثقافة لقضت على نفسها وأصبحت في عداد الموتى، كما وصف البابا الراحل يوحنا بولس الثاني حضارة الغرب بأنها: حضارة الموت بسبب العدد الهائل من حالات الاجهاض وجرائم القتل والصناعات النووية والبايولوجية والقنابل الجرثومية وغيرها من وسائل القتل والدمار والفناء. وكما وصف المبشر الامريكي (بيلي غراهم) الذي صرّح في إحدى خطاباته الانجيلية قائلا بأن: الله إذا لم يعاقب أمريكا، فعليه (والعياذ بالله)، أن يعتذر لأهل سدوم وعمورة. فالتربية الصحيحة إذن ليست إرغام العقل غير المستعد وغير الواعي على قبول التعليم. بل هي إيقاظ قوى العقل وإثارة الإهتمام من خلال الفعل التربوي الصحيح. وتلعب الاسرة دورا مميزا في تزويد الاطفال بالمعرفه الثقافية، بدءاً باللغة ومعاني المفردات والكلمات والرموز والاشارات والممارسات اليومية لشؤون الحياة إلى الحكم على الأشياء بالصواب والخطأ وتنمية الأبعاد الانسانية فيهم. حتى يصلون الى أقصى حد لهم من النمو والنضوج، كما يُقال قديما: ان حضن الأم هو المدرسة الأولى. وبالتالي فإن الاسرة هي أول موقع لتربية الانسان ونضجه. فعلى الوالدين تعليم أطفالهم منذ الصغر دروسا في الاحترام والإتيكيت، بالاضافة الى الطريقة المناسبة لإرتداء الثياب، والاسلوب المناسب في الأكل والشرب، ونظافة الجسم، مع إعطائهم دروسا سهلة وبسيطة عن مبادىء الفسيولوجيا وعلم الصحة الجسدية. ولعل من أبرز جوانب التربية الخلقية هي القدوة، والتي تمتد من مرحلة الحمل الى مرحلة النضوج والثبات. ويكون الاطفال أكثر تأثراً بالقدوة. إذ يقلد الطفل في سنواته الأولى كل ما يفعله الكبار. ويعتقد الاطفال أن ما يفعله الكبار صحيح، وبأن آباءهم أكمل الناس وأفضلهم. لهذا فهم يقلدونهم ويقتدون بهم. وعلى الوالدين مسؤولية جسيمة تقوم بمساعدة أبناءهم في النمو والنضوج، ومحاولة زرع الثقة في أنفسهم لتجاوز الصعوبات والعقبات، وتجنب تثبيط همتهم بالضرب والتوبيخ والكلام الجارح. فالعملية التربوية هي عملية يومية من السعي والبحث والتعلم عن الحكمة والمعرفة والاخلاق الى آخر يوم في حياة الانسان، كما جاء في سفر الامثال 4: 11 ((قد أرشدتك الى طريق الحكمة، وهديتك في مناهج الاستقامة ... تمسك بالارشاد ولا تطرحه. صنه لأنه حياتك. لا تدخل في سبيل الاشرار ولا تنهج منهجهم)). وتقع مسؤولية الوالدين في الدرجة الاساس، في تشجيع أولادهم لكي يكونوا حكماء أكثر من أي شىء آخر. وعلى الاولاد واجب الاصغاء للوالدين والتقبل منهم بطاعة وإحترام كبيرين. ويعتبر المختصون الوظيفة التربوية بداية وأساس الوظائف التي تؤديها المؤسسات المجتمعية الأخرى عامة، والمدرسية بصورة خاصة. فإذا أنشئت الأسرة على أسس وقواعد ثابتة راسخة من القيّم والفضائل، فإنها بذلك تبني المجتمعات بلبنات قوية متماسكة، لا تؤثر فيها عواصف الزمن، ولا متغيرات الأحداث. أما إذا أهملت الأسرة دورها في التربية والتقويم، فإن أفراداً في المجتمع يتخرجون من هذه ال أسرة، قد لا يستطيعون المساهمة في بنائه بل يكونون عوامل هدم وتخريب له. وتلعب البيئة الاجتماعية أيضا دورها الكبير في تنشئة ونمو الفرد. وتختلف البيئة في طبيعة الحال من منطقة الى أخرى. فالبيئة المتفتحة والقابلة للتجديد، تخلق شعبا متفتحا ومسؤولا، يتقدم في كل مناحي الحياة. ولكن البيئة المتحجرة والجامدة، فهي البيئة السيئة التي تقف بالمرصاد من كل أنواع التطوّر والتحديث. ولم تأخذ المدرسة دورها الطليعي في التربية إلا متأخرا. ففي زمن الأقوام البدائية، إقتصرت التربية على التقليد والتدريب، التي كانت تمارس في القبيلة للنشء الجديد، خاصة في إرواء الحاجات المادية من مأكل وملبس ومأوى، بالاضافة الى أعمال الخدمة المنزلية، وصناعة الأدوات الضرورية، وحياكة الأقمشة، والتدرب على السلاح، ورعي الماشية والأعمال الزراعية المختلفة. فالمدرسة هي من المواقع المميزة للتثقيف ولنقل الثقافة. إذ تتحمل بجميع مستوياتها، القسط الأكبر من هذه المسؤولية لتكمل المشوار الذي بدأته الأسرة في التربية، وذلك بمساعدة الطلاب والطالبات في كافة مستوياتهم على التفكير في ذواتهم، وجعلهم قادرين على التفكير في مجتمعهم، وتحمّل مسؤولياتهم اليومية والمستقبلية. ولهذا يجب الحرص على ضرورة إختيار مدرسين مؤهلين أكفاء لهذه المسؤولية، ولكي يجعلوا من هذه المؤسسات مراكز تثقيفية وتعليمية وتربوية. ففي المدرسة إذن تتم التنشئة الحقيقية لتشكيل الافراد وتمكينهم من المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة. لأن المدرسة وجدت أساسا لتكمل دور المنزل والعائلة، وذلك للقيام بوظائف تربوية لم يستطع المنزل إكمالها، من تعليم النشء مبادىء القراءة والكتابة والعلوم، ونقل التراث الثقافي، وإكتساب الخبرة والمعرفة، والتدريب على المنهج الصحيح في التفكير، وحل المشكلات، وتجاوز العقبات المختلفة، وإكتشاف وتنمية القدرات العقلية المختلفة، والمساعدة على تحقيق الطموحات، مع توفير بيئة اجتماعية متزنة يتفاعل الفرد معها لضمان استمرار ثقافة المجتمع واتساقها والمحافظة على الهوية الثقافية. ومن هنا نقول أن على المربين في المدارس، إحترام الطلاب والطالبات، لكونهم في حالة تحوّل ونمو في جميع المجالات. وتُثبت النظريات العلمية الحديثة بأن التهكم الهدام، والمزاح السمج، والأحكام الفجة، التي يصدرها بعض المعلمين والمربين، توقف تقدم الطلاب والطالبات، وتثير عدوانيتهم، وتهبط من عزائمهم. فهم بحاجة ماسة في تلك المرحلة إلى مد يد العون لهم، ومساعدتهم على الإنفتاح على الآخر، وإقامة علاقات ثقة معهم لإكتشاف ذواتهم. وتنظيم أسلوب حياتهم ومنحهم منظومة من المعايير والقيم الصالحة، وحثهم على العلم والتعلم والتعليم، لكي يكون لديهم القدرة على مواجهة التغييرات والتحديّات المعاصرة. حاول الفلاسفة والعلماء المختصون في التربية، في كل زمان ومكان، وعلى طول التاريخ، بتطوير الوظيفة التربوية، وجعلها أكثر ملائمة مع العصر، وأسهل تطبيقا وتنويرا وممارسة. ويقدم لنا تاريخ العملية التربوية، دور المذاهب الفلسفية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذا الصدد. ويبدو تأثير العولمة والإعلام والمدارس التربوية الحديثة أوضح على الفرد والمجتمع مما كان في الماضي. وهي تأثيرات إيجابية في بعض جوانبها، وسلبية في جوانب أخرى كثيرة. فلابد من اشتراك الدولة مع المدرسة والأسرة في إرشاد النشء الجديد، والتمييز بين ما هو صالح، وما هو طالح، وما يمكن قبوله والبناء عليه، وما يجب نبذه وعدم القبول به. وتلعب الوسائل الاعلامية المختلفة من المرئية والسمعية والالكترونية، دورا كبيرا أيضا في المجال التربوي، وفي توجيه الأفراد والجماعات. ويتجاوز ذلك الدور اليوم، إذ يشمل القضاء على الأمية والجهل، ومكافحة التخلف الثقافي، وتطوير مهارات الأساتذة والطلاب والطالبات، والعاملين في جميع المؤسسات التربوية. وتشغل الوسائل التقنية الحديثة وأجهزتها المتنوعة حيزاً كبيراً في حياة الناس، ويكاد لا يخلو منها بيت أو مقهى، أو متجر، لما تشتمل عليه من تقنية متطوّرة، وجاذبية فائقة. إذ أصبحت في نزاع مع المؤسسات الاجتماعية في دورها التربوي، وجعلت من دور الاسرة والمدرسة في معظم الدول، يكاد يقتصر على الاشراف والتوجيه فقط. وللأديان أيضا دور كبير في تنشئة الأجيال وتدريبها على الجوانب الخلقية، وخاصة في موضوع التمييز بين الخير والشر، والتفريق بين العالم المرئي والعالم الغير المرئي، والشعور بالخضوع لعالم أعلى، والتوعية في خصوص الخطيئة، التي تعاقب عليها سلطة غير مرئية أو ممثلو هذه السلطة، مع تنظيم العبادات كالصلاة والذبيحة وسواها. إذ قدرت الأديان بدورها المعرفة العلمية والعلوم الادبية تقديرا عاليا عبر التاريخ، وشجعت على الإستزادة من العلم والمعرفة، ولكنها ركزت على الأعمال الصالحة والسلوك والأخلاق، أكثر من المعلومات والعلوم والمعارف والتكنولوجيات المتطورة. ففي عهد الشريعة الموسوية تميّزت التربية بطابعها الاسري والمنزلي. إذ كانت حياة الأسرة في اليهودية، قوام المجتمع اليهودي البدائي، الذي كان يعتقد بأن الله هو الرئيس والملك الحقيقي للجماعة. ولهذا تركزت التربية بحسب تلك الشريعة، حول مفهوم الله وشريعته وكيفية الانتماء اليه. فأعلن موسى النبي بموجب توجيه من الله قائلا للإسرائيليين: لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك. وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم (تثنية 6 / 6 و 7). وكان على المعلمين للشريعة ممارسة مبادىء الله عمليا، لأنه لم يكن في مقدورهم إقناع الآخرين إلا بعكس صفات الله على إستقامة حياتهم ونبلها. وكان على الاطفال أيضا أن يتعلموا عن طريق المثال والقدوة، القواعد الخلقية والمعتقدات الدينية لدى آبائهم. وفي التربية المسيحية وجدت الأجيال المؤمنة، إنقلابا حقيقيا في السلوك والاخلاق، وكيفية الخضوع للقوانين والسلطات الدنيوية، مع الاهتمام بالانسان (كل الانسان)، ورفع كرامته وسموّ شأنه. ويشهد التاريخ على ما بذلته المسيحية من جهود جبارة في تأسيس المدارس والكليات والمعاهد والجامعات عبر التاريخ، والتي ساهمت في خلق النهضة العلمية والثقافية والحضارية في كل مكان. ولم تكن التربية الاسلامية بعيدة عن جذورها التوراتية والانجيلية النصرانية. ولعل الفرق الوحيد بين التربية الاسلامية والتربية اليهودية ـ المسيحية يكمن في التعليم عن الدين والدنيا الذي يختص به الاسلام، وفي إعداد المرء من صغره على هذه القيّم. ويشهد التاريخ أيضا على دور الاسلام في جميع المناطق التي توغل فيها، بإنشاء المدارس الدينية والمدنية التي إهتمت بالعلوم والثقافة، وتطوير القابليات المختلفة. وإستمر الوضع كذلك الى أن جاءت عصور النهضة الاوربية بالأفكار التحررية، وبالشعارات التي تدعو الى الحرية والعدل والمساواة، والتي بعثت الحاجة الى الثقافة والعلم والمعرفة والتجديد. وبدأت المدارس تنحو نحو الفكر اليبرالي المتحرّر، لتشجيع النشء على القيّم الانسانية المشتركة، والعمل المشترك، مع إزالة الحدود المرسومة بين البشر، والقضاء على الفروقات على أساس اللون والجنس والعرق والدين. وإعداد الفرد والمجتمع، إعداداً علمياً وروحياً وبدنياً، بإعتبار الثقافة تهتم بالجانين الروحي والبدني. ونشهد في أيامنا هذه ثورة تربوية جذرية تحاول أن تعيد النظر في الإرث التربوي كله، وتتجه الى مراحل العمر كله، وتستمر من المهد الى اللحد. ولا تقتصر التربية على فئة معيّنة دون الاخرى، بل تشمل المجتمع بكامله. فالتربية إذن وثيقة الصلة بالثقافة التي يكتسبها الانسان منذ مولده عن طريق الخبرة الشخصية، وعن طريق المجتمع الذي يعيش فيه منذ الصغر. ويؤكد العلماء والمختصون بأن الطفل يستطيع التقاط ثقافة أي مجتمع، اذا عاش فيه فترة زمنية كافية. وتؤكد تلك الدراسات أيضا بأن التربية هي الميدان الذي يتم من خلاله صياغة الشخصية الإنسانية بكل مقوماتها الأخلاقية والسلوكية، والتي تؤثر على الانسان وتجعله قادرا على إنشاء العلاقات الضرورية مع محيطه المادي والاجتماعي والفكري، وتحدد علاقته بأخيه الانسان، وبمحيطه وبالبيئة التي يعيش فيها.
الفصل الثامن الثقافة والعلم لقد رغب الانسان دوما في السيطرة على الطبيعة، وعمل جاهدا على ضبط الكوارث الطبيعية والأوبئة والأمراض وسواها. وبذل العلماء عبر التاريخ، جهودا جبارة في هذا الاتجاه. وغالبا ما واجهوا الكثير من الرفض وسوء الفهم للحقائق التي إكتشفوها وأعلنوا عنها. وكانت قضية غاليلو غاليلي خير مثال على ذلك. ونظرية التطور والبقاء للأصلح مثال آخر يثبت وجود الكثير من سوء الفهم والتفسير الخاطئ والمعوّج للنظريات العلمية. وكلما تطورت العلوم النظرية والطبيعية، وتقدمت البحوثات العلمية، بإستخدام المعايير والتقنيات الحديثة، كلما أصبح في مقدور الانسان فهم وإدراك الحقائق العلمية الغامضة، وكشف الأسرار الخفية وتبسيطها للناس. وشهدت العصور المتأخرة خدمة جليلة قدمها العلماء للبشر، وذلك بالتنبوء لكثير من الحوادث الطبيعية قبل حدوثها. ومعرفة التغييرات المناخية مع علاج الكثير من الأوبئة والأمراض التي كانت تقضي على عدد كبير من البشر. وشمل التطوّر كذلك وسائل النقل السريعة من البرية والبحرية والجوية، والتي أدت الى تقريب المسافات بين القارات والدول وبين البشر. وكان للتقارب مزاياه الحسنة والسيئة في الوقت نفسه. ولعل من أهم الأمور التي نتجت عنه، المزايا العلمية والتقنية التي إنتشرت في العالم كله، وأصبحت متوفرة للجميع، وبأسعار مقبولة جدا. ومع أن التطورات العلمية المختلفة، التي تبدو أنها قد نجحت في قيادة العالم نحو المزيد من الاختراعات والاكتشافات لخدمة البشرية، وتسهيل أمورها، وتحسين أحوالها المعيشية. إلا أن المسيرة العلمية عجزت حتى الآن وللأسف الشديد، عن ضبط الكثير من الحوادث والظواهر الطبيعية، كالعواصف الشديدة، والزلازل والبراكين، والأمراض المستعصية التي لم يستطع التحكم فيها، مثل السرطان والروماتيزم والايدز (السيدا)وغيرها. ونتمنى أن يكون في مقدور العلماء والاطباء القضاء على جميع تلك الأمراض والأوبئة، والسيطرة على الظواهر الطبيعية المختلفة. والمضي قدما في إكتشاف أسرار الكون وغزو الفضاء، وبناء حضارات إنسانية أخرى في الكواكب والنجوم السماوية، وخاصة بعد أن أعلنت الإحصائيات السكانية على عدم قابلية الأرض، في إستيعاب المزيد من البشر في نهاية القرن الواحد والعشرين. وتثبت الكشوفات العلمية ومعارف الانسان القديم، بوجود أدلة دامغة على الطاقة الخلاقة والمُبدعة لدى البشر عبر الآلاف من السنين. فالتطور العلمي لم يأتي مرة واحدة، ولم ينحصر في مكان واحد أو في بلد واحد فقط، بل جاء بالتراكم حينا، وعن طريق الوثبات حينا آخر. وإشترك في تكوينه وإنشاءه عدد كبير من البشر، وفي مختلف العصور الزمنية. ولا بأس من الوثبات العلمية طالما بقيت في حدودها الايجابية، وطالما بقي غرضها خير البشر وخدمة الانسانية. وتدخل كلمة العلم اليوم في كل مجال من مجالات حياتنا سواء في الحديث عن السياسة أو الاقتصاد أو الصحة أو الثقافة. ولا يخلو من ذكرها مجتمع من المجتمعات البشرية، مهما كان ذلك المجتمع متخلفاً ومتأخرا. لأن العلم قد دخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا اليومية، وهو من أهم المكوّنات والأدوات للتغيير الاجتماعي والثقافي. ولا يستطيع أي فرد أو مجتمع الإستغناء عنه، إذ هو الحجر الزاوية والاساس الذي تبنى عليه أية حضارة مُتمدّنة. ولم يقبل العلم منذ بداية العمل به، الطرق العشوائية والخيالية المعروفة في المجال الثقافي الواسع. لأن الاسلوب العلمي يتميّز بالدقة في الطرح، وباستخدام الكثير من الأدلة الدامغة، والبراهين الثابتة، مع التفكير والاستدلال والاستنتاج، والإثبات والنقد والتحليل. ولعل هذا هو الفرق الاساسي والجوهري بين العلم والثقافة. ولعب العامل الاقتصادي دورا كبيرا في تطور الحركة العلمية عبر التاريخ. فكلما إغتنت الدول والامبراطوريات، كلما إزدهرت فيها العلوم والمدارس والترجمات. وخير دليل على ذلك الامبراطورية الاسلامية في العهد العباسي والأموي، والإمبراطورية الرومانية والبيزنطية. وكانت المدرسة وبشكلها البسيط قديما، من أعظم الانجازات التي حققها الانسان لتطوير مهاراته، ولتسجيل إنجازاته اليومية، إذ لعبت دورها الكبير في نشوء الحضارات الإنسانية، وفي عملية التعليم والتهذيب، والتي أدت الى نشوء آراء ومذاهب فكرية وعلمية وفلسفية مختلفة. ولعبت الفلسفة أيضا دورا مهما في العلوم الطبيعية والتقدم العلمي. إذ أن الرؤيا الفلسفية في مجالاتها وإمتداداتها، كانت أوسع وأشمل من مجال العلم الضيق. ولهذا نجد العديد من الفرضيات العلمية، قد إنبثقت من التأمل الفلسفي القديم. وكان العلماء يعتبرون في القديم كالفلاسفة والفنانين، إذ كان الفيلسوف يجمع بين الفن والحكمة والعلم والشعر والطب والموسيقى. وكان من الصعب قديما الفصل بين العالم وعلمه وفلسفته وفنونه وأدبه وشعره. فالثورة العلمية إذن لم تأت من فراغ أو بطريقة مفاجئة أو بقرار من فرد أو مجموعة من الأفراد، بل كانت حتمية تاريخية، جاءت نتيجة لحاجة اقتصادية مستمرة، رافقت حياة الانسان وحضارته. وقد شكلت آراء العلماء القدماء، واكتشافاتهم منذ العصور القديمة أساسا للنهضة الحضارية والعلمية التي نتنعم من خيراتها اليوم. وأصبح العالم اليوم أكثر من أي يوم آخر، مُدركا عظم ما نحن مدينون به الى عدد من العقول البشرية في العصور الماضية، سواء في بلاد ما بين النهرين أو في مصر أو في اليونان. إذ أبدع علماءهم وحكماءهم في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والفنون المختلفة. وكانت الاسكندرية احدى القلاع العظيمة للعلم في العالم القديم، وخاصة في حقل العلوم والفنون. وهناك أسماء لا ينساها التاريخ كالعالم (بطليموس) الذي عمل في الخرائط الكونية، ووضع خريطة لمجموعتنا الشمسية. والعالم (هيباركوس) الذي قدر المسافة بين الارض والقمر. والعالم الجغرافي (ايراسثنس) الذي توصل الى تقدير حجم الارض تقديرا مضبوطا. وكان للعرب أيضا نصيبهم من العلم وتطوير حقوله. وبرز فيهم علماء كبار (كالخوارزمي وابن الهيثم وابن رشد) وغيرهم، من الذين حملوا مشعل العلوم الذي أوقدته الحضارات السابقة في سومر وبابل ومصر والصين والهند واليونان. إلا أنه بعد فقدان العرب لقوّتهم، وسقوط امبراطوريتهم، بدأت الشعوب الاوروبية نهضتها العلمية العظيمة التي شملت كل الخبرات الانسانية مجتمعة. وكان (ليوناردو دافنشي) العالم والفنان والرسام، خير عنوان لتلك النهضة، بالاضافة الى (كوبرنيكوس وغاليلو غاليلي ونيوتن وكبلر) وغيرهم من العلماء والعباقرة، الذين وضعوا الأسس لكثير من الحقائق العلمية حول الكون والفلك والطب والحياة والفنون والجغرافيا وغيرها من العلوم الاخرى. ولذلك ليس من السهل تغافل دور العلم وإهماله في جميع مجالات الحياة. إذ تكفل المنجزات العلمية وتطبيقاتها المختلفة، التي تظهر بإستمرار بتغيير حياة البشر بكل الأشكال المباشرة وغير المباشرة. ونتوقع المزيد من الاكتشافات، بل محيط واسع من الاكتشافات والاختراعات. وقد أحصينا عددا كبيرا من التعاريف التي حفظت عبر التاريخ حول العلم، وتطوّر مفهومه، وعلاقته بالفلسفة والثقافة والفنون. ففي المعاجم الإنكليزية، العديد من التعريفات لكلمة (علم) ومن أشمل تلك التعاريف: ((أن العلم فرع من فروع الدراسة تلاحظ فيه الوقائع وتصنف وتصاغ فيه القوانين الكمية، ويتم التثبت منها)). ويتبيّن من خلال تلك المعاجم أن العلم لا يُكتسب إلا بواسطة الملاحظة والتجربة، ولا يتم توضيحه إلا عن طريق القواعد والقوانين والمبادئ والنظريات. ومن غاياته: حب المعرفة والاطلاع ودفع الانسان الى التعرّف على العالم المحيط به، وحفزه إلى وضع تفسيرات للظاهرات الطبيعية المختلفة. ولكن من إحدى وظائفه الرئيسية: التوصل الى الحقائق، ودفع المعرفة الى أمام من أجل تحقيق التقدم والتطور. وأما إشتقاق لفظته فهو من فعل علم بالشيئ أي عرفه، أو أطلع عليه. ولما كان العلم من الأركان الثقافية المهمّة، ومن وسائلها المعروفة. فهو إذن جزء من حضارة الانسان، وسيبقى ضروريا للحضارة الانسانية الى الأبد. ولم يجد الانسان أفضل منه كوسيلة تعينه في التغلب على مصاعب الحياة والطبيعة، والتحكم في ظواهرها المختلفة. فالعلم هو من صنع الانسان، ومن سعيه وبحثه الدؤوب، لتحقيق احتياجاته من السكن والغذاء والكساء والنقل والدواء والاتصال والبريد وتكنولوجيا البناء وغيرها من الاكتشافات والاختراعات. ومن المعلوم أنه لولا العلم، لقضى الكثيرون من الناس من الأمراض والبرد والجوع والزلازل والبراكين. إلا أنه بالرغم من أهمية العلم وضرورته، إلا أنه يشكو الكثير من صعوبة تدريسه، مقارنة بالموضوعات الأخرى. ولذلك يتجنب دراسته عدد من البالغين الذين لا يرون أي ارتباط له معنى في حياتهم الخاصة. ولكن مع ذلك يبقى العلم أسلوباً معرفياً، يتأهل الفرد من خلاله لتكوين عقلية منطقية، يستطيع من خلالها حمل الثقافة ونشرها بين البشر. والملفت للنظر أن العلم يتصف بالوضوح والدقة، بعكس الثقافة التي قد تشمل بعض الطرق الخيالية والرمزية والحسيّة والعاطفية، البعيدة نوعا ما عن الطرق العلمية والمنطقية. وهذا يدل على أن العلم والثقافة، يرتبطان إرتباطاً جذريا بعضهما ببعض، إذ يعملان كلاهما على تغيير الانسان نحو الأفضل والأسمى. ولهذا فكلما إنتشر العلم في مكان ما، انتشرت معه الثقافة، وقلَّ الجهل والأمية، وزاد معدل الأعمار، والوعي بالذات، وبالوجود والآخر. وتلعب وسائل الاعلام المختلفة، كالتلفزيون والانترنيت والصحف والمجلات والمناهج الدراسية، دورا متميّزا في نشر المفاهيم الثقافة والعلمية لدى الأفراد. وقد استخدمها الغرب ونجح في نشر ثقافته والترويج لأفكاره وقيّمه الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية من خلالها. فإذا لم نواكب العالم المتمدّن، بإعادة صياغة برامجنا وأولياتنا التنموية، فإننا سنبقى في مرحلة الاعتماد على تلك الدول في كل شىء، بالرغم من إمتلاكنا لمعطيات التقدم، ووسائل التغير نحو الأفضل. ولذلك أصبح نشر الثقافة العلمية اليوم على نطاق واسع، ضرورة بالغة الأهمية ولاسيّما في مجتمعاتنا الشرق أوسطية التي تواجه التحديّات الحقيقية للبقاء والاستمرار. بسبب التأخر الحضاري، وتأثير الحضارات المتطوّرة، وأسلوب العولمة المنتشر اليوم، والذي يغزو ثقافاتنا بكل الوسائل والطرق. ولابد في هذه الحالة من فتح النوافذ، والأبواب، والمسامع، والحواس للتكنولوجيات والتقنيات العلمية المتطورة، والقيام بحملة تحديثية للمعارف والثقافات، والكشف عن الطاقات القادرة على التفاعل الحيّ والخلاق، للحاق بالركب الحضاري، ومواكبة العصر الذي نحن فيه. ولا بد أيضا من وجود وعي ثقافي شامل يتضمن برامج البحث والتطوير والتعاون المشترك مع الدول المتطوّرة. فقد استطاع الإنسان أن يبتكر ويطوّر آليات ثقافية متجدّدة ونامية، حقق من خلالها معرفة واسعة في جميع المجالات. وتعزز هذا الدور من خلال الوسائل الحديثة التي توّجت بثورة الاتصالات والمعلوماتية، التي جعلت من التواصل الإنساني أكثر قدرة على إختراق الحواجز والجسور بين البشر. وعلى شبابنا اليوم، إستغلال الفرصة للإستزادة من التعليم الصحيح الذي يؤدي الى الثقافة الحقيقية، والاستعداد لممارسة الفضائل الأخلاقية بجانب المعارف الأخرى، وذلك بخلق نوع من التوازن الصحيح بين العقل والايمان وبين الجسد والروح.
الفصل التاسع الثقافة والحداثة شهد العالم كثيرا من الثورات وفي كل المجالات. فكل جيل جديد يأتي بثورة خاصة به. وكما أن هناك ثورات زراعية وصناعية ومعلوماتية وفنية في العلوم والتقنية، كذلك هناك ثورات ثقافية، لا تقل قوّتها وتأثيرها عن الثورات الأخرى. ولولا الثقافة التي هي الأم الحاضنة لكل تلك الثورات، لما كان بإستطاعة البشر النهوض والتقدم، سواء في المجال العلمي أو الصناعي أو الفني أو غيره من المجالات. وتتميز الثقافة عادة بديناميكية الحركة، والانفتاح، والتحاور والتجديد والحداثة. ومن طبيعتها الإستمرار في النمو، إذا لم تقمع، لأن الإنسان بطبعه مجبول على حُب المعرفة، والرغبة في البحث والاستقصاء من دون توقف. وقد أخذت الأحداث تجري بسرعة فائقة إنسجاما مع ايقاع الحياة السريع. وتغيّرت أبعاد الزمان والمكان في العالم اليوم، مما أدى الى تقلص المسافات والى خلق جو من العالمية والأممية بين المفكرين والفلاسفة والمثقفين في العالم، وظهور ثقافة عالمية واحدة وموحدة، وذات أتجاه حداثي وعقلاني عالمي الهدف والإتجاه. تلهمنا وتدفعنا الى تبادل الأفكار والآراء، والى ضرورة الإعتقاد الدائم بوجود الحداثة في المجال الثقافي وفي المجالات الاخرى. وتغطي الحداثة جميع فروع الثقافة والحضارة والعلم والتكنولوجيا، لكونها ظاهرة تاريخية قابلة للتطور. لذلك لا يمكن تجاهلها بالرغم من تعقيد المصطلح، وسوء الفهم في معناه وضرورته. ولكن هناك شبه إتفاق على أن المصطلح ((الحداثة)) يعني لغويا، كل ما هو حديث وجديد وعلمي ومنطقي ومعاصر. ففي معاجم اللغة العربية، هناك جذور متأصلة للحداثة في تراث اللغة، إذ يقول إبن منظور في لسان العرب: الحداثة هي من الحدث والحديث، وهي نقيض القديم. وأما اصطلاحا فهي تخص الحياة الإنسانية، في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء. وينطبق مفهوم الحداثة على الانسان وتاريخه وأفعاله وسلوكه وفنونه وأفكاره. وأما نهضته وصناعته، فينطبق عليها مفهوم الحديث أو الجديد، كأن نقول عندما نصف أحد المجتمعات البشرية بأنه مجتمع حديث، أو مصنع حديث، أو آلة صناعية حديثة أو جديدة. وينطبق المصطلح نفسه على الحركة الحديثة والعصر الحديث والتراث الحديث والفن الحديث. فالتحديث سيرورة تاريخية واجتماعية مستمرة لا حدود لها، ولا تتعلق فقط بتبلور العلم والتقنية والاقتصاد والسياسة فحسب، وإنما تتعلق بنظرة الانسان الى نفسه، والى الآخر، والى علاقته بمنظومة القيّم والمعايير وطرائق التفكير والعمل والسلوك، وكل ما يتصل بحياة الانسان والمجتمع. وأما الحداثة فهي منهج علمي وفكري، يسعى الى تجديد الفكر والحياة، وتطوير المجتمع بكل فئاته وطبقاته ومناطقه وقواه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإدارية والعسكرية وغيرها. فهي إذن ظاهرة كونية عالمية، وليست محلية، كما يزعم خصومها والمناوئين لها. لأنها تتضمن قيّما ومشتركات إنسانية، وفي مقدمتها المساواة وحرية الفرد وحق الناس في المشاركة السياسية، واستناد السلطة السياسية إلى الشعب، بالاضافة الى الانفتاح والتطور في كل نواحي الحياة. وللحداثة وجوه عديدة، منها وجه باسم ومتفاءل، يصلح لكل المجتمعات البشرية، يرتبط بالتقدم والاكتشافات العلمية وبناء الدولة الديموقراطية الحديثة، واحترام قيّم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة الشعب، وحق التصويت العام، والتناوب على السلطة من قبل الشعب بالانتخاب الديمقراطي الصحيح. ومنها وجه عبوس ومتشائم، لا يصلح لأي مجتمع بشري، لكونه وجه مُخرّب وهادم لا يَبني ولا يُفيد. وخاصة في حالة التمجيد بالتفكير العقلاني في مقابل التفكير الديني. ومحاولة الحداثة بتجاوز الدين وإلغاء سلطة الأخلاق، وزرع كل ما هو جديد، حتى وإن لم يكن بالضرورة ملائما وصالحا لزماننا ومناطقنا الجغرافية. ويقودنا هذا الاعتقاد الى القول بوجوب تطبيق تجاربنا الخاصة مع الحداثة بما يلائم وضعنا وقيّمنا وتقاليدنا وعقائدنا التي تزخر بالأفكار والقيّم العظيمة التي من الممكن إحياؤها وإخصاب النقد الثقافي فيها، لكي تتلائم والعصر الذي نحن فيه. ولذلك يختلف موقف الناس من الحداثة، إذ يؤيدها البعض وينبهر بها، ويقف منها البعض الآخر، موقفا حذرا وخائفا ومُرعبا، بإعتبارها ثورة على كل ما هو ثابت وأصيل. فهي لا تمثل عندهم إلا الفوضى الفكرية والحضارية التي تعمّ حياتنا المعاصرة. وتهدف الحداثة الى تحرير الانسان من قيود الماضي وتقاليد الزمن الغابر والى حثه على الإبداع والتمتع بما جاءت به الثورة المعرفية بجميع فروعها وتفرعاتها. والى توفير الركيزة الأساسية للتطوّر المادي من الناحية العلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية، مع تحديث الأفكار، وتحرير الشعوب من التخلف والجهل، وتوفير الوسائل المساعدة للإبداع الفكري والعلمي والاقتصادي والاجتماعي. وأما علاقة الحداثة بالثقافة فهي علاقة حقيقية غير عابرة، فهما (الثقافة والحداثة) تتعلقان بالذهن البشري المتغيّر، والغير الثابت بحواسه وعقله. وكذلك الأمر بالنسبة الى الفكر البشري الذي له القابلية على التطوّر والتوسع وخلق الوقائع الجديدة. فالفكر هو القوة الحقيقية التي يُحرّك العالم ويُقرّر مصائر البشر، إذ له منافعه وطيّباته ومخاطره وسلبياته العديدة. فهو الذي صنع الثقافة والحضارة. ويستطيع أيضا هدمها وتخريبها، كما يستطيع هدم العالم والقضاء عليه نهائيا. ويؤكد العلماء والمختصون أنه لولا الفكر لما كانت المدنيات والحضارات، ولما سيطر الانسان على كل ما حوله. ولولا الحداثة لما إستطاع الانسان تعديل وتطوير أفكاره وأبحاثه وثقافاته وتراثه وعقائده وحياته الأجتماعية. وعليه فإن الحداثة، جزء مهم من الفكر البشري. وهي مرحلة من مراحل تطور البشرية الذي تأسس على سلسلة متتابعة من التطورات، يرتقي الانسان من خلالها نحو السموّ والكمال. فمن واجب ثقافتنا الشرقية أن تقتحم العصر الجديد، وأن تدخل فيه من أبوابه الواسعة. ولا بد لها أن تستمد كل ما هو إيجابي ومُفيد من الثقافات الاخرى، وإلا انهارت وعادت للمرحلة البدائية التي لا نتمناها لثقافتنا، ولا لمجتمعاتنا الشرقية. ونستنتج من كل هذا بأننا لا يمكننا العيش في معزل عن العصر، ولا خارجه. ولكن لابد لنا من العيش مع الزمن حتى يكون في مقدورنا الخروج من أزمتنا الخانقة، والتي تتمثل في العجز عن الحفـاظ على قيّمنا الحضاريـة من طرف، والعجز على الإندمـاج في النظام الحديث من الجهة الأخرى. ولعل من الأسباب التي أدت الى وصول مجتمعاتنا الى هذه الحالة عديدة ومنها: التسلط على الانسان وقهره بإسم الحرية والعدالة والامن والامان. ورفض الحرية والتعددية، وعدم احترام الرأي والرأي الآخر. وعدم التعامل مع الدين والتراث بموضوعية منهجية متجددة ومتطورة. وتغليف المجتمع بالتراث القديم والثقافات الشعبية الموروثة، وكأنها منزلة من السماء. وتدخل السلطة في كل صغيرة وكبيرة مع تقييد الفكر والعقل ومحاولة حصر الثقافة في فئة اجتماعية تدور حول السلطة وتقوم على مجاملتها لقاء مبالغ كبيرة أو منصب سياسي رفيع. ولا يكون الحل في طبيعة الحال إلا بقبول مبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية الأخرى، وبإطلاق الحريات العامة وتطبيق الديمقراطية الحقيقية، وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للقيام بدورها الايجابي البناء، وإنشاء جسر يصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. وعدم النظر الى الجانب الظاهري والسلبي من الحداثة، بل بالاحرى التركيز على الجانب الايجابي البناء، الذي يرفع من مستوانا الفكري والمادي، للأخذ بأسباب التطوّر والتقدم، مع المحافظة على ثوابتنا ومبادئنا الأخلاقية. ومن هنا نستنتج بأن الدخول في عصر الحداثة أصبح خياراً لا رجعة فيه بالنسبة الى كل المجتمعات البشرية. فمن يتخلف عنه يصبح مهمّشاً، وربما يخرج من دائرة التاريخ، لأن رياح التغيير والاصلاح والتحديث، قد دخلت معظم المجتمعات البشرية، وأدت الى تغيير نمط الحياة وطرق التفكير والســلوك والعمــل، بما ينسجم وروح العصر. وليطمأن الخائفون على دينهم وتراثهم مما تجلبه الحداثة من تحديث للفكر والثقافة والدين والتراث والفن والتعليم. إذ ما الضرر من تطبيق مفاهيم الحداثة في التعددية والحرية والمساواة والديمقراطية المعاصرة. أليست كلها مفاهيم لا يستطيع أي مجتمع بشري أن يتقدم ويتمدّن من دونها. وألسنا كلنا بحاجة ماسة للتعبير عن مكنونات قلوبنا، والعيش في نظام يَعمّه السلام، وتُطبق فيه الحرية الفردية والديمقراطية الحقيقية. فليس من داع للخوف والتشاؤم من كل ما هو جديد، لأن الخوف لا يجلب إلا الفشل، والتشاؤم لا يجلب إلا التقوقع والانزواء. ولكن قد يقال بأن الخوف، شعور طبيعي ملازم لحياة الإنسان، إلا أن المشكلة ليست في الخوف بحد ذاته بل في تضخيمه، مما يجعلنا، مشلولين وفاقدين للرؤيا المستقبلية، وفاقدي القدرة على مواجهة الحقيقة، وغير قادرين على الحفاظ على ما هو لدينا، ولا القبول بما يجلبه العصر الجديد من الطيبات والحسنات. وكل ما ننجح فيه وللأسف الشديد هو إتهام الآخر وبالأخص الغرب، بكل ما لدينا من سوء حال أو نكبة أو تخلف أو إنحطاط، وبإلقاء اللوم والتهم الباطلة جزافا، ناسين ممارسات السلطات الديكتاتورية التي تحكمنا، واستغلالها لثروات بلادنا، وتحكمها واستعبادها للسلطة، وممارستها لأقسى أنواع القمع، تجاه شعوبنا بجميع طبقاتهم وأجيالهم. فلا يمكن تقييد العقل، وتعبئة المجتمع بإتجاه تكميم الأفواه للعودة الى الأنظمة الشمولية التي تلغي الانسان وحقوقه، بحجة الحفاظ على الدين والتراث والقيّم والاخلاق. لأن حاجتنا الماسة ليست الى الأنظمة التي تُفرّق وتُشرّع القَهر والقوّة في العلاقات الانسانية والاجتماعية والسياسية، بل هي في بناء الوعي الاجتماعي والسياسي على أسس العدالة والمساواة وحقوق الانسان، وفي تجاوز كل أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه. وإنني متفائل جدا في قابلية مجتمعاتنا ومؤسساتنا الثقافية الخروج من حالة التردي والانحطاط وذلك بالتفاعل الإيجابي مع كل أنواع الثقافات الحديثة بعيدا عن ثقافة الاستبداد، وفكرة المؤامرة، وإتهام الآخر، بكل ما يصيبنا من سوء وتخريب ودمار. وما نتمناه فعلا، أن يفتح انساننا الشرق أوسطي ذهنه، ويُجدّد ما في نفسه من أفكار وثقافات مضى عليها الزمن وانقضى. وما نتمناه من مثقفينا المختصين والنخبة منهم في الخصوص، أن يطلقوا العنان لأفكارهم، ويوسعوا قاعدة ثقافتهم، لتشمل قطاعا أوسع من الناس المحتاجين الى التنوير والثقافة الحقيقية المُتجدّدة. وأخيرا وليس آخرا، نتمنى أن تُشرق علينا شمس الحرية والديمقراطية الحقيقية، وأن تنهار جدران التخلف البغيض الذي ينخر مجتمعاتنا ولعهود طويلة. وأن نفتح أبواب قلوبنا ومنافذ عقولنا، لنستقبل الأفكار الإيجابية البناءة التي تساعد على نهضة شعوبنا وتقدمها، حتى نكون في مصاف الدول المُتمدّنة.
الفصل العاشر الثقافة والعولمة يتميّز عصرنا الحاضر بنمو وتقدم المعرفة والعلوم المكتشفة من أجل خير البشرية من جهة، وبفناء اليقينيات الثابتة في السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة والحياة الاجتماعية من جهة أخرى. ولذلك تبدو الاشياء كلها قابلة للتحول والتبدل والتغيير في عالمنا المعاصر، بسبب التسارع في عمليات تطوّر المعارف البشرية والعلمية والتقنية، التي أدخلتنا عهدا جديدا يسمى بعهد الثورات العلمية التي غيّرت وجه العالم، وبالتالي غيّرت وجه الثقافة التي تسلك اليوم نهجا جديدا لم نألفه من قبل. ولعبت الثورات الحديثة كثورة الاتصالات والمواصلات السريعة من الطيران والشبكات المرئية والمسموعة والانترنيت، دورا عظيما في الإنتشار العالمي والفوري للرسائل والأفكار والصور والخطابات والمقابلات الثقافية، التي أدت بدورها الى تقوية الأواصر وتقريب البشر من بعضهم البعض، وتقاربهم مع الأحداث اليومية والتطوّرات الثقافية، التي تحدث في أي بقعة من العالم. وتبدو تلك الاكتشافات، وكأنها يسّرت حياة البشر وإستدامت الحياة على الكرة الأرضية من طرف، ولكن في الحقيقة عقدتها من أطراف أخرى كثيرة. ولكن ما يجعلنا متفائلين بخصوص التطوّرات والتغيرات الكبيرة في العالم هو توسع مفهوم الثقافة التي تغيّرت مناهجها وأهدافها وركائزها كثيرا عما كانت عليه في القديم. إذ كان مفهوم الثقافة محصورا في فئة من الناس الذين يدعون بالحكماء أو الفلاسفة أو رجال الدين. ولكن اليوم أصبح المفهوم، له مساحات شاسعة أدت الى انتشار ثقافة الحوار من جهة، والى سوء الفهم والخوف من المفاهيم الجديدة، وما تجلبه من هدم للقيّم والتراث والدين على حساب التجديد والحداثة والعولمة من جهة أخرى. ولكن الامور ليست بهذه العماهة التي يصورها البعض من الذين يدعون بأن العولمة تهدد ثقافتنا وقيّمنا وأدياننا بالفناء. وبأننا يجب أن نصد ونقصي هذه المفاهيم، ونمنعها من النفاذ الى محيطنا الجغرافي، بإعتبارها كلها شر وفتنة، تنوي القضاء على وجودنا، ونهب خيراتنا، والسيطرة على بلداننا وشعوبنا، وإستعمار أراضينا. ولعل أكبر دليل على جهلنا بمفهوم العولمة هو ما حدث في جنوب شرق آسيا، ومن قبلها اليابان. إذ عرفت تلك الشعوب كيفية الرد على الغرب بالعلم والتحديث الذاتي للثقافة والسياسة والاقتصاد، وليس بالتغريب والتقليد الاعمى، كما يحدث في بعض البلدان في العالم الثالث. فإن كانت الصين، الدولة المغلقة نوعا ما، عرفت كيف تتعامل مع العولمة، فكم بالاحرى دولنا التي هي الأقرب الى الغرب جغرافيا، والأكثر تعاملا، تاريخيا ودينيا واجتماعيا وحضاريا. فلا بد إذن من الحوار والتقارب والاحترام المتبادل بيننا، وبين شعوب الارض قاطبة. ولا بد من التضامن والعمل المشترك في مختلف الميادين في سبيل تجنب حدوث الشروخ في العلاقات الدولية، وللتقليل من الفجوات التي تحدث بيننا وبينهم. لأن الحوار وتبادل المعلومات والمعارف والخبرات على أساس الاحترام المتبادل وحسن النية، هي أمور كفيلة بخلق الثقة بين الشعوب والأمم، وكفيلة أيضا بإزالة أسباب التوترات القائمة حاليا أو محاولة تجنب حدوثها، وإلا فما الفائدة من البحث عن الحلول بعد وقوع المشاكل وتفاقمها، كما حدث في كثير من المناطق الساخنة من العالم، والتي أدت الى الخسائر الجسيمة في الأرواح والممتلكات. ومن الممكن للمدققين في تاريخ البشرية أن يحكموا على الصراع بين الحضارات والأمم، والذي لم يكن أساسه يوما قبول الآخر، بقدر ما كان على أساس المادة والاقتصاد والموارد والثروات الطبيعية. لذا يؤكد معظم المفكرين ومنهم (صموئيل هتنغتون) في كتابه نهاية التاريخ: بأن أفضل ضمان يبعد إحتمال نشوب حرب عالمية، هو قيام نظام عالمي على أساس تعدد الحضارات، وليس على أساس صراع الحضارات. وما نشهده في هذه الحقبة الزمنية من الدعوة الى العولمة كظاهرة حضارية وثقافية جديدة، والتي أصبحت سمة من سمات العصر، وضرورة من ضرورات الحياة المتمدّنة. لهي في الحقيقة حقبة حساسة، إذ تدعونا إلى اتخاذ موقف من العولمة التي تعتبر حركة عالمية ديناميكية مستمرة، تبرز داخل العلاقات الدولية، وتحمل تحوّلات مستجدة وهامة، ولاسيما في الانتاج الاقتصادي والفكري والتقني. فالعولمة تهدف إذن إلى المزيد من الانفتاح في السياسة والاقتصاد والثقافة. وتدعو الى تشكيل الشعوب والمجتمعات، وخاصة الشباب منهم بالخروج من الإطر والمرجعيات المجتمعية التقليدية الجامدة، والانفتاح على العالم ككيان واحد ينتمون اليه. والتبشير بمرحلة عالمية جديدة تمثل نقيض المراحل السابقة، ولتحقيق حضارة إنسانية مشتركة تكون مضلة للجميع من دون استثناء. ولكن العولمة ليست بمنأى من التهجم الصارخ، كغيرها من الافكار والمفاهيم الجديدة التي ظهرت في العالم. إذ منهم من يقبلها، ويستحسن كل ما تتضمنه من أساليب ومفاهيم وتعاليم وقيّم. ومنهم من يرفضها بإعتبارها شر ودمار للثقافات والتقاليد والقيّم. ومنهم من يقبلها ولكن بحذر شديد. ولكن الضرورة التاريخية والواقع الحضاري الجديد، يفرضان علينا بقبول هذا المفهوم كأمر حضاري وإيجابي، مع أننا لسنا مُضطرين بقبول كل ما تأتي به العولمة. إذ من الممكن رفض بعض جزئياتها التي تهدد حقيقة هويتنا ونظمنا وقيّمنا الحضارية والثقافية. ففي تحليل سريع لمدلولات العولمة في اللغة العربية، كان لا بد من ترجمة المصطلح الإنكليزي Globalization ، والمشتق من أصل المصطلح اللاتيني (Glob) الذي يعني الكرة الأرضية. والمأخوذ لغويا من مصطلح العالم والعالمية. وقد ترجم المصطلح Globalization لفترة وجيزة من الزمن بالكونية. إلا إن مصطلح (العولمة) أصبح له الغلبة والانتشار بين المفكرين والباحثين، وأهل الساسة والاقتصاد والإعلام. ومن هنا جاء قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة، بإجازة استعمال (العولمة) كترجمة صريحة ومناسبة للمصطلح. ولم يكن تعريف العولمة سهلا وهيّنا في بداية الأمر، لأنه في الواقع لم يكن مصطلحاً لغويا جامداً، بل مفهوما شموليا يذهب عميقاً في جميع الاتجاهات لتوصيف حركة التغيير المتواصلة. وأما المعنى اللغوي للكلمة: فهو توحيد أنشطة الأرض الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كمركز موحد، من دون الاعتبار للاختلافات في الأديان والثقافات والجنسيّات والأعراق. وقد ركز معظم الباحثين والمفكرين، على الجانب الاقتصادي دون الجوانب الاخرى، التي لها أهميتها الكبيرة أيضا، كالجانب الثقافي والحضاري والاجتماعي. ولعل من الصعب إيجاد تعريف شامل ودقيق للعولمة بسبب صعوبة وغموض المصطلح، وتشعب معانيه ودلالاته. ولذلك يوجد عدد لا بأس به من التعاريف في الساحة العلمية والثقافية اليوم، منها إيجابية وذات دلالات بناءة ومركزة، ومنها تعاريف سلبية تحط من قيمة المفهوم، وتجعل منه اخطبوطا ينوي القضاء على الأديان والثقافات واقتصاديات الدول والمجتمعات. ومع تعاريف أخرى كثيرة، تعتبر العولمة ثورة تكنولوجية واجتماعية وعلمية واقتصادية، تنوي اندماج الأسواق العالمية في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وإنتقال الأموال والقوى العاملة والتقنيّات التكنولوجية المختلفة، لجعل العالم كرة كونية صغيرة. فالعولمة إذن هي في القلب من الثقافة الحديثة، لأنها إستطاعت إعطاء هوية جديدة للبشرية، وجعلت من العالم دائرة إجتماعية وسياسية وإقتصادية وثقافية واحدة، تتلاشى في داخلها الحدود الجغرافية والثقافية، لخلق نوع من الحالة التكاملية في سوق المعلومات والاتصالات عن طريق الاستثمار وشمولية أسواق الأسهم، التي انتشرت في كل مكان. ولكن هناك من يقف ضد العولمة ويعتبرها نوع من أنواع الإنسلاخ عن القيّم والمبادئ والتقاليد والعادات، وذلك بذوبانها في مفهوم عالمي جامع يستند على قيّم الثقافة الغربية. فالعولمة برأي هؤلاء، هي السبب في نشوء الصراعات الجديدة بين الشعوب والدول، وبين العلم والمعرفة، وبين المجتمع الذي يقبل بالتجديد والعولمة، وبين المجتمع الذي يرفض كل ذلك. إلا أن هناك شبه إتفاق على أن العولمة أمر لا بد منها، ولا يمكن مقاومتها، وخاصة بعد أن أصبحت توصف في خانة الواقع الحتمي والضروري، الذي يتطلبه التطوّر التدريجي للعالم. فمن يصدها ويعاديها يكون، كمن يتقوقع في زاوية ضيّقة يقضي على نفسه بالفناء، ويحكم على مجتمعه بالموت المَحتوم، ويخرج بالتالي من دائرة التاريخ. ولا يمكن كذلك نكران أهمية العولمة للمجتمعات البشرية، وخاصة ما أحدثته من تغييرات في مجالات عديدة، وما قدمته من الاكتشافات والاختراعات التي تخص مجال المعلوماتية والاتصالاتية. وما يهمنا هنا، المجال الثقافي ككيان متعلق بالعولمة تعلقا جوهريا. إذ كما أن الثقافة مهمّة بالنسبة الى العولمة، كذلك العولمة مهمّة بالنسبة الى الثقافة، وكل شىء بالتالي يعود للثقافة في الأخير. وأصبح في مقدور المثقفين اليوم، بيان وإظهار الطرق الحديثة والمعاصرة للثقافة، من خلال العولمة التي تعد شيئا متحركا وديناميكيا، مثلها مثل الثقافة التي أصبح في مقدورها أن تصبح عالمية الإتجاه والهدف، بعد أن كانت مجالاتها محلية وضيّقة. ولكن اليوم أصبحت الحياة الفكرية والثقافية قريبة من جميع المواقع على الكرة الأرضية بحيث تستطيع توظيف المعرفة العلمية والثقافية بيسر وسهولة. ولذلك أصبحت العلاقة بين الثقافة والعولمة ذات أهمية استراتيجية، بإعتبار العولمة شريان الثقافة الحديثة، كما هي شريان لجميع المجالات الاخرى في الحياة. ولم يكن كل هذا التطور التقني في الغرب، وفي العالم المتمدّن ممكنا لولا تلازم تقدم التقنية مع فلسفة العلم والعلوم الانسانية. وهذا ما نفتقده في مجتمعاتنا وحكوماتنا الشرق أوسطية، التي تعتقد إعتقادا خاطئا بإمكانية التصنيع من خلال استيراد التكنولوجيا العلمية وحدها من دون الاستثمار في بناء المعرفة العلمية واستيعاب الفلسفة العلمية. وينطبق الشىء نفسه بالنسبة الى الثقافة والعلوم الانسانية، وذلك بإستيرادنا للنظريات الجاهزة والمنهجيات الثقافية الغريبة عن محيطنا الجغرافي، ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا من دون دراسة عميقة وتدقيق كبير. ولذلك يتعيّن على مجتمعاتنا وحكوماتنا التخلص من الحرفية في النقل، والتي تقتل الروح الإبداعية فينا، وتُجمّد طاقاتنا وإمكانياتنا وتجعلنا غير قادرين على تحرير الفرد من قيود الماضي. لذلك فالفرد يحتاج أن يكون عضوا فعالا يتحمل مسؤوليته في الانتاج والابداع الاقتصادي والفكري والثقافي. وحاجته إلى التثقيف والتعليم عن طريق التكنولوجيا الحديثة، أمر لا مناص منه اليوم، لتثقيفه ونهضته، ولتنمية المجتمعات البشرية، ولمواجهة التخلف والامية، التي ثبت بالدليل القاطع أن الاقتصار على الطرق التقليدية في مكافحتها أمر فاشل وغير عملي البتة. ولقد ساهمت العولمة في بروز مفاهيم وقيّم وقناعات ومواقف وسلوكيات انسانية مشتركة في كل المناطق الحضارية والثقافية. ولعبت الثقافة العولمية بالرغم من كل السلبيات التي رافقتها في نقل الأفكار والقناعات والآيديولوجيات إلى المستوى العالمي. ولا شك في أن هذا الارتقاء بالثقافة إلى الطور العالمي، يعد حلما إنسانيا قديما، نادى به الرسل والأنبياء، ويبدو تحقيقه وإنجازه قريب وعلى الأبواب. فمن منا لا يبتهج لعولمة تشمل العلم والطب والادب والفنون، وتجعل كل المجالات، عالمية ومتوفرة للجميع ومن دون استثناء.
المقدمة ................................. الفصل الاول ....تعريف الثقافة ......... الفصل الثاني.... الثقافة والمثقف......... الفصل الثالث ....الثقافة واللغة .......... الفصل الرابع ....الثقافة والحضارة ..... الفصل الخامس...الثقافة والدين ......... الفصل السادس...الثقافة والسياسة....... الفصل السابع ...الثقافة والتربية......... الفصل الثامن....الثقافة والعلم.......... الفصل التاسع ...الثقافة والحداثة........ الفصل العاشر ...الثقافة والعولمة.......
المراجع والمصادر الفصل الاول ـ ابن خلدون، عبد الرحمن: المقدمة، ضبط وتقديم: محمد الاسكندراني، بيروت ـ دار الكتاب العربي 1998. ـ بابا، هومي. ك ـ موقع الثقافة ـ ترجمة ثائر ديب ـ القاهرة، مصر العربية 2004. ـ لنتون، رالف ـ دراسة الانسان ـ ترجمة عبد الملك الناشف ـ المكتبة العصرية ـ بيروت، لبنان 1964 . ـ ميلاد، زكي ـ المسألة الثقافية من أجل بناء نظرية في الثقافة ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت، لبنان 2005. ـ الفلاحي، احمد ـ حول الثقافة ـ دار الانتشار العربي ـ بيروت، لبنان 2007. الفصل الثاني ـ مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط ـ دار الدعوة ـ استنبول. ـ الوردي، د. علي: وعاظ السلاطين ـ دار كوفان للنشر، (الطبعة الثانية)، بيروت، لبنان. ـ ليكرك، جيرار: سوسيولوجيا المثقفين ـ ترجمة د. جورج كتورة ـ دار الكتاب الجديد المتحدة ـ بيروت، لبنان 2008 . ـ شريح ، د. محمد عادل ـ ثقافة في الاسر: نحو تفكيك المقولات النهضوية العربية ـ دار الفكر ـ دمشق، سوريا 2008. ـ فيلد، ريد: المجتمع وثقافته ـ ترجمة الدكتور فاروق العادلي ـ الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971. ـ مالك، بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة: عبد الصبور شاهين ـ دمشق، دار الفكر 2000 .
الفصل الثالث ـ ابن منظور: لسان العرب ـ طبعة دار المعارف. ـ دي سوسور، فرديناند: علم اللغة العام ـ دار آفاق عربية العدد( 3)، ترجمة الكتور يوئيل يوسف عزيز ـ بغداد 1985 . ـ لعيبي، حاكم مالك: الترادف في اللغة ـ منشورات وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد، العراق 1980. ـ الصالح، الدكتور صبحي: دراسات في فقه اللغة ـ دار العلم للملايين ـ بيروت، لبنان 1978. ـ جاكسون، دونالد: تاريخ الكتابة ـ ترجمة محمد علام خضر ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 2007 . ـ برجين، أولاف ـ قصة الكتابة: رموز وأبجديات جدارية مكتبة الاسكندرية ـ ترجمة أيمن منصور ـ مصر 2005 . الفصل الرابع ـ ديورانت، وول: قصة الحضارة ـ الجزء الاول ـ ترجمة زكي نجيب محمود ـ القاهرة 1965 . ـ فارو، باتريك: العقل والحضارة: دراسة حول فرص عقلنة اخلاقية للمجتمع: ترجمة حسن عودة ـ دار الفارابي 2009 . ـ ايمار، أندريه، مع مجموعة من المؤلفين: تاريخ الحضارات العام ـ الجزء الاول ترجمة: فريد داغر وفؤاد أبو ريحان ـ بيروت، لبنان 2006 . ـ الجنابي، ميثم: الحضارة الاسلامية روح الاعتدال واليقين ـ دار المدى للثقافة والنشر ـ سوريا 2006 . الفصل الخامس ـ ديفز، بول: الله والعقل والكون، ترجمة سعد الدين خرفان ووائل بشير الاناسي ـ دار علاء الدين ـ سوريا 2008 . ـ قنصوة، دكتور صلاح: الموضوعية في العلوم الانسانية: عرض نقدي لمناهج البحث ـ بيروت، لبنان 1984. ـ صالحة، سليمان خزاعي: ضياء العقل: نظريات متألقة للعقل والفكر والحياة والوجود ـ دار الوطنية الجديدة ـ سوريا 2006. الفصل السادس ـ روبان، موريس: تاريخ الافكار السياسية المقارن ـ ترجمة الدكتور دعد قناب عائدة ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت 2004 . ـ عبد الحي، الدكتور عمر: الفكر السياسي في العصور القديمة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت 2006. ـ قربان، الدكتور ملحم: قضايا الفكر السياسي المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت 1987 . الفصل السابع ـ النجيحي، الدكتور محمد لبيب: الاسس الاجتماعية للتربية ـ دار النهضة العربية للطباعة والنشر ـ بيروت 1965 . ـ وضيفي، الدكتور عاطف: الثقافة والشخصية ومحدداتها الثقافية ـ دار النهضة العربية للطباعة والنشر ـ بيروت 1981 . ـ أدلر، الفرد: سيكولوجيتك في الحياة، كيف نحياها ـ تعريب عبد العلي الجسماني ـ دار العربية للعلوم 1996 . ـ عبد الدائم، الدكتور عبد الله: التربية التجريبية والبحث التربوي ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1981 . الفصل الثامن ـ برنال ، ج. د : العلم في التاريخ (الجزء الاول والثاني) ترجمة شاكر ابراهيم سعد ـ المؤسسة العربية للدراسة والنشرـ بيروت 1982 . ـ أيدون، سيرل: فضولية العلم ـ ترجمة احمد مغربي ـ مركز البابطين للترجمة ـ بيروت 2005 . الفصل التاسع ـ طالب، محمد سعيد: الحداثة العربية: مواقف وافكار (الفكر العربي بين وعي الذات وهيمنة الآخر) ـ سوريا 2003. ـ برادبري، مالكوم وجيمس ماكفارلين: الحداثة ـ ترجمة مؤيد حسن فوزي ـ وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد 1987. ـ السيف، الدكتور توفيق: الحداثة كحاجة دينية ـ الدار العربية للعلوم مركز افاق للدراسات والابحاث ـ بيروت 2006 . ـ الغرسلاوي، علي ـ مجلة الحداثة ـ العدد (47ـ 54) ، دار الحداثة ـ بيروت، لبنان 2000 . الفصل العاشر ـ حبيب، الدكتور كاظم: العولمة من منظور (مختلف الجزء الاول والثاني ) ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2005 . ـ هورايب، فرنسيس: تكوين الثقافة الابداعية ـ تعريب محمد سمير العطاني ـ مكتبة العبيكان 2003 . ـ توماسيللو، ميشيل: الاصول الثقافية للمعرفة البشرية ـ ترجمة شوقي جلال ـ ابو ضبي 2006 . ـ الخولي، أسامة مع مجموعة من الكتاب: العرب .... الى اين؟ مركز دراسات الوحدة العربية سلسلة كتب المستقبل العربي 21 بيروت 2002 .
#صبري_المقدسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموسوعة المسيحية: النشوء والتكوين
-
الدرب الجديد
-
المستحيل يتعشش فقط في عقول من يؤمنون به
-
البروتستنتية من الوجهة النظر الكاثوليكية
-
الهرطقات عبر العصور
-
فهم حركة العصر الجديد
-
حوار الاديان: دواء شافِ للإنسانية المُعَذَبة
-
السياسة والإرهاب
-
الدين والعلم بين الصراع والمصالحة
-
الحرب والسلام
-
المرأة في الدين والتشريعات المدنية
-
الأخلاق
-
الصوفية طريق لممارسة الحب الالهي الأصيل
-
دور الاسطورة في حفظ الكلمة المقدسة
-
هل نحن وحدنا في الكون الواسع واللامحدود
-
روسيا تعود من جديد
-
من يقود الحركة التنويرية في العالم الإسلامي اليوم؟!!
-
متى تتحرر مجتمعاتنا من تصلب العقول والإنغلاق الفكري؟!!
-
الديمقراطية انجح وسيلة لتحرير العقول
-
90 مليون تحية للشعب المصري
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|