أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - موفق الطاهر - خـــط الهـــاتـف - قصة قصيرة















المزيد.....

خـــط الهـــاتـف - قصة قصيرة


موفق الطاهر

الحوار المتمدن-العدد: 1286 - 2005 / 8 / 14 - 09:58
المحور: الادب والفن
    


خرجت في الظهيرة إلى جرف النهر القريب جداً من بيتنا، ومعي بعض الخبز أطعم به البط الذي تعوّد على رؤيتي، فعلاقتي به تمتد إلى أكثر من خمسة أعوام. أحياناً أشتري له خبزاً كي أكون قريباً منه... بالرغم من لقائي شبه اليومي معه تقريباً، ولكني حقاً كثيراً ما أشتاقه، فهو الوحيد الذي على علم بكل أسراري... ولكن... من جديد تتفرق صويحباتي مبتعدة عني بعد أن نفذ ما عندي من الخبز لتتركني لوحدتي مرة أخرى.
جلست على المصطبة القريبة مني، ووضعت رأسي بين ركبتيّ بمرونة لم أعدها بجسمي من قبل، خارج أرادتي بدأت بالنحيب، وأجهشت ببكاء ليس بصامت...
كيف جرت بي الأمور إلى هذا المكان الحقير منتظراً مصيراً قاسياً، وما هي إلا ساعات معدودة، وليلة ستكون بألف ليلة بلا شك هي الفاصل بيني وبين حياة جديدة.. لابد من ذلك، طبيعي أن تكون هناك حياة جديدة...
ربّت على كتفي أحد الذين قادهم حظهم التعيس معي، وحجزوا بهذه الغرفة اللعينة لا حول لنا ولا قوة:
- وحّد الله يا أخي! كلنا على هذا الدرب، كلنا معك، نفس حالتك، وكلنا ننتظر نفس المصير الذي ينتظرك. ليس بيدنا
شيء إلا الدعاء لله أن يتلطف بقضاءه، ويعطينا الصبر على بلوانا.
مرة أخرى الصبر.. كثيراً ما يأتيني هذا المصطلح بوقت أكره كثيراً فيه أن أسمعه. بل أكره هذه المفردة.. التي تقودنا دون أن ندري إلى الرضوخ والإنصياع، والأستسلام خانعين حتى لمصير مشوه...
تذكرت أمي.. كيف أعترضتني هذا الصباح بأن لا أخرج من البيت، ولكني وكما تعودت أضحك خوفها عليّ وكأني طفل صغير تخاف عليه من عبور الشارع... طمأنتها، وخرجت لموعدي مع حبيبتي، بعد أن لبست أحلى ما لدي من ملابس، ولمّعت حذائي وشعري...
منذ أسبوع وأنا أذهب إلى حبيبتي بشكل منتظم، أبقى معها منذ الصباح وحتى العصر حين يتصل والدها سائلاً إياها عما تحتاجه من السوق قبل أن يقفل محله في الجهة الأخرى من مدينتنا. والدها كان رائعاً، ولطالما أنتابتني حالة هستيرية من تأنيب الضمير عندما أرى صورته معلقة فوق سريرها الدافئ.. وأطمأن نفسي بأن هذه الحبيبة ستصبح يوما، آمل أن يكون قريباً، زوجتي... أودعها على أمل أن ألتقي بها في الصباح من اليوم التالي... الذي لن يأتي أبداً...
لم يكن لديّ عمل أرتزق منه.. وكانت الشوارع ملغومة بسيطرات الأجهزة الأمنية والحزبية بحثاً عن الهاربين من الجيش، الذين لم يعد يهمهم أو يخيفهم تهديد النظام بإعدامهم... فتخترع زمرة الجنرال مجدداً نظاماً لم يعرف التاريخ عقاباً أكثر تشويهاً منه، للضغط على العسكريين كي ينتظموا بدوامهم...
ولكن هل ظنّ هؤلاء أنهم سيحدون من تكاثر الهاربين المتزايد؟ ربما! ولكن لفترة قصيرة على الأغلب... فالهوّة تكبر يومياً بين النظام والشعب، ولم يعد الأعدام ينفع، أو يخيف أحد. فقد أصبح هذا العقاب سمجاً بعدما صار لكل مخالفة، حتى لو كانت تلك تتمثل في شتم مجنون لشخص الجنرال... لذا فقد أبتدع هذا نظاماً أكثر تشويها منه ببتر الأذن ووصم الجبين بعلامة ناقص أو علامة الضرب...
أي تشويه هذا الذي يتحكم بمصائرنا؟ مصائر هؤلاء الشباب؟ وأي مستقبل ينتظرني..؟ كنت أحلم دائماً بالسفر ورؤية العالم المتحضر، ثم العمل بشركة معروفة كشركة فيليبس مثلاً... فهذه الشركة لطالما أثارت فضولنا عندما كنا طلاباً في كلية الهندسة...
لم أرجع لوالدتي وأهلي، ولم أر حبيبتي في ذلك اليوم ولم ألتق بها منذ ذلك اليوم الأخير من شهر تموز وللآن... ياااااه.. أي قدر قاس، وأي زمن أغبر هذا الذي نعيشه؟
أنزلتني من السيارة التي كانت تقّلني إلى من فتنتني في يوم ما، ولا زالت ذكراها تعصر قلبي كليمونة حامضة، مفرزة حزبية مسلحة، لعدم أقتناعها بالأوراق التي كنت أحملها. ونقلتني مع ثلاثة عشر آخرين إلى مبنى لإحدى الفرق الحزبية، ووضعتنا بغرفة صغيرة مقيدي الأيدي، وتركوا باب الغرفة مفتوحاً. وظلّ الحزبيين المارقين مقابل ذلك الباب ينظرون إلينا على أننا خائنون، جبناء، يبصقون في الهواء، ونحن المعنيين طبعاً، فنحن لا نستحق الحياة..!
أحس أن رأسي يربطه حزام جلدي بصخور ثقيلة، محملاً بهموم أثقل من تلك الأحجار.. كانت إضاءة الغرفة رديئة بكل تأكيد، وقد غمر الظلام سماء وأنهر بلادي الجميلة. تذكرت شط العرب القريب من حيّنا، أي منظر رائع لشمسنا الجميلة وهي تختبئ خلفك يا بحر... وحل الظلام الذي هو الأجمل لأنه يحتضنك ياوطني... عذراً لك يا شاعري الرقيق وأنا أستعير بعضاً من كلماتك...
وأنا أرفع رأسي رأيت ما كنت لم أحلم به، شبح مرق مسرعاً من أمام الباب، ملتفت نحونا طبعاً، رجع ذلك الشبح الذي تغطي عيناه الصغيرتين عدستان كبيرتان، نظر إتجاهي مندهشاً:
- ولكْ إنت عليْوي.!؟
إنسابت الأحرف متخثرة، وبدت وكأنها تنصب من فمي كقطرات زيت متقطع:
- أي نعم يا أبو حسن.. هل رأيت أية كارثة تلك التي تنتظرني؟ وستحل بعائلتي؟
- قم يا رجل قم.. تباً لهذه الشغلة اللعينة...
أبو حسن رجل في الخمسين من عمره، صديق حميم لوالدي، لم يكن مقتنعاً البتة بعمله في الحزب، ولكنه كان مجبراً كالمئات غيره ممن أجبروا أو تورطوا بإنتمائهم إلى ذلك الحزب التعيس.. كان رجلاً مرحاً، شفافاً، رومانسياً، قارئاً نهماً، وذلك مما لا يتناسب تماماً مع عينيه الضعيفتين... لم أعرف كيف رآني ذلك الرجل بعينيه الهزيلتين، ففي الظلام تصبح عنده الرؤية أشبه بالعمى.. فكيف رآني!؟ هل أعزي ذلك إلى أنها ضربة حظ؟ أم ماذا أسمي ذلك غير أنه فعلاً الحظ.. ولكن الحمد لله بكل تأكيد.
رجعت لبكائي الذي أصبح ملازماً لي كلما تذكرت الأيام الخوالي حلوة كانت أم مرّة:
- wat is er meneer? gaat het goed?
رفعت رأسي الثقيل من بين ركبتيّ، رأيتها عجوز مع كلبها.. طمأنت تلك المرأة الكبيرة الطيبة بأني لا زلت بخير.. تنفست الصعداء، فلا زلت ببلد شركة فيليبس، بلد رامبرانت، والحرية و... الغربة اللعينة.
فكرت بأن أنهي تلك الكآبة التي تخيم علي منذ أيام، لابد لي من زيارة أحد الأصدقاء، يجب علي أن لا أستسلم لهذا الضعف... ولكن ما أنا فعلاً بحاجته هو والدتي وحبيبتي...
رجعت إلى بيتي الذي أصبح خالياً من كل دفئ كان يغمرني في السابق. مسكت سماعة الهاتف، محاولاً من جديد الإتصال بأمي، عساني أسمع صوتها، فيدخل شيئاً من الدفئ إلى روحي.



#موفق_الطاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المحكمة الجنائية العراقية وسجون (مونوبولي) التابعة لها
- فتــوى تحرّم الفســـاد الأداري!
- ماذا لو قال العراقيون لا للدستور العراقي؟
- الفرق بين منظمة إيـتـا الإنفصالية وبين هيئة علماء المسلمين
- من سينصف الطوائف الصغيرة في العراق؟


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - موفق الطاهر - خـــط الهـــاتـف - قصة قصيرة