|
العيون النظيفة
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4575 - 2014 / 9 / 15 - 13:22
المحور:
المجتمع المدني
ما "العيون النظيفة"؟ هل هناك عيونٌ نظيفة وعيونٌ غير نظيفة؟ نعم. العيونُ النظيفة هي التي تعوّدت على رؤية الجمال، وترفض أن تتقبل القبحَ مهما انتشر وشاع حتى أصبح ملء الدنيا. ترفضُ أن "تتعوّد" على رؤية القذارة والفوضى والنشاذ البصري، مهما تعالت من حولنا تلالُ القمامة وألوانُ المباني المتنافرة والعشوائياتُ التي تشوه وجه مصر الناصع منذ عقود. وأما العيون غيرُ النظيفة، فهي التي تشاهد القبحَ، ولا تنزعج. أو انزعجت برهةً، ثم خفّ انزعاجُها مع الوقت، حتى أصبح القبحُ اعتياديًّا طبيعيًّا في نظرها، فـ"تعوّدت" عليه، ثم تطورت لتدخل في مرحلة "صناعة القبح" وانتاجه والمشاركة في نشره وإشاعته. نظافة العينين ليست بغسلهما بالماء من القذى والأوساخ وتطهيرهما بالقطرات والمحاليل المعقّمة، وفقط، بل الأهم بغسلهما من مشاهِد القبح، ورفضها أن يسقط القبحُ على شبكيتها مهما تكاثفت خيوطه وصوره فوق صفحتهما. مَن يمتلك العيونَ النظيفة؟ الإنسان الذي شاهد الجمالَ في طفولته، فألفه واستعذبه واستراح له؛ فراح يرفض أن تتلوث عيناه بالقبح والدمامة. يظلّ يلفظ الصور القبيحة ويشيح عنها وجهه كلما صادفته. لكنه لن يكتفي بالرفض. بل سيقاوم القبح في كل لحظة يلتقيه فيها ويهاجم من ينتجه، وينتقد من رآه وصمت. ومَن يمتلك العيونَ غيرَ النظيفة؟ الإنسان الذي لم يشاهد الجمال في طفولته، فلم يألفه. واعتادت عيناه على الركاكة والدمامة والقذارة والفوضى، حتى ألِفها ولم تعد تؤذي عينيه كأنها من طبائع الأمور. ربما يكون هو ذاته أحد صُنّاعها، أو على الأقل لا تزعجه إن صادفته، فلا ينتقد صانعها. ويستوي لديه أن يمرَّ على كوم قمامة أو حديقة زهور. أنا من الذين عضّوا بالنواجذ على نظافة عيونهم ورفضوا أن يصدقوا هذا القبح الذي تسبح فيه القاهرة، حتى في أرقى أحيائها. تمسّكتُ بأن أظل على "اندهاشي" كلما رأيتُ شخصًا يُلقي ورقة في طريق، ولا أكتفي بالدهشة بل أطارده وأسأله ببراءة (كأنما أشاهد هذا المشهد لأول مرة في حياتي ): “لماذا تلوّث الطريق يا سيدي؟! لماذا تُلقي قاذوراتك في عينيّ؟!” وأتحمل ما ألقى من سخرية، ولا أتوب عن فعلتي التي قد تتكرر كل يوم مع كل صانع قبح. ويبقى سؤال: كيف وصلنا إلى هذا؟ هاكُم الحكاية. قبل خمسين عامًا، يُحكى أن رجلا ألقى ورقةً في الشارع النظيف. شاهده رجلٌ آخر، فاندهش جدًّا وغضب جدًّا، وقال في سرّه: “رجلٌ مجنون يلقي قمامة في الشارع!”. لكنه صمت وقال: “وأنا مالي!”. في اليوم التالي جاء الرجلُ الأولُ ورمى علبةً فارغة في الطريق. شاهده الرجلُ الثاني واندهش قليلا وغضب قليلا (أقل من اليوم الأول ). في اليوم الثالث ألقى الرجلُ الأول كيسًا مملوءًا بالقمامة. لم يندهش الرجلُ الثاني الذي كان مندهشًا في اليوم الأول، ولم يغضب؛ لأن المشهد الغريبَ صار مألوفًا وعاديًّا ويوميًّا. في اليوم الرابع شارك الرجلُ الثاني الرجلَ الأول في إلقاء بعض القمامة في الطريق، وابتسم كلٌّ منهما للآخر. كثُر الرجالُ وتوالتِ الأيامُ وتكوّن بعد أسبوعين تلٌّ صغير من القمامة، تحوّل إلى تلٍّ كبير، ثم هضبةٍ، ثم جبل شاهق، ثم جبال كثيرة اختفت معها معالمُ المدينة. بعد عام، كان هناك رجلٌ (نظيف العينين) يحمل زجاجة مياه فارغة يود التخلص منها. راح يبحث بعينيه يُمنةً ويسرةً عن صندوق قمامة فلم يجد. سأل أحدَ المارة أين بوسعه أن يلقي مخلفاته، فابتسم الأخيرُ وقال: “أنت مجنون؟! الأرضُ صندوقُ قمامتنا!” هكذا تتكون الثقافات وتتغير التركيبة المزاجية والدماغية والروحية للبشر. الذي اندهش من مرأى القبح أول يوم، اعتاده في اليوم التالي، وصنعه في اليوم الثالث، ثم دعا إليه في اليوم الرابع. السلوكُ المتكرر يصبح عادةً. والعادةُ تصبح ثقافة. والثقافة تصير نهجًا وأسلوب حياة. تكرار السلوك الشاذ، ينزع عنه شذوذه، فيصبح مع الوقت اعتياديًّا وطبيعيًّا، فإن حاولت مقاومته أصبحت أنت الشاذَّ، ونظر إليك الناسُ بشفقة، وربما شتموك وضربوك. التواطؤ على الخطأ، وثقافة "المعلش"، حوّلت مدينة جميلة مثل "القاهرة"، كانت حتى ستيتيات القرن الماضي من أجمل وأنظف مدن العالم، إلى هذا الكيان المشوه الغارق في الفوضى والقبح والقمامة. يعود الفضل في هذا إلى رجلين غير كريمين نختصمهما أمام الله. رجلٌ مهملٌ كسول ألقى الورقة الأولى. ورجلٌ عدميّ أناماليٌّ صمت عن خطأ الرجل الأول وتواطأ معه. لو كان نهره على فعلته في اليوم الأول، لتبدّلت أمورٌ كثيرة. لهذا، في بلاد الغرب النظيفة، يُحاسبُ القانونُ الرجلين معًا. المخطئ والمتواطئ مع المخطئ. مَن ألقى القمامة أو دخّن سيجارة في مكان مغلق، وكذلك مَن شاهد تلك الأفعالَ غير الحضارية ولم يُبلغ السلطات. كم عملية undo نحتاج إليها لتعود مصرُ جميلةً وأنيقةً ونظيفة وأم الدنيا، كما كانت؟!
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مجلة نصف الدنيا مع الشاعرة فاطمة ناعوت بعد فوزها بجائزة
...
-
عروس النيل
-
مصريون ضد الحزن
-
هنا قناة السويس
-
قَسَتْ أمي.... ودلّلني القراء
-
نجيب محفوظ، هل سامحتني؟!
-
إلا إيزيس يا داعش!
-
محنتي مع المثقفين
-
داعش أم الرسام الدنماركي؟
-
حوار مجلة (حواء) المصرية مع الشاعرة فاطمة ناعوت
-
الراهبات يا د. جمعة!
-
المسرح في المستشفى
-
الجهل، الحصان الرابح
-
داعش أم دولة الإسلام أم عمعيص؟
-
اقتلوهما كما قتلتم ابن رشد
-
من أرض مشروع القناة
-
من ينقذ كردستان الجميلة؟
-
تكبيرات داعش
-
دافنينو سوا تحت الوصايا السبع
-
الخوف من جائزة جبران
المزيد.....
-
مراسلة العالم: بريطانيا تلمح الى التزامها بتطبيق مذكرة اعتقا
...
-
إصابة 16 شخصا جراء حريق في مأوى للاجئين في ألمانيا
-
مظاهرة حاشدة مناهضة للحكومة في تل أبيب تطالب بحل قضية الأسرى
...
-
آلاف الإسرائيليين يتظاهرون ضد نتنياهو
-
مسؤول أميركي يعلق لـ-الحرة- على وقف إسرائيل الاعتقال الإداري
...
-
لماذا تعجز الأمم المتحدة عن حماية نفسها من إسرائيل؟
-
مرشح ترامب لوزارة أمنية ينتمي للواء متورط بجرائم حرب في العر
...
-
لندن.. اعتقال نتنياهو ودعم إسرائيل
-
اعتقالات واقتحامات بالضفة ومستوطنون يهاجمون بلدة تل الرميدة
...
-
المقررة الاممية البانيز: مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت غير كا
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|