|
تاريخ موجز للعقلانية .
مصطفى قشوح
الحوار المتمدن-العدد: 4556 - 2014 / 8 / 27 - 17:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تاريخ موجز للعقلانية !!!
ملخص
سنعمل في هذا المقال على الإجابة على سؤال أساسي؟ ما معنى العقلانية؟ وهل هي فلسفة متجددة أم أنها مذهب فلسفي جامد لا يتجدد مع مرور الزمن؟ وكجواب عن هذا السؤال سندافع عن أطروحة أساسية مفادها أنه لا وجود لعقلانية معيارية واحدة-عقلانية مذهبية جامدة- يمكننا الوصول من خلالها إلى الحقيقة، لأن العقلانية متعددة، فالعقلانية التي سندافع عنها عبر هذا العرض التاريخي الموجز هي العقلانية التركيبية التي تجمع بين مجموعة من العناصر دون اختزال الحقيقة في اي عنصر من عناصرها.
توطئة ليست العقلانية هي النزعة الفلسفية التي سادت في العصور الحديثة، ذلك من المستحيل اختزال التراث العقلاني بأكمله في المذهب الذي كان سائدا في القرن السابع عشر، لأنه إذا تتبعنا مسار العقلانية، وجدناه تيار، ومنهج فكري له تاريخ طويل. امتدت جذوره من الحضارة السومرية إلى الحضارة المعاصرة. وعليه، فالعقلانية فلسفة متجددة تتجدد وتتغير بفعل المعايير الثقافية والفكرية في كل عصر من العصور، فلكل عصر عقلانيته التي يتميز بها عن باقي العصور. من هذا المنطلق سنأخذ القارئ في رحلة فلسفية من أجل إعادة اكتشاف تلك القارة المجهولة-المعلومة والتي تدعى بالعقلانية، وذلك من خلال الوقوف عند أهم الفلاسفة الذين أحدثوا أثرا عظيما في التراث العقلاني. قد اعتمدنا في هذه الرحلة على كتاب جون كوتنغهام : العقلانية فلسفة متجددة (1).
تعريف العقلانية تعني العقلانية مجموع الخطابات التي تكون قادرة على بلورة أدوات استدلالية[ استقرائيا، أو استنباطيا] والإجراءات المنهجية من أجل الوصول لأهداف معينة، وفي المنطق يكون الخطاب عقلانيا إذا كان متسق منطقيا لا يشوبه أي تناقض، فلكي يتصف نسق فكري معين بصفة العقلانية يجب أن لا يكون مناقضا لمبادئه ومسلماته. وبناء على هذا التعريف، يجب أن ننفي في البداية، كل الصفات السلبية والقدحية التي ألحقت بالعقلانية، وخصوصا صفة الإلحاد، حيث كانت تشير العقلانية في القرن السابع عشر إلى جماعة المفكرين الأحرار المعارضين للدين (2). في الحقيقة لا يمكن النظر للفكر العقلاني كفكر مناقض للدين، لأن الخطاب العقلاني خطاب قائم على مجموعة من الاستدلالات والحجاج والبراهين العقلية، فهناك مجموعة من الفلاسفة أقاموا أنساقا عقلانية دون أن يلغوا الدين من فكرهم والدليل على ديكارت واسبينوزا ولا يبنيز. غالبا ما تحيل مفردة عقلاني إلى ذلك الاتجاه الفلسفي الذي يؤمن بالعقل بشكل دوغمائي، وبدون أي اعتبار للتجربة في عملية المعرفة، لأن التجربة بالنسبة لهؤلاء لا تمدنا سوى بمعرفة ظنية لا تصلح بأن تكون معيارا لليقين، وتقدم نفسها كنزعة مضادة للتجريبية ، والتي ترى أن الحقيقة تبنى على الإدراك الحسي. في إطار هذا الصراع المذهبي كان من الصعب حل كل المشاكل التي يطرحها العقل في تطوره ووعيه بذاته، لأن كل من النزعتين تعانين من نواقص؛ فإذا كانت الأولى تفتقر للمبرر الواقعي أي دور المعطيات الحسية في بناء المعرفة، فإن الثانية تفتقر للمبرر المنطقي الذي يسمح بالانتقال من الواقعة الجزئية إلى القانون الكلي. من أجل تجاوز هذه النقائص، من الضروري تجاوز الأفكار المذهبية التي نشأت في العصر الحديث( وخصوصا بعد المنعطف الديكارتي)، إلى لا يبنيز و جون لوك يقول إيمانويل كانط: " لا يبنيز عقلن الظواهر الحسية، تماما مثلما فعل لوك... حول كل تصورات الفهم إلى أحاسيس"(3) والتي قسمت خريطة تاريخ الأفكار إلى قارتين منفصلتين، يسيطر العقلاني على الأولى في حين تخضع الثانية لسلطة التجريبي. ومن أجل حل هذا المشكل سنستعين بأطروحة جون كوتنغهام التي تفيد انه إذا اردنا فهم العقلانية يجب أن نفتح قنوات التواصل والحوار بين القارتين، وبأهمية القبول بنوع من التداخل والحوار الجدلي بين النزعتين من أجل إنتاج المعرفة، ذلك أن الجدل هو الذي يسمح بتطور الأفكار. ونلاحظ أن العقلانية التي يدافع عنها كوتنغهام شبيهة بالعقلانية النقدية الكانطية التي عملت على دمج النزعتين العقلية والتجريبية[الكلاسيميتين] في نسق فلسفي واحد من جهة، وإلى العقلانية العلمية المعاصرة التي تعمل على الجمع بين نتائج العقل ونتائج الواقع من جهة ثانية ( عقلانية باشلار). لكن قبل الوصول إلى هذا العقلانية التركيبية لابد من الوقوف عند أنواع العقلانيات، حيث يمكننا تصنيف هذه العقلانيات إلى أربعة انواع:
1 العقلانية الفطرية 2 التجريبية الكلاسيكية 3 العقلانية النقدية 4 العقلانية العلمية المعاصرة 1 العقلانية الفطرية: تتأسس العقلانية الفطرية على مصادرة أساسية؛ أن العقل مزود بأفكار قبلية مصدرها النور الطبيعي والفطري، نحن نفهم الواقع في ضوء الأفكار الفطرية التي توجد في عقولنا سلفا، وفي هذا الصدد يمكننا التمييز داخل هذا العقلانية بين 3 نماذج وهي:
1-1 أفلاطون: العقلانية التذكرية يعتبر أفلاطون المؤسس الحقيقي لهذه العقلانية إذ تمثل نظرية المثل النموذج الفعلي للعقلانية الفطرية التذكرية، وقد جاءت هذه النظرية من أجل حل مجموعة من التناقضات التي وقع فيها أفلاطون حينما حاول التمييز بين عالم المعرفة وعالم الاعتقاد، حيث جاءت نظرية المثل من أجل وضع الحد الفاصل بين عالم الحقيقة - عالم المثل- وبين عالم الوهم - عالم الظلال-؛ بين عالم نصل إلى بالاستدلال العقلي والبرهان الرياضي، وبين عالم الحس والظن الذي مصدره الخداع الحسي. يعتبر النموذج الرياضي النموذج المحرك للعقلانية الأفلاطونية، ذلك أن المعرفة الفلسفية كمعرفة رياضية هي شرط بلوغ اليقين، وشرط معرفة حقيقة الوجود الأزلي الذي لا يتغير أبدا، لأن المعرفة الفلسفية تبعا للنموذج الرياضي معرفة قبلية وليست بعدية، ضرورية وليست عرضية وكلية وليست جزئية (4). 1-2 ديكارت: الكوجيطو وفطرية الافكار إن الجديد الذي أتى به ديكارت، استخدامه للمنهج الشكي، لكن على مستوى الأفكار لم يقطع ديكارت بشكل مطلق مع الأفكار الفلسفية السابقة عنه وخصوصا الأفلاطونية منها، حيث عمل على إحياء العقلانية الأفلاطونية- الفطرية- بناء على الشك المنهجي، لقد شكك في كل شيء باستثناء شي واحد لا يمكن الشك فيه هو أننا نشك، أي نفكر، فالفكر هو الخاصية الجوهرية التي تميزنا ككائنات عاقلة.
تعتبر الذات المفكرة[ الشيء المفكر] نقطة الارتكاز العقلانية الديكارتية، فالعقل هو المعيار الذي يمكننا من الوصول إلى الحقائق الأبدية، وذلك من خلال ما اسماه ديكارت بالنور الفطري، أو تلك المعرفة الواضحة والمتميزة بذاتها، ولا تحتاج إلى وساطة من أجل بلوغها، والتي تتميز بخاصيتي الضرورة والكونية. على عكس الأفكار التي يكون مصدرها الحواس، ومن هنا جاء رفض ديكارت للحواس، لأنها لا تتميز بخاصيتي الضرورة والكونية لأن هذه الخصائص توجد في العقل. ومن أجل إقناعنا بهذا الأمر قدم ديكارت مثال الشمعة كي يبين أنه عندما ندرك الشمعة فنحن لا ندركها حسيا، بل عقليا وذلك من خلاص خواصها الرياضية والهندسية، وهنا يظهر الاهتمام الكبير بالرياضيات والهندسة بالنسبة للعقلانية الديكارتية (5). تجد العقلانية الفطرية -عند ديكارت كما هو شأن أفلاطون- ذاتها في النموذج الرياضي القبلي ( النموذج الاستنباطي) والواضح أن ديكارت نقل هذا النموذج من الرياضيات إلى الفلسفة ويظهر هذا الأمر بشكل جليا في كتاب التأملات الميتافيزيقية. يقول ديكارت في إحدى رسائله الأب ميرسان يقول : “ويمكنني أن أخبرك، وأرجو أن يظل هذا بيننا، أن هذه التأملات الست تحتوي على كل أسس علم فيزياء الذي أريده، لكن أرجوك أن لا تخبر أحدا، لأن معرفة هذا الأمر يعقد الأمور فلا يوافق مناصرو أرسطو عليها. وآمل أن يألف القراء تدريجيا مبادئي، ويعرفوا حقيقتها قبل أن يلاحظوا أنها تدمر مبادئ أرسطو "(6). هكذا يتبين أن جوهر ميتافيزيقا ديكارت قائم على المبادئ الرياضية، فليست هذه التأملات سوى التصورات الرياضية التي تحكم نظرتنا للعالم.
1-3 اسبينوزا و العقلانية الاستنباطية حافظ باروخ اسبينوزا على نفس المنهج الديكارتي العقلاني، إذ لم تخرج عقلانيته عن العقلانية الفطري الديكارتية، لكن الجديد الذي أتى به هو أنه أعطى الإطار الرياضي والهندسي لهذه العقلانية وذهب به إلى أقصى الحدود. إذا تأملنا كتاب الأخلاق المبرهن عليه بالطريقة الهندسية –نجد أنه وظف نفس المنهج الذي وظفه أقليدس في كتاب الأصول- نجد أنه برهن على العقلانية الفطرية بناء على النموذج الهندسي الاستنباطي، حيث نلاحظ أنه انطلق من مجموعة من البديهيات والتعاريف والخاصيات، ثم استنبط منها مجموعة جديدة من القضايا التي تلزم بالضرورة عن الأولى، بناء على معيار التماسك والانسجام المنطقيين، فلا يمكن فهم البديهيات إلا من خلال الأنظمة التي نشتق منها القضايا الجديدة ( النظام الشمولي Holistic system ) . يرى كوتنغهام أن العقلانية الاسبينوزية بالإضافة إلى الخاصية الاستنباطية تتميز بكونها عقلانية شمولية واحدية تقوم على مسلمة وحدة الوجود (7).
1-4 لايبنيز و العقلانية المنطقية
لم يخرج غوتفريد فلهلم لايبنيز عن التراث العقلانية الكلاسيكي بخصوص تأسيس نسق فلسفي متسق منطقيا وعقلانيا عن الوجود، غير أن الجديد الذي أتى به ج.ف.لايبنيز هو التقعيد المنطقي للعقلانية الفطرية. يميز ج.ف.لايبنيز بين نوعين من القضايا: 1 قضايا العلم والمنطق: حقائق وقضايا ضرورية نقيضها مستحيل، ويمثل قانون التناقض أساس التفكير في هذه القضايا ونصه: تكون القضية (أ) إذا وفقط إذا كان نقيضها يتضمن تناقض. هكذا يمكن القول إن الاتساق المنطقي هو المعيار الوحيد الذي يميز هذا النوع من القضايا. 2 قضايا الواقع: القضايا والحقائق العارضة التي تخضع لقانون السبب الكافي ونصه: كل ما يحدث في الوجود يحدث نتيجة لسبب معين (8).
تتحد العقلانية الفطرية عند لايبنيز انطلاقا من طبيعة العلاقة بين الموضوع والمحمول في الصنف الأول من القضايا، والتي تتحدد حسب لا يبنيز في مفهوم الاستغراق المنطقي.
من خلال العرض الموجز للخطوط العريضة للعقلانية الفطرية، يتبين أن جوهر هذا الخطاب يتمثل أساسا في النظر إلى النشاط المعرفي من زاوية ميتافيزيقية خالصة، تعطي للعقل سلطة مطلقة للتعرف على الأشياء بمعزل عن معطيات الواقع، وهذا ما قد يسقطنا كثيرا في ما يسمى بالنزعة العقلانية الوثوقية [ الدوغمائية]، اي الثقة المطلقة في العقل كملكة فطرية لها القدرة على اكتساب المعارف دون الرجوع للواقع والمعطيات الحسية.
2 التجريبية ونقد العقلانية الفطرية
بعد أن عرضنا الخطوط العامة للعقلانية الفطرية توصلنا إلى استنتاج أساسي مفاده أنه إذا قبلنا بالعقلانية الفطرية سنسقط في النزعة الوثوقية- الدوغمائية- أي دوغمائية العقل وقدرته اللا-متناهية في معرفة كل شيء. هذا ما دفع مجموعة من الفلاسفة التجريبيين إلى إعادة النظر في موقع العقل(كملكة فطرية) في عملية المعرفة. تعود النزعة التجريبية إلى فلسفة أرسطو بالأساس، حيث نجده يؤكد على دور الحس في عملية المعرفة يقول أرسطو "لا يوجد شي في العقل ما لم يوجد في الحس" (9) وبدون الحواس لا يمكن أن نصل إلى المعرفة. يرى أرسطو أن الاستقراء (epagoge) هو الطريق المباشر للوصول إلى الحقيقة، وهنا لا يجب أن نأخذ الاستقراء بدلالته المنطقية كما قدمه فرانسيس بيكون بقدر ما يعني ضرورة استخدام الحواس من أجل الوصول إلى الحقيقة، فدور العقل حسب أرسطو هو تنظيم الإدراك الحسية لا غير. في القرن السابع عشر كتب جون لوك كتاب ضخم عنونه ب "مقالة في الفهم الإنساني" (10) قام فيه بتشريح إكلينيكي للعقلانية الفطرية ومبادئها الميتافيزيقية. حيث انطلق في بداية الفصل الأول -المعنون بنقد الأفكار الفطرية- بدحض الحجاج التي قدمها دعاة الفطرية، فالسبب الذي يجعل من الفكرة فكرة فطرية حسب هؤلاء هو عموميتها، أي أنها توجد لدى جميع الناس، وأهم هذه الأفكار: مبدأ عدم التناقض، غير أنه يمكن الاعتراض على هذا الأمر بالقول إن مبدأ عدم التناقض لا ينطبق على الأطفال والمجانين بنفس الكيفية، فلقد اعتدنا على الحكم على قضية معينة إما بالصدق أو الكذب. حيث يصل ج. لوك في الأخير إلى نتيجة أساسية مفادها أن معظم الأفكار التي لدينا ليست أفكارا فطرية، وإنما أفكار نابعة من العادة...، فالعقل البشري بمثابة لوح أبيض تعمل التجربة على ملئه بمجموعة من المعطيات. هكذا نصل مع لوك إلى نسق فلسفي جديد قائم على المعطيات التجريبية، إذ تحتل التجربة مكانة مركزية داخل هذا النسق. وبالتالي يكون جون لوك أدخل عنصرا جديدا هو دور التجريب والإدراك الحسي في عملية المعرفة من دون ان يلغي مطلقا دور العقل في علية المعرفة ، فالدور الذي يلعبه العقل حسب لوك دور سلبي اي انه يتلقى المعطيات الحسية و ينشئ الأفكار من خلال الاصطدام مع المعطيات الحسية (11).
إذا كانت مهمة العقل -حسب لوك- الربط بين معطيات التجريبية، فإن دافيد هيوم سحب البساط من تحت أقدام العقل ليضعه أمام المدركات الحسية. قدم دايفيد هيوم تصوره التجريبي بصورة كاملة في كتابه الثوري "مبحث في الفاهمة البشرية" (12) الذي نشر سنة 1770 حيث اعتبر المدركات الحسية هي المصدر الوحيد لمعارفنا، حيث نجده يقسم هذه المدركات إلى قسمين (13): 1 الانطباعات الحسية، مدركات حسية تتمتع بالقوة والحيوية. 2 الأفكار، عبارة عن مدركات حسية خافتة تفتقر للقوة والحيوية. غير أن الثورة التي أحدثها دافيد هيوم باعتراف معظم مؤرخي العصر الحديث، وخصوصا أندريه كريسون لا تتمثل في إعطائه أولوية للإدراك على حساب العقل، بل تتمثل في تشكيكه في فكرة العلية التي لطالما دافع عنها دعاة الفطرية منذ القدم، باعتبارها علاقة ضرورية تربط السبب بالمسبب. يرى هيوم أنه عندما نقول إن (أ) هي سبب (ب) تتفكك هذه العلاقة إلى ثلاث عناصر وهي : 1الأسبقية و2التجاور و3العلاقة الضرورية (14). يرفض د.هيوم أن يكون مصدر العلية هو المنطق، بل العادة والتكرر، فكلما وضعنا قطعة فحم في النار إلا وشاهدنا أنها تشتعل. وعليه، فالضرورة السببية هي سلسلة من المترابطات الناتجة عن تكرار واقتران مجموعة من الحوادث (15). هكذا يكون د. هيوم وضع العقلانية الفطرية أمام مأزق خطير، لاسيما أن فكرة العلية التي لطالما اعتبرت بمثابة الفكرة الفطرية الضرورية والموجودة سلفا في العقل بشكل فطري؟ هذا المأزق سيكون نقطة انطلاق بحث الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في طبيعة العقل المركبة، حيث سيؤدي هذا البحث لميلاد عقلانية جديدة سيسميها جون كوتنغهام باسم العقلانية النقدية أو العقلانية التركيبية.
3 إيمانويل كانط والعقلانية النقدية ظل إيمانويل كانط متأرجحا لمدة طويلة بين العقلانية الفطرية التي مثلها كل من أستاذه كريستيان فولف وألكسندر باومغارتن( بناء على عقلانية لايبينز) وتجريبية دافيد هيوم، قبل أن يستقر على العقلانية النقدية التي جمعت بين العقلانية والتجريبية بناء على مبادئ منطقية محضة، حيث تتأسس العقلانية النقدية كما يقدمها إيمانويل كانط في كتابه نقد العقل الخالص على إمكانية تأسيس الميتافيزيقا كعلم أو كيف تكون الأحكام القبلية التركيبية ممكنة ؟ تنبني العقلانية النقدية على محاولة الربط بين الحدوس الحسية المشتقة من التجارب الحسية، وبين والمقولات الفهم القبلية المستمدة من المقولات المنطقية الأرسطية. باختصار شديد ودون الدخول في تعقيدات لن تفيدنا في فهم العقلانية يمكن اختزال هذه العقلانية في التعريف التالي: تعني العقلانية النقدية إمكانية اختزال الظاهرة إلى معطى هندسي حيث أن الخصائص الرياضية والهندسية تنطبق بشكل قبلي على الظواهر وهو ما يعني إمكانية تأسيس الفيزياء على الهندسة. وبناء على هذا الربط سيصل إ.كانط إلى رسم حدود العقل أي ما يجب أن يعرفه وما لا يجب أن يعرفه، فالعقل يستطيع أن ينتج خطاب بصدد الظواهر لكنه عاجز عن تقديم أي الخطاب يخص الأشياء في ذاتها ( النومين) وأي محاولة لركب هذه المغامرة قد تسقطنا في التناقضات والمفارقات (16). هكذا يصل كوتنغهام إلى استنتاج أساسي أن إ. كانط احدث ثورة كوبرنيكية في الفكر العقلاني وخصوصا بعدما أدخل المعطى التجريبي إلى العقلانية الفطرية، ونتج عن هذا الدمج ظهور أنموذج جديد من العقلانية المنفتحة على ذاتها والتي تقبل النقد باستمرار، فلأول مرة مع إ.كانط سيتجرأ العقل على نقد ذاته وسيدخل نفسه إلى المحكمة، حيث سيحاكم العقل نفسه بنسفه وذلك رسم حدود لا يتعداها.
4 العقلانية العلمية المعاصرة بعد أن عرضنا معالم العقلانية النقدية مع ايمانويل كانط سننتقل للحديث عن العقلانية المعاصرة، ولكن قبل عرض الخطوط العامة لهذه العقلانية التي تشبه كثيرا العقلانية النقدية، لا بد من الوقوف ( كما يقول ج.كوتنغهام )عند الفيلسوف الألماني الكبير فريديريك هيغل، ذلك أن هذا الأخير يعتبر مرحلة فاصلة في تاريخ العقلانية، وتتمثل مساهمة هيغل في الدعامة المنطقية التي تمثلت في المنطق الجدلي، ذلك أن دخول الجدل لهذه العقلانية سيسمح لها بالتطور والانفتاح أكثر. رغم أن قيمة هيغل الكبرى تمثلت أساسا في نقد التصور الكانطي للمعرفة. يتكون الجدل الهيغيلي من 3 لاحظات أساسية: 1 الأطروحة 2 النقيض 3 التركيب. يتحدد الجدل حسب هيغل انطلاقا من المفهوم (aufheben) والذي يحيل في اللغة الألمانية إلى فعلين هما الحذف (الإلغاء) أو الرفع و(الإعلاء) ، أي حذف وإلغاء التناقض ورفع وإعلاء ما هو غير مقبول بين الأطروحة ونقيضها حتى نصل في النهاية إلى التركيب. هكذا يكون ف.هيغل قدم للعقلانية المعاصرة الدعامة الضرورية التي جعلتها عقلانية منفتحة على الجديد باستمرار (17). يرى ج.كوتنغهام أن العقلانية العلمية المعاصرة بزغت بناء على الصراع المنطقي الكلاسكي بخصوص آلية الاستدلال: هل تتأسس العقلانية المعاصرة بناء على الاستقراء(التجربة) أم الاستنباط( العقل)؟ تمثل الوضعية المنطقية محاولة حقيقة لتأسيس العقلانية على أسس تجريبية أي على منطق استقرائي قوامه التجربة على اعتبار أن التجربة هي المعيار الوحيد للحقيقة كما يقول بيير دوهيم، لكن رغم المحاولات التي حاولت تأسيس نظرية عامة في الاستقراء كما يقول كارل بوبر باءت جميعها بالفشل: إن القوانين العلمية لا نصل إليها انطلاقا من جمع الملاحظات، بل من قوة الإبدعية التي مصدرها العقل كما عبر عن ذلك ألبرت آينشتاين في كثير من الأحيان "(18). هكذا فقيمة العقلانية حسب بوبر تتجلى فيما اسماه القابلية للدحض والتفنيذ، أو معيار الفصل حيث يمكن اعتبار النظرية كفرضية مؤقتة قابلة للدحض من طرف التجربة، وهكذا تتطور العقلانية انطلاقا من السيرورة التفنيذية. تتأسس قابلية الدحض أو ما يسميه بوبر بمعيار الفصل، على الفصل بين ما هو علمي وما هو غير علمي من جهة، وبين النظريات الأكثر ملائمة للواقع العلمي من جهة ثانية. حيث يسمح هذا معيار بالنظر للعقلانية العلمية من منظور استنباطي، ذلك أن الخاصية الاستنباطية هي التي تمنح للعقل العلمي صرمته المنطقية وموضوعيته، غير أن هذه الموضوعية ستتعرض لضربة قوية بفعل الأبحاث اللاحقة في الابستمولوجيا وخصوصا من طرف الأبستمولوجيين توماس كون وبول فايربند (19).، اللذان ينتميان إلى التيار النسبوي في فلسفة العلم، حيث توصلا كل في مجال بحثه إلى أنه لا فرق بين البعد العقلي والبعد الاختباري في العقلانية العلمية المعاصرة، لأن الأمر يتجاوز ذلك، فالعقلانية المعاصرة تقوم في الأصل على مبادئ تتجاوز العقل. فليست العقل أكثر تمييزا من الأسطورة أو الدين أو الفن. فإذا كان ت.كون أكد على دور المجتمع والجماعة السياسية في بناء الحقيقة العلمية، فإن فايربند يرى أنه ليس هناك معيار للعقلانية أفضل من آخر، فالتجريبية ليس أفضل من العقلانية والعكس صحيح. كما أن العقلانية العلمية ليس أفضل من الأسطورة أو السحر. هكذا سنصل مع كل من بول فايرباند وتوماس كوهن إلى نزعة معادية للعقلانية؛ ولكن ما العمل بعد أن وصلنا لهذا الطريق المسدود ؟ يرى كوتنغهام أن الحل يكمن في تجاوز النظرة النسبية للحقيقة وذلك عبر الانتقال من الابستمولوجيا النسبوية إلى نوع من الابستمولوجي التي يسميها بالابستمولوجيا التأويلية وقد استعار هذه التسمية الفيلسوف الأمريكي من ريتشارد رورتي. والتي طرحها في كتاب الفلسفة ومرآة الطبيعة (20).
يتبين من خلال هذا العرض الموجز للعقلانية - كما ندافع عنها- ليست بتلك البساطة التي تدافع عنها النزعة العقلانية الساذجة التي تثق ثقة عمياء في قدرة العقل على معرفة كل شيء، وإنما هي فلسفة متجددة متطورة باستمرار، فالعقلانية الحقة هي العقلانية التي تتأسس على المبادئ القبلية والفطرية الموجودة سلفا في العقل الإنساني من جهة، وعلى المعطيات الحسية والتجارب البعدية تكتسب من الواقع الخارجي.
الإحالة : (1) كوتنغهام، جون[1997]، العقلانية فلسفة متجددة،ترجمة، الهاشمي، محمود منقد، مركز الانماء الحضاري، حلب سوريا . (2) المرجع نفسه، ص.12. (3) أورده رورتي، ريتشارد[1979] ، الفلسفة و مرآة الطبيعة، ترجمة : حاج اسماعيل، حيدر، مراجعة، شلهوب، ربيع، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى بيروت 2009، ص.221. (4) ج.كوتنغهام، مرجع سابق ، ص39. (5) المرجع نفسه، ص.ص. 50-58. (6) Descartes René : philosophical letters , translated and edited by anthony kenny ( oxford : clarendon press,1970) , « letter to mersenne « 28 january 1641,p.94. (7) جون كوتنغهام ، لمرجع نفسه، ص.ص. 59-64. (8) ن.م، ص.ص.66-68. (9) أورده كوتنغهام في المرجع السابق، ص.38. (10)John locke , An Essay Concerning Human Understanding (Clarendon Edition of the Works of John Locke), edited with introduction by peter h. nidditch , Paperback – August 23, 1979 (11) جون كوتنغهام مرجع سابق ، 86. (12) هيوم ، دايفيد[1770]، مبحث في الفاهمة البشرية ، ترجمة ، موسى وهبة ، دار الفارابي، ط.1، بيروت 2008. (13) نفس المرجع، ص.ص.38-39. (14) نفس المرجع، ص.13. (15) جون كوتنغهام، المرجع السابق، ص.94. (16) المرجع نفسه، ص.99 (17) المرجع نفسه، ص.116. (18) المرجع نفسه، ص.159 ، أورد كوتنغهام قولة لكارل بوبر مقتبسة من كتابه منطق الكشف العلمي. (19) المرجع نفسه،ص.161. (20) المرجع نفسه،165.
#مصطفى_قشوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|