فواز قادري
الحوار المتمدن-العدد: 1286 - 2005 / 8 / 14 - 09:58
المحور:
الادب والفن
في وجهها الملائكي, يصعب العثور بسهولة على الغضب ,ومع ذلك, أدركتُ أنها في قمة انفعالاتها, وصوتها يرتفع ناسية أنها تكلم زوج المرأة التي تتولد, وهي طبيبة مشرفة وحسب.
ــ ستموت زوجتك والجنين ,اسبوع فات على موعد ولادتها ,هل تفهم؟
ــ أنتِ لا تدرين شيئا, فات العمر كله, وأنا أنتظر هذه الولادة .
قلتُ ذلك بالعربية التي لا تفهم منها شيئاَ. تفاجأتْ وصوتي يصلها كنحيب كمنجة حزينة .
0 0 0
لم يكن رهاني على الولادات الصعبة جديدا, منذُ ما يقارب الربع قرن. كانت ساعة عمري الرملية, تفرغ و تمتلىء, بالألم والدموع والخوف والقلق والترقب, وحارسها الزمن يرسم ملامحي بسكاكينه الحادة .
والأصدقاء نزفوا أعمارهم, في الزنازين والمنافي, أو على جسور الفاقة أنفقوا ما تبقى من شبابهم المنهوب. وها أنا وحيد وغريب, أترقبُ الولادة التي انتنظرناها طويلاَ, في زمن لا تسمح فيه قيصرة العالم الجديد, بأي ولادة, دون مباضع جيوشها وإعلامها الكاذب. لكنني أتشبث بالحلم, رغم الخسائر التي مُنيتُ بها, وفراغ قلبي من الورد, ويدي من التلويح لأي فجرٍ سيولد.
0 0 0
قال كبير الاطباء, وهو ينظر إليَ من أعلى نظارته, نظرة ذات معنى, ومتظاهرا بتجاهلي في آن
ـ هل وقع على الاوراق, وتابع:
فهو مسؤول عما سيحدث لزوجته, هزَّ رأسه مستهجناَ وهو يتلقى جوابا بالإيجاب. حاولتُ أن اخفي خوفي, وأنا أرى القلق بادياَ على الطاقم الطبي, الذي استنفر طوال الليل.
صراخها يملأ جناح الولادات, وانأ أنكمش في ثيابي, كأن يداَ عملاقة تعصرني, وصوتها يتوسل:
’’ دعهم يُجرون العملية أرجوك’’.
تمزَّقت الكلمات التالية, على شفاهها, واستبدلتها بصرخة طلْقة جديدة. أدنيت رأسي منها وهمستُ:
الرحم مفتوح إلى أقصاه, ما هو الا وقت قصيرٌ وينتهي الأمر. قلت ذلك دون علمي ان ذلك قد حصل فعلاَ. ثم تابعتْ صراخها وكأنها لم تسمع شيئاَ . أحسستُ بوحدة كاملة, وبرغبة تأكلني, لكي أضع رأسي على صدرها وابكي. أدنيتُ يداَ مرتجفة من شعرها, حوار أصابعي وشعرها, كان اللغة البديلة للكلمات التي تختنق في الصدور, لتحلق بعدها أرواحنا صاعدة من هاوياتها السحيقة.
0 0 0
شيطان ضعفي, أجاد العزف, على أوتار وجعي, وأملي, وتحرّقي الشديد لهذه الولادة, لم يترك جرحاَ صغيراَ أم كبيراَ, لم ينكأّهُ ,شهداء وأطفال بأحلامهم المقصوفة, عاشقات لم يحْتملْنَ خسائر القلب, مجازر مدن مجروحة الكبرياء,وثكلى.
وزيّن لي أن العملية القيصرية ستكون سهلة! ألم قليل, وجراح خفيفة, ودم فاسد سيراق! وتولد طفلتيََََ (أمل) * ولكني أُفلتُ من مخالب إغراءاته, باعجوبة في كل مرة. وأنا أستعيد صور البلاد التي مازالت تنزفُ صديداً، بعد أن مر عليها مبضع قيصرة العالم .
0 0 0
تكرّر خروجي الى شرفة التدخين, هرباً من أعين الأطباء والممرضات .السماء بدتْ قريبة وداكنة, ضوء غرفة الاستراحة الخافت ليلاً, والمنعكس, كان كافياً, لأرى دوائر دخان سيجارتي, تتصاعد ساحبة معها الوقت, من عنقه ببطء شديد, بحبل انشغالاتي الكثيرة, وأنا أغوص رويداً رويداً في فراغ كابوسي معتم, فجأة تنفتح السماء على هالة ضوئية باهرة, صوت طائرة مروحية يتعالى, وهي تقترب من الشرفة, حتى تبدّت كاملة. جندي يبرز واضحاً من بابها ببدلته المبقعة, يصوب سلاحه نحو غرفة الولادة . صحتُ:
المارينز المارينز, وأنا أحاول النهوض مسرعاً. مَسْندا المقعد تحوّلا إلى حبال معدنية, كررت صياحي:
المارينز المارينز وأنا أحاول الخلاص من قيودي.
يدٌ تربت على كتفي, استفقتُ لحظة ملامستها لي.
ــ لقد ملأْتَ جناح الولادات بصراخك ,تذكر أنك في مشفى.
قالت الممرضة وهي تحاول أن تكون لطيفة, رغم
نفورها. قبل أن اتجه إلى غرفة الولادة, نظرتُ إلى اليمين, تفاجأتُ بظلال تتجه نحوي, قادمة من اول الممّر
الذي كان شبه معتم , على غير عادة, وأنا أزداد هلعا,صفان من الجنود يقتسمان الممّر,تستطيل قاماتهم إلى السقف, ومن ثم ,تنخفض ظلالها حتى لتبدوا مهرولة أمامهم, الثياب المبقعة ثانية. صحتُ دون أن أعير التفاتاَ للممرضة التي اختفت. أشكالهم تتضح أكثر فأكثر, على اليمين جنود بالثياب المبقعة, وآخرون بثياب أعرفها جيداَ جنود الطاغية الذين لطالما زرعوا الرعب في قلوبنا وقلبوا البلاد رأسا على رأس. قلتُ لنفسي وأنا أهرول نحو غرفة الولادة، هم يشتركون في محاولة إجهاض حلمي!
الممّر طال أكثر من المعتاد, أركض وأركض ولا أصل. وقاماتهم تتطاول رغم تباعد المسافة بيننا. الباب مغلق,
توقفتُ عن القرع, وانا أسمع صراخ الطلق الاخير, عرفتُ ذلك من الولادات السابقة التي أخذتُ دور المنتظر فيها, وإن بقلق وخوفٍ أقل بكثير, فصراخ الطلق الاخير, صراخ كونيّ, صراخ الحياة التي تقاوم رغم الموت والطغاة. يختلط صراخها, بصوت ضرباتي المتواصلة على الباب. توقفتُ متفاجئاً بصراخ جديدٍ لامرأة أخرى, ومن ثم تكاثرت الصرخات. امرأة... أخرى.. وأخرى. شعرت بالمشفى تهتز على آلاف الصرخات لنساء يلدْنَ, أعدتُ القرع بشدة، وأنا اصيح :
أدخلوني ... أدخلوني.
خرج صوتي جهورياً أكثر من المعتاد, وأنا التفتُ نحو الجنود الذين توقعتُ وصولهم إلى الغرفة. رأيتُ ظلالا شبحية قد بدأت بالتلاشي, والضوء ينتشل المكان من بئر العتمة, آخذاً معه ما تبقى من خيالاتهم. اشتدّتْ عزيمتي فتابعتُ صياحي وقرعي، الذين امتزجا بالصراخات التي تأتي من الداخل :
أدخلوني... لا أريد أن أبقى خارجاً, فردد الصدى لا أريد أ ن أ ب ق ى خ ا ر ج اً .
ليُسّمع صراخنا في كل مكان .
انتهت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* ابنتي التي تشارف على الثالثة من عمرها( أمل) اسمها الحركي , حاولتْ مراراً( وهي تتخلصُ من قبضة أمّها) إخراجي من حالة الكتابة
قائلةً : بابا هيا إلى النهر لنطعم البط قبل أن يذهب!.
فواز قادري-ميونيخ
#فواز_قادري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟