|
قال: انهض، أنا أخوك سميح..!!
حسن خضر
كاتب وباحث
(Hassan Khader)
الحوار المتمدن-العدد: 4555 - 2014 / 8 / 26 - 13:54
المحور:
الادب والفن
أرى سميح القاسم، الآن، دامع العينين، على باب المُقاطعة، هابطاً من الحافلة التي أقلت فلسطينيين من الجليل، جاءوا لوداع محمود درويش. يضمنا عناق بلا كلام، فما من كلام يليق بمقام الحزن، هذا. يقف أمام جثمان صاحبه المسجى ملفوفاً بعلمنا (لا بأعلام الفصائل)، ويصعد من أحشائه صراخ يهز القاعة: انهض أيها المتماوت، أنا أخوك سميح. لم يكن المتماوت اليعازر، ولا كان الصارخ في بريّة الفجيعة يسوع المسيح. ومع ذلك، عاش الأوّل والثاني في بلادنا، وإن يكن على، وفي، سبيل مجاز يحيل إلى قوّة الروح، وكفاءة الخيال. فلم لا يحدث هذا مرّة أخرى، في، وعلى، سبيل مجاز يحيل إلى قوّة الروح فينا. فهذه، فلسطين الغزالة، وليست قطر، مثلاً، والكلام، هنا، عن سحر الشِعر، لا عن سعر الغاز. تململ أقارب لمحمود في القاعة، غضبوا من "تمثيل" سميح، الذي أغضب، في وقت سبق، المُسجى على دمع شعبه الآن. ولكن الصارخ في بريّة الأحزان، هذا، كان صادقاً، جريحاً، وصريحاً، وفصيحاً، في الاستعانة بمجاز القيامة، على جائحة الغياب. كان المشهد، وفيه، ما يشبه أسطورة مشغولة بذهب البعيد، ومجبولة بماء الحياة. فها هم أبناء الساحل السوري (نحن)، بعد مجاورة الأبد على سواحل المتوسط، يبكون أجملهم، وشاعرهم، ويشيّعونه على محفة من الدمع، واحتمال القيامة، بذاكرة تطل على البحر من شرفة عناة. كان يعرف، وكنّا نعرف، أن صاحبه لم يكن متماوتاً، ولن ينهض. ولكن التصعيد الدرامي للإيحاء يستحضر طقوساً مُورست في بلادنا، وبلاد غيرنا، على مدار ما لا يحصى من القرون، وتجلت في ما لا يحصى من الأساطير والاستعارات، وما أبقته مصفاة الزمن منها، في نسيج حياتنا اليومية. يحتاج بنو البشر الأسطورة (الثقافة) للبقاء على قيد الحياة، وفك ما استغلق من شفرتها، وتذوّق (إذا شئت) ما طاب عسيلتها. هذا على المستوى اليومي، والنفعي، العملي والمباشر، وعلى مستوى التخييل والأخيلة، التي لا يمكن التدليل على ضرورتها، بالضرورة، في المعمل، ولكن يمكن العثور على ما يبرر استحضارها وحضورها في تاريخ الإنسان على الأرض. وهذا ما يغامر الشعرُ بالاقتراب منه مُترجماً وترجمة. فهو ليس علماً من علوم الواقع، وما فوقه أو بعده، ولا معرفة بالمعنى التاريخي والسوسيولوجي، ربما كان أقرب إلى الفلسفة إذا ما اقترب معناها من زعزعة اليقين بالأسئلة، والتفكير في فحوى، وجدوى، ومعنى، ما يختلف ولا يأتلف. أما إذا تعلّق الأمر بجماعات على حافة القيامة (فلنقل كلما تحوّلت شعوب إلى جماعات مُتخيّلة في سياق مشروع دولاني للتحرر القومي) فلا فكاك من تماهي وظيفة الشاعر (على نحو خاص) مع سارق النار، وحدّاد الهوية، وصانع النشيد، على طريق البيت. لذا، ما الذي يحول دون العثور على ما يبرر انتسابنا إلى الساحل السوري، والعثور في رحيل الأقوام، وخيل الإمبراطوريات التي تسابق الريح في آسيا القديمة، على ما يشبه تغريبتنا في النصف الثاني من القرن العشرين؟ ولا يهم ما إذا حذفت تفصيلاً هنا، وأضفت تفصيلاً هناك. هكذا تتكوّن الهويات. وهذا، على الأرجح، ما فهمه كثيرون، وبينهم ما تبقى من جيل شهد المشاهد كلها، في قاعة يدوي فيها صوت سميح القاسم مُطالباً صاحبه بالنهوض. ولماذا يبدو مشهد القاعة في المُقاطعة، وما استحضره من تداعيات، ضرورياً في سياق الكلام عن سميح القاسم، وبعد رحيله؟ يستمد المشهد أهميته، وضرورته، من حقيقة أن الهوية التي أسهم، ضمن آخرين، في صياغتها: محمود درويش، وسميح القاسم، وإميل حبيبي، وتوفيق زيّاد، وجبرا إبراهيم جبرا، ومعين بسيسو، وإميل توما، وغسان كنفاني، وإسماعيل شموط، وإدوارد سعيد (وجورج حبش، وياسر عرفات، وخالد الحسن، ولم لا، فهم أيضاً صاغوا على طريقتهم) هي آخر وأهم خطوط الدفاع عن فلسطين، كما عرفها وعرّفها، وتخيّلها هؤلاء، وحلم بها، ومات وعاش من أجلها، ما لا يحصى من الفلسطينيين. لن يقوم مقام هويتنا، إذا انهارت، شيء آخر يحمينا من مصير مشابه لما أصاب العراقيين، والسوريين، والليبيين، وما يتهدد آخرين. فما حدث هناك يمكن أن يحدث في كل مكان آخر، ولسنا على أية حال في وضع نحسد عليه. وقد نجد أنفسنا أمام خيارين يمثل كلاهما نقضاً لفكرة الهوية الوطنية، ويهدد بتدمير البلاد والعباد: القرضاوي لايت، أو داعش النسخة كاملة. لذا، وفي مناسبة رحيله، يهم التذكير بحقيقة أن سميح القاسم كان أحد الذين أسهموا في صناعة هويتنا وثقافتنا الوطنية، على مدار أربعة عقود مضت. كانت تلك الهوية عفية، وقوية، حتى زمن قريب، لكنها تبدو عليلة وكليلة هذه الأيام. وبالقد نفسه، يهم التذكير (كما سبق في سياق الكلام عن محمود درويش) بحقيقة أن تحويل القاسم إلى أيقونة لا يخدم مشروعه، ولا الهوية والثقافة الوطنية، فالمهم يتمثل في إحياء، وتعميم، القيم التي وسمت المشروع، ورسمت ملامح الهوية، وكلاهما مع رحيل آخر الكبار يبدو وكأنه ينتمي إلى زمن مضى، وانقضى. ثمة ما يوحي بالنهايات. أيها المتماوت، انهض، أنا أخوك سميح. ولو أوصلته الحياة إلى يوم الناس هذا، لقال الكلام نفسه أخوك محمود، يا سميح.
#حسن_خضر (هاشتاغ)
Hassan_Khader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السوق التي أنجبت الوحش..!!
-
هيلاري ومفاجآتها، للجادين فقط..!!
-
استشهاد المواطن المُسن..!
-
بطولة الناس العاديين..!!
-
تفصيل صغير في مشهد الخليفة..!!
-
أحبتْ يهودياً، وما علاقة محمود درويش بالأمر؟
-
مريض بالقلب وميكانيكي سيّارات!!
-
الحق والبطلان في الفرق بين أتاتورك وأردوغان..!!
-
هل الأرض كروية..!!
-
عن غزة واستراحة المُحارب..!!
-
حروب داعش والغبراء..!!
-
المصالحة والمصارحة..!!
-
غارسيا ماركيز في غزة..!!
-
ربحنا باكستان وخسرنا الهند..!!
-
عن العلمانية وأسلوب الحياة..!!
-
كل يسار وعشائر وأنتم بخير..!!
-
سورية: حرب مفتوحة وأفق مسدود..!!
-
محمود درويش ومعرض الكتاب في الرياض..!!
-
القليل منها يشفي القلب..!!
-
حماس، أسئلة في فضاء مفتوح..!!
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|