مرح البقاعي
الحوار المتمدن-العدد: 1285 - 2005 / 8 / 13 - 12:12
المحور:
الادب والفن
تعود الإشراقات الأولية للفن البصري، أو ما يدعى الأوب آرت، إلى منتصف القرن العشرين للمهندس والمنظّر لهذه الظاهرة الفنية جوزيف ألبيرز الذي أسس لنظريتها وبرمج تجاربها البصرية. ولم يلقَ هذا الفن اهتمام النقّاد والمتلقّين حتى فترة الستينات حين انتظم في متحف الفن الحديث في نيويورك، ولأول مرة، معرضا للأوب آرت في العام 1965 حمل عنوان: استجابة العين The Responsive Eye.
مصادر الفن البصري الأولى هي التجريد الذي يعتمد على تكرار رياضي لصيغة أو تشكيل مبسّط، بالألوان الأساسية، على امتداد اللوحة، بغية خلق موجة بصرية لونية أو تهويمات حسّية اهتزازية ومؤثرات بصرية متحركة.
نستطيع أن نعّرف الأوب آرت تقنيا بأنه يستند إلى قواعد المنظور البصري لتوليد البعد الثالث المفقود من خلال التكرار التشكيلي مدعوما بلعبة الضوء والظل اللونية.
بمعنى آخر فإن القواعد البصرية التي تفرضها العين لقراءة اللوحة ستكون حُكما "موضوع" العمل الفني عينه.
أمواج الرصيف
تعتبر أعمال الفنان المغربي محمد المليحي صورة ناضحة لتيار حركة الأوب آرت في العالم العربي.
إنها تقبض على روح البحر في تتالي الأمواج الممتدة على جدارياته وفي صياغة أحجار أرصفة مدينته البحرية: أصيلة. هناك حيث يلتقي المحيط الأطلسي والبحر المتوسط يتجلى اندغام ريشة المليحي بالماء الذي لا يكتفي به جارا لأسوار مدينته بل يدعوه إلى عقر اللوحة لتتسارع الموجة في متوالية زخرفية تشكل قصيدة بصرية زرقاء هي الأبهى.
تثيرأعمال المليحي إحساسا بالحركة على المستوى البصري بنفاذ نسقي متفوّق وذلك من خلال اعتماد الصياغة التشكيلية التي تعتمد على متواليات الموتيفات الزخرفية المتمثلة في الموجة. وتتصاعد الحركة في اللوحة كلما تواترت وتجاورت وتعاقبت الوحدات الزخرفية.
نستطيع أن نتحسس في أعمال المليحي أبعاد فن الاختزال Minimalism Art الذي ظهر في الولايات المتحدة في فترة السبعينات والذي يقتصر على تقليص الأشكال وإعادتها إلى أصولها البدئية، بعيدا عن الروتوش. ويبدو تأثير هذه المدرسة واضحا في اختياره للرمز الأكثر ارتباطا بحركة الطبيعة وبداية التكوين: الموجة. ويعتبر المنحى التبسيطي الفني إلى جانب التجريد الهندسي عمادا لتوليفة الفن البصري.
هكذا ويلجأ المليحي إلى الألوان الأساسية الصافية والفاقعة من أجل توكيد مساحة الوحدة الهندسة المختارة في العمل وتحقيق الانسجام المنشود في متوالياتها بحيث يغلب على العمل الطابع البصري الزخرفي الذي يستند إلى تواتر الوحدات المسطّحة ذات البعدين.
يقول المليحي: "أعتمد في صوغ أعمالي على مرجعية أساسية هي موجة الشاطئ المغربي مضافا إليها الإيحاءات الذهنية والحسية والضوئية بحيث ينجلي من خلالها البعد الثالث في فضاء اللوحة التي تقتصر على الوحدات الهندسية الثنائية الأبعاد".
وتعتبر مدينة أصيلة الشاطئية في المغرب، مسقط رأس المليحي، شاهدا أثرا على أعماله و اصطفائه لوحدة الموجة التي نراها تسيطر على الجدرانيات وحتى على الرصيف الحجري المؤدي إلى قصر المؤتمرات في المدينة، والذي صَمم أحجاره من المتوالية الهندسية للموجات، فصار الطريق المرصوف إلى البحر هو ذلك الحيّز شبه الثابت، شبه المتحول في آن.
أرياش أبرامز
لقد تطور الفن البصري عن وصفته الأصلية التي تأسس عليها في ستينات وسبعينات القرن الفائت ليحمل بعدا إنسانيا عاطفيا مع الفنانين الشباب الأميركيين.
أسوق هنا أعمال الفنان الشاب دوفر أبرامز وهو واحد من أنضر الوجوه الفنية في لوس أنجلوس الذي يشتغل على المدلولات الحسية للفن البصري في مناورات زخرفية ثاقبة لمعاينة العلاقات الإنسانية في بعدها الحدسي.
تحمل أعمال أبرامز طاقة عالية تتولد من تلاحقات الوحدة التشكيلية المختارة أو الوحدات التي تتوالى في لوحته مولّدة حركة لا حدود لها في عالم من الخيبات والبراءة والتحدي الإشراقي.
لقد انتقل أبرامز نقلة نوعية من عالم فن الغرافيتي الذي يقتصر في تقنياته على استعمال ألوان السبراي "الرشاش" بشكل عشوائي على الجدران و كتل الخرسانة، إلى حرفية الريشة ورصانة أنابيب الألوان الزيتية على مساحة القماش أو رقائق الخشب على يد معاصره الفنان جيل باترسون. و بدأت أشكال أبرامز تتبدى في أعماله في إيقاع منسجم بين عاطفة الشباب الفائرة والرشد الإبداعي المتزن.
يقول باترسون عن أعمال صديقه المقرّب أبرامز:” تتجلى أعمال أبرامز في سرب من الأفكار الطيّارة ذات المدلول الحسي الرهيف يتم سردها في شكل انفجارات لونية وتشكيلية".
ويتابع باترسون قائلا:" يعمل أبرامز ما يقارب الـ 10 ساعات يوميا. وهو لا يغادر مرسمه قبل أن ينهي العمل الفني الذي شرع به صباحا، وفي جرعة واحدة! إنه يحاول من خلال رموزه اختبار رهافة المتلقي وحساسية جهاز الاستقبال البصري والذهني لديه ـ ودرجتها تختلف عادة من شخص إلى آخر".
حين خابرته إلى صالة العرض التي يديرها في مدينة لوس أنجلوس تحت مسمى: إنفيوجن غاليري Infusion Gallery سألته ببساطة أن هل تصنّف نفسك ضمن فئة فناني الأوب آرت فأجاب:" بالطبع نعم. فأنا أعتقد أن أعمالي الفنية تقوم بإثارة العصب البصري مباشرة وتحثه على نقل المشاعر إلى المخ ـ أقصد تلك المتعلقة بإرهاصات عاطفية مثل الحب، الخسارة، الألم، الحنين... الخ".
أما عن التقنيات الذهنية التي يلجأ إليها في أعماله الفنية فيقول:" أدعو أسلوبي في الخلق الفني: دفق المشاعر stream of consciousness. وهنا أتعمد أن يكون ذهني، خلال ممارستي للعمل، جليا وصافيا من الأفكار بحيث تقود ريشتي تداعيات الحواس وإيحاءات الشريط العصبي التي تكاد تسيطر على جسدي برمته وتجري في عروقي موقع الدماء منه ـ ما يتجلى في العمل الفني تشكيلات فنية عفوية تقودها مبادرات حسية خالصة في الأداء، والتخييل، والمرجعية".
في بيئة الأوب آرت التي لايحدها المكان والزمان والتي تنفلت في متواليات بصرية تكاد تنتظم في عقد لحني لا ينتهي يبدو دور الفنانين البصريين ابتداء بجوزيف ألبيرز وفيكتور فاسيرلي، مرورا ببريدجيت رايلي و لورانس بونز، وصولا إلى دوفر أبرامز ومعاصريه، يبدو دورهم مقتصرا على تعرية العصب البصري لمؤثرات اللون والشكل بحيث يتمتع الناظر بالحرية في استقراء العمل بالقدر نفسه الذي تمتع بها الفنان حين قيامه بعملية الخلق الإبداعي.
هكذا يرتبط الأوب آرت ارتباطا عضويا بعنصر "الحركة" ـ ذلك أن التكوينات المتلاحقة والمستفِزة للبصر في آن تكاد تخلق حالة من الوهم الجميل بدينامية الحركة المبتغاة التي تؤسس لفقه العمل ولإسقاطاته البصرية أولا، والذهنية الشفيفة آخِرا.
#مرح_البقاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟