|
كَوَابيسُ السَّلام!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1287 - 2005 / 8 / 15 - 13:32
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
لغفلةٍ ما ، أو ربما لرغبة باطنيَّة فى التغافل هى بعض طبع بنى آدم مذ سوَّاهم الله ، ونفخ فيهم من روحه ، وقذف بالأسماء كلها على ألسنتهم ، لم نكن مهيَّأين فى السودان لاستقبال الحدث الجلل ، بل لم يكن ليخطر حتى على بال أكثرنا سوداويَّة ، وأغرقنا فى التشاؤم ، جنوبيين كنا أم شماليين ، أن يختفى من وجودنا ، بغتة هكذا ، ما بين غمضة عين وانتباهتها ، الرجل الذى انحفر اسمه عميقاً فى لوح حياتنا ، لنحو من ربع قرن ، حتى بدا كما لو لم يكن ، فحسب ، شاغلاً من شواغل هذه الحياة فى مفصل تاريخى محدَّد ، بل بعضاً من شروط تحققها التى لا غنى عنها ، ولازمة من لوازمها التى لا تكاد تكون بدونها ، إتفقنا معه أم اختلفنا: جون قرنق دى مابيور! ولئن كان ذلك ، عموماً ، كذلك ، لدى غالب أهل البلاد التى ظلت آمالها تتبدَّد ، الواحد تلو الآخر ، عبر قرون التعارف المفقود بين شتى مِللِها ، والمساكنة المعلولة بين مختلف نِحَلِها ، فإنه لكذلك قطعاً ، ومن كلِّ بُدٍّ ، وعلى نحو أفدح يقيناً ، لدى كادحى الجنوب بالأخص ، بل لدى كلِّ مهمَّشى جغرافيا الآلام العريضة قاطبة ، الرازحين ، من اقصاها إلى أقصاها ، تحت سنابك الفقر المادىِّ الساحق ، والقهر المعنوىِّ الماحق ، الذين ما كادوا يستبشرون ، فى مشهد السَّاحة الخضراء ، بمقدم الرجل الميمون برهة ، أو يستضيئون بوعده الباذخ لحظات ، حتى انطفأ بريق البشارة المتلاصف فى التوِّ ، وتبخرت نداوة الوعد الجميل فى الحين ، فإذا بهم ، فى مشهد الحدث الفاجع ، وقد ألفوا أنفسهم ، على حين غرَّة ، يقبضون الريح ، فحسب ، ويمضغون الحِصْرم ، ما وسعهم المضغ ، ويضرسون! هكذا ، ولمَّا دوَّى فى الآفاق ، على غير انتظار أو توقع ، أن رمزهم الفذ ، والنائب الأول لرئيس جمهوريَّتهم ، جثة هامدة ملقاة ، طوال يوم وليلتين ، فى عراء سفح (الاماتونج) ، وسط نثار طائرة مشئومة لم تعرف حقيقتها بعدُ ، وما من احد يستطيع أن يجزم مطمئناً بأن ما حدث قد حدث قضاءً وقدراً أم بفعل فاعل (!) بينما الحكومة تلزم الصمت متشاغلة بتصريف شئونها العاديَّة ، حينذاك كان طبيعياً ومفهوماً تماماً أن تزلزل الأرض زلزالها ، وأن تخرج السوالب المتوارثة أثقالها ، وأن تنفث مراجل الصدور التى ما انفكت تغلى ، جيلاً بعد جيل ، على مواقد السايكولوجيا الاجتماعيَّة الرعويَّة ، أسخن أبخرتها من المشاعر والأحاسيس والعواطف والأمزجة والإيحاءات والذائقات والانفعالات والمُدرَكات والتصوُّرات والقابليَّات والسلوكيَّات ، وما لا عدَّ له ولا حدَّ من انعكاسات ذلك كله أفعالاً وردود أفعال متضادَّة حدَّ التناحر ، حيث (الحقيقىُّ) جنباً إلى جنب (المتوهَّم) ، و(الصريح) و(المسكوت عنه) سيَّان! فمن ذا الذى يلوم ، يا ترى ، ومن ذا الذى يُلام؟! لا تنتطح عنزان فى أن الدولة أبدت عجزاً مريعاً عن مجرَّد التهيُّؤ لاستقبال الأزمة ، دَعْ إدارتها. وليس أدلَّ على ذلك من أنه ، وعلى حين كان السيِّد المستشار (الاعلامىُّ) لرئيس الجمهوريَّة يصبُّ جام غضبه على قناة (الجزيرة) صباح الاثنين 1/8/05 ، جرَّاء ما وصفه (بكذب) مراسلها فى الخرطوم ، وكلُّ (جريرته) أنه حاول جهد طاقته نقل صورة تقريبيَّة عمَّا كان يحسَّه حوله من إرهاص بدمدمة الكارثة المحدقة ، كانت القناة نفسها تستأذنه ، فى ذات اللحظة ، لتنقل بيان رئاسة الجمهوريَّة الذى أكد النبأ بصوت وزير (الاعلام)! فأىُّ اضطراب وأىُّ ارتباك؟! أما أقصى ما استطاعت هذه الدولة بلوغه من تدبير خلال الساعات التالية ، والخرطوم تحترق، فلم يزد عن نصب مأتم كبير لتلقى العزاء فى الفقيد ، ثم العودة فوراً إلى الشئ الوحيد الذى تتقنه ، ولا يبدو أنها بسبيلها لأن تنفطم منه: الاجراءات الاستثنائيَّة ، رغم أنف (اتفاق السلام) و(الدستور الانتقالى) ، وذلك بإعلان والى الخرطوم (حظر التجول) بين السادسة مساءً والسادسة صباحاً! هذا الاجراء يتضمَّن ، بالطبع ، تعليقاً (لحريَّة التنقل) المضمونة بنصِّ المادة/42/1 من الدستور الذى لا يجيز ذلك ، حسب نصَّى المادتين/48 ـ 211/أ ، إلا مؤقتاً ، وفى ظلِّ (حالة طوارئ) معلنة. لكن نصَّ المادة/210/1 لا يسمح بإعلان (حالة الطوارئ) نفسها إلا من قبل رئيس الجمهوريَّة ، و(بعد) الحصول على موافقة نائبه (الأول) ، وفقط فى حالات الحرب أو الغزو أو الحصار أو الكوارث الطبيعيَّة أو الأوبئة. وبالنظر لكون الحريات المنصوص عليها فى الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدوليَّة المصادق عليها تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الدستور بنصِّ المادة/27/3 ، فإن البروتوكول الثانى الاضافى الملحق باتفاقيات جنيف الأربع المبرمة فى 12/8/1949م ، والمتعلق بحماية ضحايا (المنازعات المسلحة) غير الدوليَّة ، لا يدرج الاضطرابات والتوترات الداخليَّة ، كالشغب وأعمال العنف العرضيَّة ، ضمن مفهومه (للمنازعات المسلحة) حسب نصِّ المادة/1/2 منه. الأصل فى الدولة إذن أن تؤدى واجبها فى حفظ السلام العام وصون الأرواح والممتلكات دون أن تلجأ لتعليق أىٍّ من الحريات أو الحقوق الدستوريَّة. ويقينى أن الدولة نظرت فى نصوص الدستور فلم تجد ما يسعفها فى هذا الاجراء الاستثنائى. ومع ذلك فقد عَمَدَت لاتخاذه ، عنوة واقتداراً ، عبر أمر صادر من والى الخرطوم ، دونما أدنى سند من قانون يتمتع بأىِّ قدر من الدستوريَّة! إن الدولة التى تعطى انطباعاً بأنها غير مستطيعة أداء واجباتها بغير الاعتداء على الحريات والحقوق ، بمثل هذه الفظاظة ، تفتح الجحيم على نفسها ، إذ تفتح الأبواب على مصاريعها أمام اعتبارها ، من قِبَل المجتمع الدولى ، دولة مضطربة ومرتبكة ، وربما عاجزة تماماً ، بما يبرِّر لشتى صنوف التدخلات الأجنبيَّة فى شئونها الداخليَّة ، فهل هذا حقاً ما نريده؟! تركيزنا على دور الدولة ، فى هذه القراءة الأوليَّة القصيرة للحدث ، لا يعنى إعفاء الطرف الآخر ، الحركة الشعبيَّة نفسها ، من المسئوليَّة ، رغم أنها لم تستكمل تسنم مواقعها فى شراكة السلطة بعد. فقد انشغل قادتها فى الخرطوم بترتيب مراسم العزاء بفندق (القرين فيلدج) ، مثلما انشغلوا فى (نيو سايت) بترتيب مراسم الدفن ، بينما كانت الأوضاع تنزلق فى العاصمة والأقاليم نحو تفجُّر الحزازة العرقيَّة البغيضة! ولو انهم سارعوا للنزول فوراً إلى الشوارع مباشرة ، أو الظهور عبر أجهزة الراديو والتلفزيون لتهدئة أنصارهم الذين بدأوا بإشعال الشرارة الأولى ، لكانوا حفظوا أرواحاً غالية ، وحقنوا دماً كثيراً ، وحموا أموالاً وممتلكات من الضياع. مهما يكن حجم الفاجعة والفقد فينبغى ألا يتخذ ذريعة للتنصل عن أو حتى تأخير المضى فى تطبيق (الاتفاقية) ، أو المساس بما انسكب من إيجابياتها فى (الدستور الانتقالى) ، على نقصهما وقصورهما البائنين ، واللذين هما موضع نقد الكثيرين ، أملاً فى الدفع بعمليات سياسيَّة تكفل الارتقاء بهما من الحالة (الثنائيَّة) إلى الحالة (القوميَّة). وبعد ، قد يقول قائل: ليس هذا أوان النقد! وهو قول يعكس أيضاً حالة رعويَّة سودانيَّة مزمنة لا تنطوى على مثقال ذرة من السداد ، اللهم إلا إذا عددنا تعطيل (العقل النقدى) ، فى أىِّ وقت، عملاً راشداً! وها نحن ما كدنا نستفيق من (كوابيس الحرب) حتى تلقفتنا (كوابيس السلام) ، وهى أفظع ، بكلِّ المقاييس ، وأكثر رعباً ، وليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأنها لن تتكرَّر ، فهلا اعتبرنا جيِّداً بعبرة ما جرى؟!
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 4ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 5ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 3
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ - 2
-
التَّجَمُّعْ: هَلْ يَنسَدلُ السِّتارُ؟
-
وَسِيلَةٌ خَسِيسَةْ 1
-
مَحْجُوبٌ .. الذَّهَبِىْ!
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ3ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 2ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 1ـ2
-
جَنَازَةُ البَحْرْ!
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 2ـ2
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 1ـ2
-
الحَرَكَةْ: مِن الثَّوْرَةِ إلى .. الدَّوْلَةْ!
-
لَيْسُوا -رِجَالاً-؟!
-
اللُّغَةُ .. فِى صِرَاعِ الدَّيَكَةْ
-
للذِّكرَى .. نُعِيدُ السُّؤالْ: الحَرَكَةُ: حُكومَةٌ أَمْ ..
...
-
مِن الدَّوحَةِ إلى سَانْتِياغُو مَا لا يَحتاجُ لِزَرْقَاءِ ا
...
-
القُوَّاتُ الأَدَبِيَّةُ المُسَلَّحَةْ!
-
الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (2) إِتِّحَادُ الكُتَّا
...
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|