|
انتكاسة عقل
حسام المنفي
الحوار المتمدن-العدد: 4559 - 2014 / 8 / 30 - 14:30
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا شك أن مجالات مثل الفنون ، والموسيقى ، والأداب ، والفلسفة ، تحتل قمة هرم الحضارة البشرية . أي أن الإنسان عندما شرع في عملية التفكير ، والإبداع ، وإنتاج الثقافة والفنون قد فرغ من اشباع حاجاته الأساسية من طعام وشراب ومسكن وملبس... إلخ أي أنه قد أقام أولا الجانب المادي من الحضارة والمدنية ثم طفق عقله بعد ذلك يسبح في سماء الفن والفكر وإشباع الحاجات الروحية أو النفسية . يقول الدكتور زكي نجيب محمود : فالفن أساسا نشأ في وقت الفراغ ، ليلهو به المستمع أيضا في وقت فراغه ، فما كان للإنسان أن يفتن إلا بعد أن يسد حاجاته الرئيسية ، وللفن بعد ذلك ما يفيض من طاقة النشاط ، فترقص الساقان بعد أن تستنفد الحاجة إالي السير ، وينظم الكلام شعرا بعد أن يفرغ الشاعر من أعماله في سوق البيع والشراء ، وهكذا . وإذا كانت الحضارة مشروطة بعدة عوامل أو عناصر كما قال ويل ديورنت في كتابه "قصة الحضارة" منها ، الموارد الإقتصادية ، والنظم السياسية ، والتقاليد الخلقية ، فلا شك أيضا أن الثقافة والفنون الذان يحتلان أعلى سلم تطور الحضارة والمدنية هما أنبل ، وأجمل ، وأرقى ما أنتجته البشرية عبر تاريخها الطويل . بل لا نقع في شرك المبالغة إذا قلنا "إن المبرر الوحيد الذي يعطي قيمة ما لوجود الإنسان على هذا الكوكب "هو انتاجه للموسيقى بصفة خاصة وجميع أوجه الفنون بشكل عام " . ويقول ويل ديورانت : الفن هو إبداع الجمال ، هو التعبير عن الفكر أو الشعور في صورة تبدو جميلة أو فخمة ، فتثير فينا هزة هي هزة الفرح الفطري التي تثيرها المرأة في الرجل والرجل في المرأة . ويقول "كنفوشيوس" عن الموسيقى : إذا أتقن الإنسان الموسيقى ، وقوم عقله وقلبه بمقتضاها وعلى هديها ، تطهر قلبه وصار قلبا طبيعيا ، سليما ، رقيقا ، عامرا بالإخلاص والوفاء ، يغمره السرور والبهجة .. وخير الوسائل لإصلاح الأخلاق والعادات أن توجه العنايا بالموسيقى ، والأخلاق الطيبة والموسيقى يجب ألا يهملهما الإنسان .. فالخير شديد الصلة بالموسيقى والإستقامة تلازم الأخلاق الطيبة على الدوام . وكان الفيلسوف اليوناني :أفلاطون" يرى : أن الموسيقى تستخدم لتطهير النفس وتهذيبها ، بل من أجل التسامي بالنفس الإنسانية . ويقول "أرسطو" : من الواضح أن نفوسنا تتأثر بالموسيقى ، وإننا لنجد في الإيقاع والنغم تعبيرا حقيقيا عن الغضب والليونة والشجاعة والإتزان وأضداد هذه الصفات . وكان "كانط" يرى أن : أثار الفن هي انتاج صادر عن حرية الإنسان وإرادته . ويرى "هيجل" أن الفن يقدم للإنسان أعلى درجة من درجات الرضاء ، حين يرضي حاجاته إلى فهم العالم. ولكن الشيء الغريب والمثير للشفقة حقا . هو أننا نسمع بعض أبواق التيارات السلفية المتطرفة من حين لأخر وهي تحرم سماع الموسيقى وقراءة الشعر والأدب بل أحيانا يصل بهم تطرفهم البغيض إلى القول : بأن الموسيقى تثير الغرائز والشهوات الكامنة في النفس البشرية ، وبتالي فهي حرام شرعا . وأنا لا أعرف من أين جائوا هؤلاء العباقرة الأفزاز بهذا التفسير المنحرف للموسيقى ، ولا أعرف من أي مقدمة صحيحة استطاعوا أن يستنتجوا هذه النتيجة ، إلا إذا كانوا يعتمدون على بعض الفتاوى الفقهية العقيمة وبعض أقوال السلف الذين توفوا منذ مئات السنين أو بعض نصوص وأحاديث نبوية أو تفسيرات فقهية عتيقة . ولا أدري في أي وقت من الأوقات استطاعت الموسيقى أن تثير الغرائز والشهوات الكامنة في نفسي بل على العكس تماما فإن الموسيقى تخاطب أرقى وأنبل ما في النفس البشرية وهي "المشاعر" فنستطيع أن نخطوا خارج زواتنا ونتحرر من عالم المادة إلى عالم أرحب تحلق فيه أرواحنا في سماء الفكر و الحرية والحب الطاهر النبيل ، حيث لا غرائز ولاشهوات لأننا في هذه الحالة نكون قد تجردنا من المادة وما يعلق بها من شهوات وغرائز . ولكن أنا لست مندهشا على الأطلاق من نظرة هؤلاء الظلاميين للموسيقى والفنون ، بل على العكس تماما ، فهذا أمر طبيعي ومنطقي إلى أبعد الحدود ؟ فكيف لمن تربى وترعرع على قراءة وحفظ الكتب العتيقة البالية التي تزخر بجميع أشكال وصور الخرافات والسخافات والأساطير الساذجة يستطيع بعد ذلك أن يتذوق قصيدة لنزار أو بعض شزرات من كتابات جبران أو حتى رواية لأحلام . وكيف لمن يرى " أن صوت المرأة عورة" أن تطرب أذناه بصوت فيروز أو أم كلثوم ، وكيف لمن تربى وكبر وترعرع " على مقولة كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" أن يشعر بعد ذلك بقيمة وأهمية "الإبداع" في حياتنا . ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه علينا في هذه اللحظة ألا وهو : هل الفضيلة تتعارض مع الجمال ؟ بمعنى : إذا افترضنا أن الموسيقى محرمة كما يزعمون فلابد إذن أن تتصف بالقبح وليست بالجمال لأنه من المنطقي أن الشيء المحرم لابد أن يتصف بالقبح وأنه مما يتعارض مع المنطق أن "الشيء المحرم يتصف بالجمال" وفي هذه الحالة سيقع من يحرمون الموسيقى في تناقض منطقي في بنية الفكرة نفسها . وكثير من الشباب الذين يستمعون إلى الموسيقى ويستمتعون بها إذا سألتهم عن رأيهم في فيها سيقولون لك أنها "محرمة" وإذا سألتهم ولماذا تستمعون اليها إذن سيردون عليك "لأنها جميلة" وأنت بدورك ستعيد السؤال ولكن بصيغة مختلفة " ولماذا تحرمونها إذا كانت جميله ؟ وهنا ينبثق سؤال في غاية الأهمية وهو هل الجمال يتعارض مع الدين"؟ وهنا تكمن المشكلة لأننا إذا افترضنا أن القيم الجمالية تتعارض مع الدين فإننا نقع في خطأ "منطقي" لأن من المفترض أن الأديان لا تتعارض مع قيم الجمال وأن لابد للأديان أن تكون مرءاه تعكس ما يجول في ضمائرنا ولا تتعارض مها ، بمعنى أننا عندما نستمع للموسيقى لا نشعر بأي لوم يعتري ضمائرنا . وهنا نستطيع أن نستخلص نتيجة مهمة أيضا هي . أن الحكم الذي اصدرتموه على الفنون والموسيقى يتعارض مع الحكم الذي أصدره الضمير البشري . وهناك افتراض أخر هو : إذا افترضنا أن قيم الجمال التي ارتضاها الضمير البشري لا تتعارض مع الدين . فلماذا تحرموا الموسيقى إذا ؟ وفي النهاية أنا أشعر بالخجل لأننا مازلنا ونحن في العقد الثاني من القرن 21 مازلنا نناقش ونتجادل في مثل هذه الأمور التي من المفترض أن تكون حسمت ولكن هذا هو واقعنا المرير بل واقعنا القبيح . ولنترك الفنون إذن ولنذهب إلى الجزء الثاني من المقال وهو محاولة تسليط الضوء على نظرة التيارات السلفية للمرأة وسنقارن هذه النظرة "الغرائزية" للمرأة بنظرة أخري تفترض أن المرأة هي كائن حي ، عاقل ، مفكر ، مبدع ، ليست مجرد وعاء يطفىء داخله الرجل نيران شهواته الحيوانية . وصاحب هذه النظرة الراقية للمرأة هو المفكر المصري :قاسم أمين" . عندما أقرأ كتب "قاسم أمين" وأراءه التي كانت تدور حول مستقبل المرأة المصرية والعربية وكيف أنه كان يحلم لها بمستقبل مشرق قد تحطمت على أعتابه كل العقد الذكورية التي فرضت على المرأة قيودا وأغلالا كثيرة ومتنوعة في أساليبها ومضامينها فتارة بإسم القيم والأخلاق وتارة أخرى بإسم الدين وتارة ثالثة بإسم العادات والتقاليد . ثم أقارن بين هذه النظرة الراقية المستنيرة وبين النظرة المزرية والمهينة للمرأة من قبل أتباع التيارات السلفية والأفكار الأصولية المتخلفة التي تنظر للمرأة من منظور جنسي شهواني بحت . وتنكر عليها حقوقها في التعليم والعمل وتنكر عليها أيضا حقها في تقليدها أي مناصب قيادية وسياسية في الدولة . أشعر إذن أن العقل العربي يعيش الأن حالة "من الردة الثقافية والحضارية" قد تودي به في نهاية المطاف إلى دموره وتقلصه ومن ثم موته وهلاكه . وسنطلع إذن على بعض شذرات من تراث هذا المفكر العربي النبيل وأرجو منك أن تقارن بين هذه الأفكار -المستنيرة- وبين فتاوى مشايخ وفقهاء التيارات السلفية -المظلمة- ولابد أن نضع في الإعتبار الحقبة الزمنية التي كتبت فيها هذه النصوص فقاسم أمين توفي في عام (1908) أي أن هذه المقولات والمبادىء المشرقة عمرها أكثر مائة عام يقول : المرأة وما أدراك ما المرأة ؟ إنسان مثل الرجل ، لا تختلف في الأعضاء ووظائفها ، ولا في الإحساس ولا في الفكر ، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان ، اللهم إلا بقدر ما ما يستدعيه اختلافهما في الصنف . فإذا فاق الرجل في القوة البدنية والعقلية ، فذلك إنما لأنه اشتغل بالعمل والفكر أجيالا طويلة كانت المرأة فيها كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوتين المذكورتين ومقهورة على لزوم على لزوم حالة من الإنحاط تختلف في الشدة والضعف على حسب الأوقات والأماكن . قارن بين هذه المعاني الراقية التي كتبت بحروف من نور وبين الأحاديث التي يتم ترويجها من قبل دعاة ومشايخ التيارات السلفية المتشددة بل المتطرفة التي تحتقر المرأة وتحط من شأنها مثل حديث ( النساء ناقصات عقل ودين ) أو حديث " لعن الله قوماً ولوا أمرهم إمرأه " . ويقول قاسم أمين في موضع أخر : المرأة كالرجل على حد سواء في الإحتياج إلى الإنتفاع بالعلم والتمتع بلذته ولا فرق بينها وبينه في التشوق إلى استطلاع عجائب الكون والوقوف على أسراره لتعلم مبدأها ومستقرها وغايها . انظر في القطعة السابقة كبف كان يحلم بإمرأة متعلمة مثقفة على درايا تامة بالكون وشؤنه وقوانينها . وقارنها أيضا بالفتاوى التي تحرم تعليم المرأة بحجة أن التعليم الجامعي أو حتى الثانوي محرم لأنه يحتم الإختلاط بين الرجل والمرأة . ونفس الداعية المأفون الذي كان يحرم تعليم المرأة هو الذي قال -أن العلم خلق للرجال فقط وأن المرأة ليست أهل للعلم . وهكذا يستمر مسلسل تحقير المرأة المسلمة من قبل دعاة ومشايخ التيارات السلفية والحركات الأصولية المتشددة بإسم الدين . وهذه نتيجة طبيعية بل وحتمية أيضا لأن العقل العربي يشهد أسوأ انتكاسة ربما لم يشهدها من قبل على مدى تاريخه الحديث. =========================================== *انظر كتاب "قصة الحضارة" لول ديورانت . المجلد الأول . *انظر كتاب "قصة الحضارة" لول ديورانت . المجلد الرابع . *انظر كتاب "فلسفة الجمال" د. أميرة حلمي مطر . *انظر كتاب"نافذة على فلسفة العصر" د. زكي نجيب محمود . *انظر كتاب "قاسم أمين . الأعمال الكاملة" د. محمد عمارة .
#حسام_المنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيوردانو برونو . والمحرقة
-
محنة -ابن رشد-
-
قتل الحلاج . وتحريم الفلسفة
-
هيباتيا . شهيدة التعصب الديني
-
مبحث في الجانب الأبستمولوجي -نظرية المعرفة- في الفلسفة الحدي
...
-
سقراط . الرجل الذي جرؤ على السؤال
-
أنكساجوراس . والحجر الأسود
-
العلم والدين بين الفكر القديم والفكر الحديث
-
نظرية المعرفة من منظور فلسفة ابن سينا
-
الغزالي واهدار قيمة العقل
-
العقل في فلسفة ابن رشد
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|