علاء عبد الهادي
الحوار المتمدن-العدد: 4558 - 2014 / 8 / 29 - 13:11
المحور:
الادب والفن
الإيقاع في قصيدة النثر (2)/ (3)
دكتور علاء عبد الهادي *
بداية, جاوز مفهوم الإيقاع, إذا ما رجعنا إلى بنية العروض التقليدية, ما حدده الخليل من أعاريض, على المستوى المنطقي والحسابي على أقل تقدير, هذا فضلاً عن وجود تراث كامل, وغائب عن الذين رفعوا شعارًا يخالف العلم, ويخاصم المساءلة؛ اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتُم! وأشير هنا, على سبيل المثال لا الحصر إلى أبي الريحان البيروني في كلامه عن الشعر الهندي وعروضِه, وشُبهةِ تأثرِ الخليل به, في كتاب البيروني "تحقيق ما للهند من مقولة..": "هم يصورون في تعديد الحروف شبه ما صوره الخليل (...) وإنما طوّلتُ في الحكاية (...) ليُعرفَ أن الخليل بن أحمد كان موفّقاً في الاقتضابات..! وإن كان ممكناً ان يكون قد سمع أن للهند موازين في الأشعار! كما ظنّ به بعضُ الناس!"( ).
ولا يخلو ما أثبته الخليل من أوزان, من الكثير من البحور المهملة التي اشتقها من بنية الدوائر العروضية, فقد كان واتباعه, يقبل الشاهد الواحد ويجعله قاعدة, ويصطنع له مبدأً, لو اتفق مع بنائه النظري, وربما أهمل قصائد كاملة, وتأولها, أو اعتبرها شاذة لمخالفتها البناء, وهي مشكلة منهجية في كتب العروض, التي وضعت أعاريضَ يثبت تاريخ الأدب -لو أردنا أن نتكلم عن الأصالة بأشد معانيها رجعية- أنها كانت تجزيئية من جهة, ومخالفة لما كان يمور به الواقع الشعري من تباينات واختلافات آنذاك, من جهة أخرى, "فالعروض لا يقيس إلا الموسيقى الخارجية للشعر, ويفشل في قياس موسيقى الشعر الداخلية"( ), فضلاً عن أن هناك من الأوزان العروضية ما يوجد شك قوي في وجوده, ومنها ما لم يعرفه العرب, أي أن البناء النظري للعروض العربي هو بناء على الرغم من منطقيته, فإنه تاريخي, ولا يمثل أوزان العرب القدماء, ولا أوزان المحدثين, كما يذهب إلى ذلك مجموعة كبيرة من النقاد أبرزهم شكري عياد. أما الأوزان التي سادت شعر القَدامى فكانت الكامل والطويل والبسيط والوافر. وهي الأوزان القومية على حد تعبير أستاذنا إبراهيم أنيس-;- أوزان اعتاد عليها مستمع الشعر العربي. وأشير في هذا السياق إلى ما هو معروف ومتداول من أن الخليل مثلاً سجّل ما استحدثه الشعراءُ من أوزان المقتضبِ والمضارع" بالإضافة إلى الأبحر التي لا تستعمل إلا مجزوءة, وترك قصائد أخر لا توافقُ بناءه في العروض, مثل قصيدةِ عبيد "أَقْفَرَ مِنْ أهْلِهِ ملْحُوبُ", وقصيدةِ عدي بن زيد العبادي "قدْ حان أنْ تصْحُو لوْ تُقصرْ وَقَد أَتَى لِمَا عَهِدْتَ عُصُرْ"( ), وكذلك قصيدة المرقش "هلْ بالدِّيارِ أنْ تُجِِيبَ صَمَمْ لَوْ أنَّ حيًّا ناطِقًا كَلًَّمْ"( )! ونونية سُلْمِيّ بن ربيعة التيميّ أيضاً "إن شُواءً وَنَشْوةً وَخَبَبَ البَازلِ الأمُونِ"( ), وغير ذلك كثير, بالإضافة إلى أن المقتضب والمجتث ليسا مشهورين في كلام العرب, وهناك شك في وضع العرب لبحر المتدارك ومخبونِه, فضلاً على أن عرب الجاهلية كانوا يضطربون في أوزانهم الشعرية, وهو ما عرفه الخليل, وما جهله عددٌ من أعداء التطور, أضف إلى ذلك مجموعة لا تهدأ من الأسئلة والمساءلات التي تستثيرها بنية العروض العربي؛ فلا يمكن ان يكون الوزن في اللغة العربية واتساعها -على مستوى الاحتمال المنطقي- محصورًا بما وضعه الخليل فحسب, تُرى, أكان يُدرَجُ ما استحدثه الشعراء, وشاع بين الناس, لو تأخر الخليل في الظهور عدة قرون بعد ذلك, وإن لم يوافقْ أوزانه وبحوره؟"( ), وما الفرق بين الوزن والإيقاع, في ضوء ارتباطهما ببيئة ثقافية بعينها؟ وما حدّهما في الشعر؟ ويمكننا أن نسأل أيضًا عن النغم الشعري, واختلافه بين الأمم, وتباينه من زمان إلى آخر؟ فضلاً عن أن هناك جانبًا مسكوتًا عنه, لم يحظ بدراسات كافية, وهو الإيقاع القائم على النبر, فعلى الرغم من تقدم المعامل اللغوية الحديثة التي يمكن أن تشارك ببحوث جادة في اللغة العربية, وعلاقتها بالإيقاع؛ سواء الظاهر منه, أو الكامن في ثنايا اللغة وأصواتها, فإن هذا الجانب لم يُدرس دراسات كافية بعد, نحن مشغولون بتقديم إجابات عن أسئلة أصبحت خاطئة بسبب قِدَمِها -على ألسنة نقاد ومبدعين لهم انحيازاتهم الجمالية- في أزمان تجاوز فيها الإبداع قوانينه القديمة بمئات السنين, إن المشكلة في رأيي ليست في الخليل بل في أتباعه, قال الشاعر القديم: والْقوْلُ يحسُنُ مِنهُ فِي منْثُورِهِ ما ليس يحسُنُ مِنهُ فِي موْزُونِه.
هناك علاقة وطيدة دائمًا بين ايقاع النص الشعري, وإيقاع الحياة المعيش. إن الصورة الشعرية في تتابعها, وفي دافعها الصوتي الذي لا يدخل في النظام الإيقاعي المعهود, في علاقاتها باللفظ, وبمخارج الحروف, في موقعها, ودقة حضورها في السطر الشعري, في تنويعاتها المتتابعة وموسيقيتها, وفي شكلها الكتابي, غالبًا ما تقترح على الشاعر المعاصر -إيقاعًا- يجاوز حدود العروض التقليدي, دون أن يمنع ذلك من أن يوظف الشاعر بارقة إيقاعية, تتخلل مناطق محدودة في النص الشعري, دون تواتر متسق, أي أن العروض التقليدي يمكنه أن يلعب دورًا وسيطًا في إيقاع النص الكلي, لكنه لا يلج عددًا كبيرًا من النصوص الشعرية المعاصرة بالتزام موسيقي مسبق, فالعلاقات الزمنية التي يتغذى عليها الإيقاع النغمي المعاصر, تحوز من الاحتمالات ما يجاوز كل التقسيمات العروضية القائمة, كما أن الاتساق الموسيقي في النص الشعري الحديث, لا يكتفي بقياس صحيح للزمن في علاقته بالنص, وعروضه فحسب, بل يرحب بكل القياسات الزمنية في اختلافاتها, ومبانيها الموسيقية, بل إن الجانب الإيقاعي في القصيدة قد يتبنى حالة من التواصل الرمزي, أكثر من التواصل العروضي, وهو تواصل يتحقق في كثير من الأحيان –خصوصاً في قصيدة النثر- عبر الصمت, وبلاغته الإيقاعية من جهة, أو عبر النبر, من جهة أخرى, إلقاءً وقراءة, فأية قراءة تمتلك صوتًا مسموعًا أيضًا, لكنه صوت القاريء لا الكاتب, أما الصمت –في قصيدة النثر- فلا يعمل إيقاعيًّا بوصفه قاعدة موضوعية, ولكن بوصفه علامة سيميائية, وبوصفه حالة من التوتر الخاص في علاقة القراءة أو الإلقاء الشعري بالنص, هنا تتغلب قيمة الصمت, وما تسببه من توتر إيقاعي, على قيمة الوقت المسترسل إيقاعيًّا عبر العروض. ومن البدهي أن هذه السمة ليست لصيقة قصيدة النثر فحسب, فهناك دعم متبادل نجده في القصيدة العروضية أيضًا, لكن ما يظل مهيمنًا عليها هو حالة من الإيقاعية المنتظمة. أما في قصيدة النثر, فيخلق الصمت جانبًا إيقاعيًّا في القصيدة, يهيمن عليها, من هنا جاء نَفَسُ القصيدة؛ شهيقُها وزفيرُها, عبر التشطير على الرغم من غياب وزن, وعبر المساحات البيضاء المتروكة بين المقاطع, وعبر فترات صمت تخلُقُ إيقاعها الغامض, والملتبس, والخارج على الأعراف الموسيقية الموروثة أيضًا. فالإيقاعات الشعرية -منذ زمن ليس بالقصير- بدأت في الانفصال التدريجي عن المفاهيم القياسية لموسيقى الشعر, دون أن يمنع ذلك من استفادتها منها, ويظل الأمر كلُّه معلّقًا على قدرة الشاعر النثرية, ووزن دفقه الشعري, مثله في ذلك مثل الشاعر العمودي أو التفعيلي, فإتقان العروض لا يعد ضمانة نقدية أو جمالية -في حد ذاتها- لتحقق النص الشعري. فما أكثر قصائد التفعيلة والعمود المطروحة الآن, والتي لا تنتمي إلى الشعر في شيء غير الإيقاع, والوزن! أنا أنادي بالتخلص من سيطرة الإرغامات الإيقاعية -ولا أنادي بالتخلص منها- التي اشْتُقَّتْ من بيئة ثقافة؛ ننتمي إليها ونفخر بها, وبتراثها, دون أن نحتكم بالضرورة إلى جمالياتها, أو نُسجن في مفاهيمها الجمالية, وقيمها المألوفة. ولا يمنع حكمي السابق من الاستفادة من أبنية العروض التقليدية وتوظيفها.
* (شاعر ومفكر مصري)
#علاء_عبد_الهادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟