|
منزلنا الريفي (57)
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4568 - 2014 / 9 / 8 - 18:41
المحور:
الادب والفن
القراءة في بني كرزاز
أن تحمل كتابا في بني كرزاز ذلك هو الشر العظيم، أذكر في طفولتي أنني لما كنت أغادر المدرسة في المساء، كانت أمي تحثني على الذهاب إلى المرعى، فالدراسة في نظرها تبقى في المدرسة، ولما تكون في المرعى عليك أن تقطع نهائيا مع الدراسة، عليك أن تراقب المواشي، أن تجيد الاعتناء بها، وإذا اختفت أية شاة، فلن تجد لك موطئا في المنزل، هناك سيستقبلك النادر (كتلة من التبن) حتى الصباح من أجل مباشرة البحث عن الشاة الضائعة في الغابة، وإذا التقيت أي راع عليك أن تسأله، ربما سيساعدك، ولئن لم تعثر عليها ستظل مطرودا دون نوم أو شرب أو أكل إلى حين أن تفتر هذه الطامة الكبرى. الكرزازيون لا يبالون بالدراسة، فكثرة الفشل التي طالت أبناءهم جعلت منهم لا يعلقون عليها آمالا كبرى، معظمهم لم يذهب بعيدا، لهذا تراهم يذمونها ذما. حينما كنت أذهب إلى المرعى، كنت أحمل كتابا، لم أكن أتركه أمام العلن، بل كنت أدسه في سروالي حتى لا يراه الجميع متهما إياي بالجنون، غير أنه في بعض الأحيان، كان يطفو أمام مرأى بعض المتعصبين –الفاشلين، فأسمع شخصا يقول للآخر : - شوف ولد فلان قاري مع راسو، راه معرت فين وصل ؟؟!! هههههه . فيرد عليه الآخر متأففا : - آش غادي يدير الخر ؟؟؟ لا دار شي قلوة هانت، ولد العدروجي دار شي قلوة ؟؟!! بحال هادوك المارك كيقراو ت يعياو وفي لخر كيتسطاو هههههههههه. بينما هذا الكلام التافه كان ينساب في دواخلي بمرارة، بدأت أشعر أن الكتاب لا يخيف من يستحوذون على خيرات البلاد وحسب، بل يخيف الرعاع القرويين، إنه جرحهم النازف، والحركة الفعالة الناسفة لكسلهم الفكري وجمودهم الذهني وانحطاطهم المعيشي، فالكتاب حركة يلازم حركة التاريخ، ومن ثمة فهم يريدون من يقرأ ألا يقرأ، عليه أن يظل في وضعيته، فبقاؤه في وضعيته في حالة تخلف بقاؤه في وضعيتهم، ولهذا يريدونك أن تكون فاشلا كما فشلوا هم، أما إذا أتيت بفكرة جديدة، فإنهم لن يقووا على فهمها، هناك سيتبدى فشلهم وضعفهم منكسرا أمام مرآتهم، وتلك أعظم مصيبة في تاريخهم. إن الجماهير القروية المستغبنة لا تريد من أبنائها سوى التصفيق للمقدم وللقايد وللعامل ...وهلم جر. لهذا يبقى عقلها سطحيا مغبونا ومتخلفا لا يجيد سوى ترديد أغاني العلوة وأغاني عبيدات الرمى والشيخات التي تأكسدت بفعل الغبار. فبحكم تنشئتها الفوضوية تنحو نحو الرقص الفاقد لأية سمفونية أو معنى، وبالتالي فهم يرقصون بأجسادهم ولا يرقصون بفكرهم نشدانا للتغيير . والذي يظهر هو التكرار والاجترار . منذ ذلك الوقت أصبحت أحمل الكتاب، ولم أعد أبالي بأحد، فليقولوا ما يقولون ! إنني لن أفعل أية خرية أو قلوة، وأنني في الأخير سيركبني الجنون أسفا على السنوات التي قضيتها هدرا بين حيطان المدرسة، هل يعرفون هم الجنون ؟؟ لو كانوا يعرفون الجنون باعتباره حالة عقلية تنم عن نضج فكري ساهم في تقدم الحضارة البشرية لرثوا حالهم هم قبل أن يرثوا حالي أنا، ولكن مع من تتكلم ؟؟ هل تتكلم مع ذلك الرجل الذي قال لي : "إيلا طفرتيه أجي عكر ليا ؟؟ أم تتكلم مع تلك السيدة العجوز التي قالت لي : سير الله يعطيك الكلاخ ؟؟ إن القرويين موصومون بالفشل، فالقروي يعلم أن أية خطوة سيقدم عليها إلا وسيتعثر، فالدولة بنت له مدرسة ومستوصف وتعاونية، ولكن كل تلك البنايات من آجور مهترئ ما فتئ يسقط على أبنائه دفعة واحدة، فيجعل مستقبلهم ضبابيا، لهذا يتحدث القرويون عن الجنون تارة، ويتحدثون تارة أخرى عن البراز، هناك علاقة وطيدة بين التيمتين، فالهاجس الذي يسيطر على القرويين هو الأكل، بمعنى الإشباع الغريزي الحيواني، فما داموا في صراع مع هذا الهاجس، فلا يمكن لمن سار في منحى غير ذلك إلا أن يوصم بالجنون، وحسب ماسلاو (عالم نفس) هناك تدرج في سلم حاجات الفرد، فالحاجة الغريزية تكون في قاعدة الأولويات، سرعان ما يليها الحاجة الاجتماعية -الثقافية، فتعقبها الحاجة النفسية التي تؤدي إلى تقدير الذات، ومن ثمة لا يمكن للفرد أن يقدر ذاته وهو محروم من الأكل والشرب والجنس والنوم والعمل، ولهذا فالمدرسة لا معنى لها كون القروي في صراع مع هواجس أخرى غير الهاجس الثقافي، حتى فكرة الهاجس الثقافي مردودة على اعتبار أن المدرسة في المغرب شبيهة بمؤسسة سجنية ولا صلة لها بعالم الثقافة، فهي تنتمي إلى عالم الإسمنت وليس إلى عالم الفكر، وبالتالي فالتلميذ القروي سينجح في المراحل الابتدائية كميا ولكن فيما بعد لن ينجح كيفيا، فهو لا يمتلك تعبئة بدئية تخول له الصراع في الحقل الثقافي، وهو محكوم عليه بالإخفاق ما دام لا يملك ترسانة ثقافية تخول له الصراع في كافة الحقول، من هنا تبقى المدرسة في العالم القروي أداة لتضليل طبقي مجالي لا تهدف بتاتا إلى زرع الوعي السياسي والثقافي لصنع قرويين مواطنين مساهمين في تنمية قراهم وفي تنمية بلدهم. لا يمكن للقروي سوى أن يعبر بلغة برازية- قلوانية (جنسية) شفوية تستهجن المكتوب باعتباره يحمل ثقافة المسيطرين، فالكتابة تكون بالقلم، وهذا الأخير يحيل على القضيب كونه أداة جنس، وهذا يدفع القروي لكي يعبر بهذه اللغة تعبيرا عن رد فعل ينم عن انتفاضة رجولية توصم المدرسة كمؤسسة مدينية تسعى للهيمنة بالمجنونة، ففاعلوها نظرا لأنهم يملكون السلطة يتكلمون برموز غير مفهومة في نظر القرويين، وليس أمام القروي سوى أن يطلق هذا الوصم الرابض في لاشعوره. صحيح أنه في شعوره لا يتوانى في تمجيد المسيطرين، لكن في عمقه يعاني من عقدة النقص، ولكن يعوض عن هذه العقدة تراه يتسلح بلغة برازية استهجانية لكل من يركب ثقافة المكتوب كونها ثقافة تنتج فشل المسيطر عليهم، ولا تتأخر في تبخيسهم لكي يبقوا في منزلة القرويين. كل من فكر بطريقة مختلفة في المجتمع القروي يوصم بالجنون. هذا المجتمع يرفض التجديد فكرا وممارسة، حتى فكرة الجنون غير مقبولة، بل تكون محطة تبخيس، في طفولتي أذكر رجلا استقر بالدوار، كان يعتمر رزة، ويرتدي جلبابا مع قدمين حافيتين، ربض هذا الرجل قرب الوادي، كان يحس بجوع ماحق، ولم يتردد المراهقون في إعطائه الروث والبراز، وكان يقبل ذلك على مضض مرددا : اللي باع لرض مكمل، يمشي من الجهنم مسفح ، لست أدري سر هذا الرجل، ولكنه يبدو مجنونا آفاقيا باع أرضه، وفضل الترحال، غير أنه يظهر ندمه على ذلك. ليس الجنون هو الترحال في الأرض ضدا على التكلس والاستقرار، بل هو التحليق بعيدا في سماء مختلفة بأجنحة جديدة تحلق ببراديغم جديد، ولهذا فكل المفكرين من سقراط مرورا بديكارت وكوبرنيك ووصولا إلى ماركس ونيتشه وديريدا كانوا بمثابة مجانين، فسقراط مات بالسم لكونه اتهم بالجنون، وديكارت عاش منعزلا، وماركس حكم عليه بالهروب من مكان لآخر بسبب أفكاره...وبالتالي ليس عيبا أن تكون مجنونا، وإنما العيب أن تعيش رعية تجتر أفكار مجتمع مجنون ينبذ الكتب ويكره التغيير، ولا يقبل التجديد. ليس الشر هو أن تقرأ، بل الشر هو ألا تقرأ، فتعيش مستلبا ضائعا راكعا لمن يهيمنون على ثروات البلاد، ومساهما في تأخير الوعي القروي للنهوض بأوضاعه، من هنا ينبغي للمثقف أن يساهم في حركة تنوير المجتمع القروي متخذا من الكتابة سلاحا لهدم الأمية الأبجدية والثقافية، وفاضحا لألاعيب الاستحمار السياسي الممنهج من طرف المسؤولين السياسيين المتحدين لاشعوريا مع جماهير الرعاع القرويين الذين لا يهمهم سوى الخبز كأنهم نعاج تتصارع من أجل العلف، فما يهمهم سوى العلف والتبرز في الطرقات كالمواشي، أما النهوض بالإنسان ثقافيا وطبيا وخدماتيا واقتصاديا فتبقى هذه الأمور مغيبة في الوعي القروي، ولهذا نجد حربا ضروسا تشن على الثقافة غربيا وقوميا ووطنيا ومحليا، لأنها سلاح خطير تؤدي إلى صنع الإنسان، والمافيات التي حكمت على نفسها لعب دور الوسيط للامبريالية العالمية تريد محو الثقافة كلية للتحكم بالعقول، بل حذفها نهائيا صانعة أدوات استهلاكية. ليس أمام الكرزازيين وجموع القرويين من خيار سوى الوعي، لكن المسؤولية أمام المثقفين (إن وجدوا) لكي يضطلعوا بمهمتهم من أجل تنوير الجماهير المنومة، والدفع بها لفهم أوضاعها من أجل التحرك لتنمية المنطقة، لكن للأسف ليس هناك مفكرون، فالمدرسة لم تنتج شيئا للقيام بهذا العمل التاريخي للتحرك من داخل القرية من أجل القرية رافعة شعار الإنسانية والمواطنة وليس شعار القبلية والولاء والخضوع. بيد أن ما نقوم به ليس إلا البداية بغية هدم حقيقي للذهنية الخنوعية، من أجل بناء مجتمع متوازن وفعال على أسس المواطنة والإنسانية.
عبد الله عنتار/ 08 شتنبر2014/ بنسليمان – المغرب
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رحلة إلى فضالات ...غبن يرتدي معطف الاستحمار
-
منزلنا الريفي (56)
-
رحلة إلى بوزنيقة ...رحلة بين أحضان الرعاع
-
على شاطئ الموت
-
دموعي من دموع غايا *
-
أحلامي المقصوصة - قصيدة شاعر كرزازي مجهول
-
منزلنا الريفي (55)
-
رحلة بطعم الهدر
-
قريتي العائمة
-
أولى المحاولات
-
رحلتي أنا و زيزو : بحث عن المواطنة الضائعة
-
هارب من المنفى
-
سطوة الأفول
-
لا تثق فيهن
-
البون الذي ينزف دما
-
فلتكبري في حلمي
-
منزلنا الريفي (54)
-
إسفين على جرحي الثخين
-
لأن عيوني ماتت
-
أرحل مضارعا السماء
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|