عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4557 - 2014 / 8 / 28 - 22:53
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
العراق جمجمة العرب
من المسائل والقضايا التي لا خلاف فيها أن أرض العراق وبالذات الوادي الممتد مع مجرى نهري الفرات ودجلة قد شهد العشرات من المدن المعمورة بالدين والقانون كما شهدت أرض العراق في كل حبة تراب قدم نبي أو موضع سجود له, منه انطلقت أوائل كلمات التوحيد وفيه تجسد الحرف منقوشا على طينة فصارت رقيم, لأن من زرع البذرة الأولى وأشعل النار الأولى لا بد له من تدوين ما أنجزه وما علية وما يشترطه على الأخر كما تم تدوين شروط الدين ,فكانت بلاد النهرين بلاد الرقم والرقيم والترقيم, استحقت أن تكون منطلق كل الديانات الكبرى والحضارات العظيمة التي تشترك مع الإنسان بطينيته.
لم يكن مفهوم الأمة العربية واضح المعالم في أول التاريخ الذي ندركه لكن الواضح كان أمة الرافدان أو أمة الماء والطين تلك الأمة التي عربت الكلمة وجعلت من الحروف وحركاتها في بناء الكلمة قواعد هي الحاضرة فيه والفاعلة في صنع أحداثه وأعراب الإنسان عما يريد وعما لا يرغب ,فصار للكلام مفهوم إعراب عن الذات والمعرفة المنتجة والمتداولة بين الذات والخارج وبين الخارج والخارج ,هذه الديناميكية العقلية الحضارية التي أبتكرها أهل الرافدين دون كل الأمم وسبقوا بها بني جنسهم والمنتجة لكل المعارف التي لم يعرفها إنسان ,حتى جاء داود عليه السلام وأبنه سليمات من بعد ليكشف للعالم مفهوم الخزف , وداود من نسل إبراهيم العراقي ومن نسل أسحق العبراني وكلاهما من موطن الماء والطين, وسليمان الذي عمر البيت وسخر الله له الجن يعملون له الخزف الفراتي الذي لم يعرفه العالم من قبل{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13.
لذا فكان أول ما كتب على الخزف الحرف العراقي الذي أعربه العراقيون فيما بعد وعربوه فصار بالإمكان إعرابه ويجعل له حياة يمكنه بها ان يقود عالم المعرفة إلى وجه مفتوحة على مدى كلما اوغل الحرف بكلماته يتسع هذا المدى ليعرب الإنسان عما في داخله بسهولة ونتيجة تتركب وتتطور مع حرية الكلمة بالتحرك داخل الباء المعرفي والثقافي, وهنا كان بناء ثروة الأمة العراقية المعرفية من هذا الحرف المعرب فصارت اللغة عربية خالصة ,لذا فإن كونية العرب كمفهوم مرتبط إلى حد كبير بالمعرفة واللغة والكلمة والحرف ولا يرتبط بالجنس كالأعراب ولا مرتبط بالدين كاليهود بل أمة نشأت من بوتقة المعرفة الإنسانية وهي أشرف المعايير الكونية وبها صار الرافداني إنسان كوني ليس لأنه السوبرمان ولكنه ابن المعرفة ,والمعرفة أرث إنساني بامتياز.
طور العراقي حرفه مع تطور الحاجة إليه كانت لديه ثروة فكرية ناتجة من معرفته لقواعد الدين من وقت مبكر بل كانت محاولاته الأولى للخروج من الواقع المتضايق على حلمه أكبر من واقعه فأخترع القصة وسطرها بفن راق لم يعرفه الأخرون بجماليته المنقوشة على الطين هذا المكون سريع التأثر بالماء, قصار يبحث عن الخلود الذاتي والخلود الكلي لأنه يعلم أن الوجود في الأرض مؤقت وهذا الفهم فهم ديني منشأه عقيدة الحياة والموت والحياة الأخرى ,عكس مفهوم التحنيط عند المصريين القائم على حفظ البدن ,العراقي كان حلمه الاثنين معا الروح والبدن فغامر كلكامش للبحث عن عشبة الأسرار والخلود فيها عن طريق ذات الحياة الأولى الماء وليس غير الماء فيه الخلود.
كان هذا العربي الذي سعى من خلال فهمه لقانون الحياة وإيمانه أن هناك عالم أخر وحياة أخرى وتجربة أخرى متفرد عن أقرانه من الذين كانوا يعيشون على الغزو والصيد والرعي ,كان العراقي أقدم من لحظة زمنه في اللحظة الجديدة سابق الزمن للوصول إلى سر لم يفكر أحد في ذلك الوقت حتى بافتراضه, هذا العراقي ضل يبحث عن السر في كل الأديان يتجدد بها وبرسم أثره على ودبان أرض الرافدين.
هذه الجمجمة لم تتوقف عن التفكير لحظة لأنها تعلم أن التوقف عن التفكير موت لا حياة من بعده ولا مناص من أن تبقى منشغلة بحلمها , هذه الجمجمة كانت تحمل العقل العربي والبصر العربي والسمع العربي كانت تحمل كل الفكر ,والجسد بلا جمجمة لا قيمة له لأنه مجرد وعاء يخدم هذه الجمجمة وما فيها, لذا فأن أطراف الجسد العربي كله خارج العراق لا قيمة له بدون بلاد الماء والطين ,فكان الدين من العراق والفن والعلم منه كانت الإنسانية التي أمر الله بها أن تكون بالإعمار والإصلاح والتمدن والتوطن هنا في أرض الفراتين في الجمجمة وحدها , عاش العرب جميعا عالة على هذه الجمجمة ولم يعيش العراق عالة على أحد, ما قيمة الشام ومصر وبلاد نجد والحجاز واليمن وفارس وكل العالم اليوم بما يدين ويتدين به لولا خروج إبراهيم من أرض أوروك , هل كنا نشاهد اليهودية والنصرانية والإسلام لولا إبراهيم العراقي وابنيه وحلمه الدائم {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124.
كان ابراهيم العراقي العربي ومن ذريته هم من قاد التحولات الكبرى في العالم الإنساني بما زرع الله في الطينة العراقية من بركة الوجود الدائم المعطاء فكان رحمة للناس وسلام وإسلام فصار كل من تبع إبراهيم وبنيه على نية التوحيد مسلما مؤمنا لذا قال الله تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}آل عمران164, لم يبعث الله في غيرهم أبدا لا من قبل إسماعيل ولا من بعده فقط المؤمنون من أولاد إبراهيم الذي استثناهم الله من دعاء نبيه إبراهيم{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }آل عمران34.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟