عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4575 - 2014 / 9 / 15 - 17:21
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مثلا في الأسطورة اليونانية التي تؤكد على مفهوم اليباب الذي يعني اللا منتج واللا منتظم عكس ما هو دارج عادة في الترجمات على أن اليباب يشير للعدم, والحقيقة هي غير ذلك لأن النصوص تشير إلى وجود مادي لكنه عقيم غير منتج وغير منظم ولا منتظم وبالتالي فالقول بأن الأسطورة اليونانية بنيت أساسها الفكري على العدم هو قول مخالف للحقيقية كما جاء بالأسطورة (كان اليباب يشكل المادة الخام الأولية التي تفتقر إلى الهيئة والشكل حيث انبثقت عنه فيما بعد كائنات مستقلة محددة: الأرض- الجبال, الغياهب- الهاويات- ثرثروس, الليل- نيكس والايروس ,الذي لا تكون الحياة بدونه, ولدت جايا أورانوس السماء, وغطتها بالشفق الأحمر المتلألئ, وأصبح زوجا لها كانت جايا وأورانوس أول زوج وزوجة في الكون).,وهذه فكرة اليباب يمكننا أن نقارنها بفكرة اللا شيئية التي وردت في النصوص القرآنية برغم الفارق بين الفهمين.
لا تفترق الأسطورة اليونانية عن مثيلاتها عند كل الشعوب فهي لم تبرر ولا تفسر وجود الأله الكثر ولا تفسر أصل الوجود والعلة التي كانت وستكون إلا أنها تستمر بسرد النص بصورة تمثيلية مادية خالية من القدرة على الترابط بين الأحداث أو ربط المقدمات الفكرية بالنتائج بصورة سلسلة ومقبولة للعقل العام.
الأسطورة اليونانية تنفرد عن غيرها من الأساطير الشرقية بميزة أن تصورها للخلق مر بعصور متتالية نتيجة الصراعات بين الآلهة أنفسهم والأحقاد والضغائن وكان لكل مجموعة خلق بشرية لها صفة معدن مختص بها يفشي عن طبيعة الحياة والتكوين الذي سيكونون عليه أو أسلوب الحياة التي سيعشها هذا الجيل ,فهناك العصر الذهبي والسلالة البشرية المرتبطة به ثم العصر الفضي فالبرونزي فالحديدي ,وتبعا لنوع السلالة تختلف القيم التكوينية التي كونت هذا الجيل.
لقد كانت أخر السلاسل البشرية هي السلسة البشرية في العصر الحديدي والتي من المفترض ووفقا للأسطورة اليونانية انها هي التي تشير إلى وجودنا الحالي بما تتميز به من صفات خاصة تنفرد بها عما سبقها((وجاءت بعدهم السلالة التي تعرف بالسلالة الحديدية والتي من المفروض, بموجب حكايات الأساطير اليونانية أن تكون أقسى وأصعب من جميع السلالات التي سبقتها كان يترتب على أهل العصر الحديدي أن يعملوا ويشقوا طوال أيام حياتهم وأن يعانوا ويموتون كذلك ومع كل هذا فقد كانوا يُعتبرون أقوى من جميع السابقين, وكانوا أيضا السبب المباشر لخلود وبقاء آلهة الاول))*.
لم تبني الأسطورة اليونانية أسها في نظرية الخلق كما جاء مع مثيلاتها عند الشعوب الأخرى على فرضية الماء والتراب, بل قالت بأن البشر توالدوا أساسا من نكاحات متعددة بين الآلهة ذاتها بموجب قوانينها بعض هذه النكاحات كانت حراما والاخرى موافقة للنظم الألوهية عند اهل السماء لذلك ترى أن قاعدة انتهاك الحرمات والتبريرات التي تبنى عليها مقبولة بالفكر الغربي الذي أستمد في جذوره المعطيات التكوينية الأولى والراسخة فيه وهو أسلوب كثيرا ما اعتمدت عليه الأنا الغربية للتبرير عن مخالفتها للكثير من القيم التي تؤمن بها أصلا.
قريبا من هذا الجو والفهم وأعتقد أن القرب الجغرافي والتزاوج الثقافي بين الحضارتين المصرية واليونانية القديمة نجد التشابه والقرب في رسم خطوط الصورة الأسطوري لقضية الخلق مقاربة أو متشابه برسم الأحداث وإن لم تتشابه الأحداث أيضا, ففي الأسطورة المصرية نرى أن الخلق الأول يبدأ إلهيا وليس من طين كما جاء عندهم((رع مع الإله آتوم انجبت طفلين هم شو آلهة الهواء والريح وتيفنوت التي كانت آلهة الخصب ولكن كلا الطفلين اختفوا، فارسل الله "آتوم" عينه الالهية لتبحث عن الاطفال وعندما وجدتهم بكى الإله من الفرح لتتحول دموعه الى البشر الاوائل الاخوة شو وتيفوت احبوا بعضهم البعض ليتناكحوا ويحصلوا الى ابناء توائم، لتكون الاولى آلهة السماء نوت والثاني آلهة الارض جيب ))*،هذا البناء القصصي الفكري يخالف أسطورة الخلق عند العراقيين والسوريين القدماء من حيث المكون الأول والعلة الأولى, بالرغم الإشارة هنا إلى دموع الآلهة التي تحولت إلى البشر الأوائل, وهو أشاره أيضا من حيث جوهرها للماء.
في أسطورة أخرى من الصنف الذي يبتعد كثيرا عن النموذج القريب من الفهم الديني نجده عند بعض القبائل الأفريقية التي تسكن النيجر وهي قبائل اليوروبا ,الأسطورة هنا تتداخل فيها الروح الأفريقية والأثر البيئي له ملامح واضحة لا تكاد تخفى في رسم الصورة وترتيب السياق التمثيلي في سردها, حيث أننا نلاحظ مثلا مفردات الرمل والسلسلة الذهبية والقواقع والنخل والدجاجة وهي مكونات تمثيلية فاعلة لم نجدها في أي من الأساطير الأخرى في السرد أو في الأصل, وحتى الرمل لا علاقة له بالتكوين الخلقي للإنسان بل كان مادة لصنع الجبال والوديان عكس التراب الذي هو المادة الرئيسية في ذلك في الأساطير الأخرى.
تبدأ الأسطورة عند شعب اليوروبا هناك في الأعلى حيث مجمع الآلهة الذي يمثل في الحقيقة عندهم مجلس شيوخ القبيلة صورة إنعكاسية للواقع المتخيل للسماء, كانت هناك دوما في حياة الأفارقة العجوز الحكيمة الطبيبة صاحبة الرأي الأخير, هذه الصورة انعكست أيضا على بناء الأسطورة حيث أن مجلس الآلهة قرر استشارة هذه الحكيمة بما قرروا((قالت أورنوميله كي نخلق اليابسة نحتاج الى بعض الأشياء" ثم أردفت تشرح التفاصيل: "سلسلة ذهبية طويلة, صدفة حلزونية مليئة بالرمل, دجاجة بيضاء قطة سوداء وشجرة نخيل(المقصود هنا شجرة نخيل خاصة ,تنمو في افريقيا, ويستخرج من ثمارها النبيذ)جمع الإله أوبتلا جميع الأشياء المطلوبة ثم وضعها في حقيبة أخذ السلسلة الذهبية الطويلة أولا, وعلقها في ركن من السماء, واستعان بها للنزول الى الأسفل نزل ببطء الى أن اكتشف أنه وصل حتى طرف السلسلة, وشعر أنه يطأ على الأرضية من تحته بعد ذلك أخرج اوبتلا صدفة الحلزون من حقيبته ثم رش الرمل من جوفها نحو الضباب من تحته, ثم أطلق سراح الدجاجة حطت الدجاجة على الرمل وبدأت تنبثه وتنقره, فانتشر الرمل الى كل ناحية. وسرعان ما تحول الرمل الى جبال عالية وإلى سهول ووديان))*.
لقد كان الخلق الأول هنا على الأرض اذا حسب ما ورد في الأسطورة الأفريقية, ولكننا نشاهد البدائية والبساطة والسذاجة في تكويناتها وخاصة في تكوين الجبال والسهول من حبات الرمل على الأرض التي لم تشرح الأسطورة كيفيتها الأولى كيف كانت مسطحة مستويه بأي شكل, كما لم تشرح الأسطورة من أين جي بالرمل والمخلوقات الأخرى القطة والدجاجة وصدفة الحلزون من نفس الأرض أم من مكان أخر.
لكن الرواية الأسطورية هنا منفرده وغريبة بعض الشيء إلا أنها تعود لتبني أس التكوين على نفس العلة التي سطرتها غيرها في إيجاد الخلق وهو الملل والفراغ((ولكن لم يمض زمن طويل حتى شعر اوبتلا بالملل والوحدة, وكي يُشغل نفسه راح ينتج أشكالا من الطين, وخلال انشغاله بذلك أخذ يشرب من خمر التمور ))*.لقد كانت الأشكال المنتجة والتي بعثت بها الحياة من السماء بناء على طلب أوبتلا قبيحة وغير متكاملة, فسأل أوبتلا ملك السماء أولورون عن السبب فقال أنه الخمر.
لقد قرر أوبتلا أن ينتج دمى بشريه من طين وهو بكامل وعيه مبتعدا عن الخمر فكان له ما أراد((انتابه الذعر وأقسم أن لا يشرب الخمرة أبدًا أثناء انتاج الأشكال جلس أوبتلا ثانية وأخذ ينتج الأشكال من الطين مجددًا, لكن الأشخاص التي شكلها من الطين كانت متكاملة تماما في هذه المرة نفخ أولورون الروح في هذه الأشخاص فكانت متقنة, وانتشرت في الحال لبناء البيوت والمدن )). نجد هنا أشاره دينية أخرى وردت في النصوص الرسالية وهي قضية النفخ في الطين.
في أسطورة قريبة من شعب اليوروبا جغرافيا نجد أن الأساس الصوري والفكري يختلف تماما عن مجمل الأساطير في تصورها لقضية الخلق أنها أسطورة شعب دوغون ذوي الأقنعة الخشبية في وسط الصحراء الأفريقية الكبرى((اسطورة الخلق عند شعب دوغون طويلة للغاية ومعقدة وتفاصيلها يعرفها فقط الكهنة، ولكن جـوهـرهـا قـائـم على توضيح صعـوبة خلـق انسان كامل وبدون اخطاء وحتى عندما اضطر الله ان يخلقه بنفسه لم يستطع ان يخـلقـه كاملا، لقد اضطر الإله ان يذعـن للواقع ويطلب من الانسان ان يقص النقص الذي لم يستطع الإله معالجته من هنا جاءت عادة التطهير (الختان) عند الشعوب الأفريقية القديمة))*.
ننتقل إلى مكان جغرافي أخر وبعيد لنرى أسطورة شعب هنود المايا في أمريكا الشمالية والتي تتخلص أسطورتهم بأن الخلق أيضا مر بعدة مراحل تجريبية بدأت من الطين الذي فشل في أن يكون صلدا وقويا ثم من الخشب الذي انتج إنسان غبي بالرغم من قوته وبالتجربة الثالثة صنع من نبات الفاصولياء والقصب إلا أن البشر كانوا لا يتكلمون وأغبياء وأخيرا قررت الآلهة أن يصنعوا من الذرة وكانوا شبيها للآلهة وكانوا أذكياء وكان عددهم أربعة وهم أصل القبائل الأربعة التي خلق الله لهم وهم نيام زوجات بعددهم ليكونوا الشعوب فيما بعد.
في هذه الأسطورة هناك تقارب من أسطورة الخلق اليونانية التي مرت كلاهما بمراحل تجريبية تتعلق بالتوافق بين رغبة الآلهة والنموذج المخلوق, هذا التقارب لا يستدعي مطلقا أن يكون هناك من أتصال مباشر بين الحضارتين ,ولكن من المؤكد أن العقلية الإنسانية التي صاغت الصورتين لا بد أن بينهما عامل تكويني مشترك ما هو ‘لا إنعكاس لطرائق التفكير الإنسانية وإسقاط هذه الطرائق على مقومات الأسطورة وخطوطها الفكرية.
بعد أن أستعرضنا صور مختلفة من أساطير شتى من بقاع مختلفة من الأرض لا بد أن نشير إلى العوامل المشتركة بينها والقيم اتي تتوافق على مراديتها مما يمكننا أن نؤسس لفهم كامل عن الأسطورة كيف صورت لنا قضية الخلق وما الرابط الذي يربط بين الجميع بالرغم من الاختلاف الثقافي والديني والجنسي وحتى في الزمان والمكان.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟