أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - ليالي المنسية/ القسم اثاني















المزيد.....



ليالي المنسية/ القسم اثاني


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 4555 - 2014 / 8 / 26 - 00:10
المحور: الادب والفن
    


مفتاح الحكاية

استدار نحوي!
من حركة رأسه ووقفته المباغتة،من صمته لدقائق،عرفت أنه يحاول أن يـ كظم غيضه،أو يجتهد ليبتلع صدمة السؤال،كان القمر ينير الأرض المفروشة بالصمت،كنت أجانبه،هو على يميني وأنا على شماله، كان سريع الخطو،عكس خطواتي،لم أطلب منه التريث،أو التأني في مشيه،أو تقليص مسافة خطواته كي ننسجم في مشينا،على أقل تقدير نمشي لصقاً أو معاً بخط مستقيم،الدرب ما زال في أوّله،علينا أن نمشي ربما الليل كلّه،أيّ ليل،ليل مدجج بالرعب،بالمجهول،بالحرب،ليل الحرب طويل ومميت،علينا أن نمشي،وقد نلحق ليلنا بساعات مقتطعة من النهار القادم،الدرب طويل والوقت قد لا يكفي إنهاءه بسيرٍ حثيث ومرتبك،في ليلٍ بلا دليل،وقد لا نحتاج لساعات أخر غير ساعات الليل كي نصل إلى موقع وحدتنا.
كنت أجتهد،أحياناً أسبقه وأحيانا عندما أقف لألتقط أنفاسي يسبقني.
ما أثقل لساني،لم أمتلك إرادة في تلك اللحظة أن أمضغه،ليس من الخصال الحميدة التدخل السريع للكشف عن أسرار إنسان لم تعدو رفقتك معه سوى نصف يوم أو ثلثه،رغم كونه أبن زمنك وأبن بلدتك،ما رميت من كلامي هو قتل الوحشة،وربما تعزيم نفسينا بشجاعة واجبة.
ليلنا أبدي،دربنا يرتمي في مجهول الحرب،وأحتمالات الخطأ واردة ومهلكة،رغبت أن نواصل سيرنا بلا تردد في أرض مخيفة،أرض لم أمشيها نهاراً،الحرب دفعتني أن أغورها ليلاً،عباءتها ظلام،نهايتها عدو متمترس، وأسلحة حرة،وألغام تتربص بالعابرين.
قلت:
((هل عشقت؟))
((كانت لي محاولات!))أجابني بعد ثوانٍ صمت.
***
[هذه أوّل العراقيل،حتماً سيجرف الحكاية عن مسارها،ما حكته لي(وداد)عنه،وضعته بين قوسين(مخاض ثورة أخلاقية عارمة)،وما برق ذهني به بدا كنقطة ضوء داخل مهرجان مصابيح،كان لابد من تدخل سريع لانتشال الحكاية من مستنقع الفرضيات وهطول الأسئلة المضادة،في دفتري الصغير،كتبت يومها،(السيد المدير)زير معلمات،شاب وجد نفسه معقلاً لرغبات جنسية فوق العادة،جعلته الدولة أن يكون ديكاً ثورياً لكبح شهوات دجاجات تحمل بيض العزلة،ففي تلك الأيّام شاعت بين الناس أنّ كل(معلمة)دجاجة بيوض،وكانت كناية عن راتبها،في زمن العطالة والتقشف والمجاعة الشعبية،كان أمام السلطة خيارين مفتوحين،وجدت السير باتجاهين يؤمن لها حياة خالدة وديمومة جماهيرية عارمة،لذلك أعلنت حربين في وقت واحد،حرب تذويب الأقليات في حوض العقائدية،وتنطوي تحتها قضايا عرقية وشعوبية أخرى شبه مدفونة،وحرب مزامنة على دمامل الفساد الناهضة في أغوار الإناث المتحررات،كي لا تنفلت الثورة من عقائديتها العلمانية والتحررية وأخلاقيتها المجتمعية.
(وداد)لم تكتم مشهداً أو تزيح موقفاً،كانت حاضرة وفاكهة ناضجة وسوس الشيطان كثيراً في نفسها،كادت أن تركن في بعض المرات لظل الراحة،بعدما فلتت عواطفها من أسلاك العفّة،وسقطت على مسالك المتعة،فالنفس ضعيفة وعاشقة للانحراف كما تؤكد،لكنها تمالكت نفسها وأبقت بضاعتها الإنثوية مقدسة،بعدما رأت رأي العين،وسمعت سمع الأذنين ما يجري أمامها،أو تحت جنح ظلام إجباري، فرضته الحكومة بعدما حوّلت المدارس من خصخصة إلى مختلطة.
أين يكمن الخلل،(صاحبي التعيس)لم يكن تعيساً كما وصفته(وداد)،بل رفيق درب التقينا مصادفة في كراج(النهضة)،لم نكن نحتاج لوقتٍ طويل كي نتعارف،كنّا من بلدة واحدة،نظرة واحدة كفلت بجمعنا،تغدينا معاً في مطعم شعبي،وركبنا حافلة عسكرية تنقل الجنود مجاناً،لكن بعد الخروج من حدود العاصمة ينهض جندي ليجمع(ربع دينار)من الجنود بداعي مساعدة السائق العسكري،مع تمرير جملة أبدية((حتى يشغل لنا السائق التبريد))،أتذكر أنني دفعت مكانه(الربع دينار)رغم إلحاحه بالرفض،عند الغروب وصلنا الخلفيّات،أستلمنا أسلحتنا الشخصيّة،لم يكن بد،كان علينا أن نمشي إلى وحدتنا،بعدما وجدنا مئات المسرفات الحربية والمركبات المحملة بالجنود،تحرك عسكري غير طبيعي،عرفنا أن خط سير المركبات مقطوع كون(إيران)أعلنت هجومها الموسمي الكبير،تمكنا أن نتسلل ونقتحم الظلام المنخور بضوء القمر كي نصل إلى وحدتنا العسكرية راجلين،تلبية لأمرٍ أشعرنا به،عند وقوع الهجوم على المجازين قطع إجازاتهم والالتحاق فوراً بوحداتهم]
***
مشينا مسافة قبل أن أتكلم:
((حتماً كانت محاولات متعبة على ما أظن))
((الحب وادي التعب))
((لكنه وادي جميل أليس كذلك؟))
((نحن غيوم عابرة،لنقل ماطرة،ننزف ماءنا ونمضي،من المستفيد من المطر،لا تقل الأرض،لا تقل سر من أسرار ديمومة الحياة،هذه أجوبة قديمة،أنا أنظر إلى الحياة،على أننا غيوم عابرة والنساء هن الأرض المحرومة،كلما نمطرهن تتطهر الحياة من الجدب وتنمو من جديد))
((أنت تفسر الحياة بطريقة فلسفجنسية غريبة))
((عندما تعيش في ظل الحرب،تحت عباءة الفوضى لا يمكنك أن تواصل حياتك من غير فلسفة تناسب أفكارك،وتعطيك زاد تواجدك،فالحياة بنيت على علاقة جذب وتنافر ما بين معسكرين متنافرين،وكل الكائنات توزعت على هذين النقيضين،ليل ونهار،أسود وأبيض،أنثى وذكر،يقظة ونوم،أعلى وأسفل،شرق وغرب،شمال وجنوب،برد وحر،سعادة وشقاء،جوع وشبع،غبي وذكي،بكاء وضحك..ألخ))
((دعنا من هذه الجدلية العقيمة،أريد رأيك،هل الحب جزء من فلسفة حياتنا؟))
((لكي لا نخلط الأوراق،يمكنني أن أفسر القضية وفق ما أراه أو لنقل وجهة نظري،نحن نمارس الحب ليس لأننا نرغب أن نعيش في الحب،أو تنتفخ فينا غريزة الفضول كوننا جربنا فاصلاً من فواصل الديمومة،نحب من أجل قتل جراثيم الهروب فينا،نحن نهرب من أنفسنا من واقعنا من زمننا،من الموت الحاضر فينا،وليس لدينا ملاذاً ينجينا من الضياع سوى هذا الذي نسميه الـ حب))
((أليس الحب هو البيت الذي يوقف هروبنا ويكبح جماحنا؟))
((هذا بالنسبة لنا،نحن نباتات الشرق،وكما يحلو للآخرين بوصفنا بـ نباتات الشر،لأنهم ينظرون إلينا مثلما ينظرون إلى الأشواك والأدغال المنتشرة في المزارع والحقول جنباً إلى جنب مع الورود والنباتات النافعة،مختصر مفيد الناس ورود وأشواك،بالنسبة لنا ما تقوله واقع حال،لكن هذا لا يرضي سريرة البشر،كونه جاء متحرراً وعاش متحرراً،فالقوانين لجمته بأسلاك تحد من رغباته التحررية،فولد العنف والتمرد،لذلك نجد الغرب بدأ يتقهقر إلى حياته السحيقة،حياة المشاعية،بعدما وجد حداثة الحياة محض أقفاص خانقة،بل حياة كرتونية مزيفة،خالية من السعادة والفطرة البدائية))
صمت.
كان وقع أقدامنا يتبعنا،والأرض المنبطحة تحت وأمام أقدامنا تبدو صفراء،ثمة كائنات ليلية تظهر وتضمحل،توقف،هيأ بندقيته على وضعية الرمي..قال:
((يجب أن نحسب لكل الاحتمالات الممكنة،الهجوم وشيك وربما هناك من تسلل وهو الآن يترصد ليصطاد الفرائس المنفلتة))
((لا أعتقد أننا سنجابه حيوانات مفترسة في أرض ملغومة))
((قد نسقط في كمين))
((أنت على حق،لم أفكر بهذا))
هيأت بندقيتي ومشينا من جديد..قلت:
((حدثني عن حبّك؟))
((أسألك بـ الله أن تبقي ذاكرتي نائمة))
((ليلنا لن ينجلي من غير حوار نبدد به وحشة المسافة))
((حسناً..أنا لم أحب!))
***
[شرارة مباغتة،أوقدت فيّ مصباح الدهشة،ما حكته(وداد)عنه،كان الكعكة الدسمة فوق طاولة شخصيته الثعبانية،قالت أنه كان يتوسل بشيء من النحيب الصامت،وكان يرضخ أحياناً،يكاد أن يرتمي أمامها،وبكامل استعداده متهيئاً بتقبيل قدميها،من أجل أن تقبله حبيباً،كان شحاذاً مستجداً يستعطف غنياً بخيلا،أعلن حبه كما تؤكد(وداد)،متيم مجنون،يريدها شريكة فراش لا شريكة درب قصير كما كان،هل من المعقول أن ذاكرتي بدأت تتمرد عليّ،بدأت تنقل لي تلك الوقائع بطريقة معكوسة،توالد شك،أجبرني أن أراجع مخزونات ذاكرتي في خلوات طويلة،قبل أن أصطدم بتناحر فوضوي بين تفاصيل ذاكراتنا،تجعل الحكاية محض هذيان،فالجملة ما زالت طرية وحرورية،قالها مع حسرة،ما تزال تلفح وجهي بحرارة غضب أو أرق أو كذبة عفوية وربما مفتعلة على ما ظنَّ ظنّي]
***
((حدثني عن بعض محاولاتك))..قلت له.
((كلنا نحاول،ليس بالضرورة أن نمتلك الأشياء المرغوبة،تكفينا المحاولات وإن كانت فاشلة،المحاولات قيمة اعتبارية تكمل قيافة المرء،كل أولئك اللذين يتجنبون المحاولات الحياتية هم فزاعات في الحقل البشري))
((حدثني عن واحدة منها؟))
((كل محاولة مشهد بانتومايم،لو حكيناها تفقد متعتها))
صمت.
توقف،حدّق في السماء،كانت تضج بالنجوم،أقمار أصطناعية تتقاطع،لمحت يده ترتفع..قال:
((تلك هي ـ نجمة سهيل ـ هذه المجموعة ـ الدب الأكبر ـ وتلك ـ الدب الأصغر ـ هذا المستطيل المذنب ـ بنات نعش ـ وتلك ـ الميزان ـ أنظر إلى ـ العقرب ـ في تألقه،بوسعي أن أحدد لك موقع كل بلدان العالم من خلال هذه التشكيلات النجومية،أليست هي علامات اهتداء؟))
((معلوماتي ضعيفة عن الكواكب))
((أنت لم تحاول في حياتك على ما أظن))
((وماذا تسمي طلبي هذا!))
((ربما لم تجرب في السابق،هذه الرحلة الشاقة أنهضت فيك أوّل تجربة لك في باب المحاولات))
((لا أعرف ما تعني بالمحاولات))
((ألم تثابر في حياتك؟ألم تكافح لنيل أو تحقيق رغبة ركبت عقلك؟))
((في الدراسة فشلت))
((ستفشل في انتزاع أي حلم سيراودك أيضاً))
((للظروف سلطة تسيِّر المرء خلاف ما يحلم))
((ألم تحاول في العشق؟))
((ربما هذا ما أفلحت فيه))
((أهي جميلة؟))
((لا يعنيني الجمال،التقينا صدفة،تبادلنا نظرات كانت فيها أسئلة صريحة،فهمنا بعضنا بسرعة،وتناصفنا رغبة مشتركة،أن نركب سفينة المستقبل معاً باتجاه باب الأمل))
((قرارك مجحف بحق نفسك،أنت قتلت فيك ينبوع المحاولات يا أخي))
((أليس ذلك جوهر حياتنا؟))
((جوهر حياتك أنت،أمّا جوهر حياتي أن تتواصل محاولاتي من غير توقف))
((لم تحكِ لي عن واحدة منها))
((لا أستطيع!))
((عجز!))
((بل محاولة في الحفاظ على محاولاتي))
((لا أملك غاية،ليس لدي رغبة فضولية،أمامنا طريق مجهولة،وحدها الذكريات تسعفنا وتمدنا بزاد هذا المسير))
((يمكننا أن نلفق بعض الحكايات))
((لا يمكن أن نحكي ما لم نمتلك حجر أساس،نمتلك مخاضات عسيرة أو سهلة،لابد من تجارب سابقة أو على أقل تقدير مشاهدات أو سماع حكايات))
((أظنك قارئ حكايات))
((ولدي رغبة أن أكون مبتكرها))
((قل ناقلها))
((كل الاحتمالات واردة،فمن يفشل في ابتكار حكاياته لابد أن يسلك طرق أخرى،كأن يكون ناقلها،أو سارقها،أو مستنسخها،أو..أو..ملفقها))
((تحتاج لثورة معلومات وشجاعة نادرة،ما لم تغامر،ليس بوسعك أن تأتي بشيء لافت وملهم ومقنع))
((يبدو لي أن لديك خبرة في هذا الجانب))
((كنت أسرق الشعر أحياناً))
((كلنا نسرق في البدء قبل أن نكتشف أسواق كلماتنا الحرة))
((الظرف يجبر المرء على سلوك دروب ليس بمحض اختياره))
((ما يشغلني هو تدوين واقع حالنا))
((الواقعية لا تليق بحياتنا))
((يمكننا أن نوظف الواقع وفق أشكال حداثية تماشي مزاج الناس))
صمت.
مشينا مسافة،أقدامنا تضرب أقدامنا،تضرب الأرض،يحز السلاح ظهورنا،أنفاسنا تصوّت تعبنا.
اعترضنا جدول صغير،برك،وضع سلاحه وحقيبته وبدأ يغرف الماء بكفيه،صوت مضمضته بدا كرشق رصاص مخنوق،قذف الماء المالح من فمه بإتجاه الوميض المتلامع من جهة الشرق..قال:
((أطفئي يا مضمضاتي هذه النيران؟!))
شاركته اللعبة،مضمضت وقذفت مضمضاتي حيث رمى مضمضاته..قلت:
((أطفئيها يا مضمضات))
غسلنا وجهينا وغرفنا غرفتين أو أكثر ورمينها من غير سبب إلى الفضاء،هبطت قطرات على رؤوسنا كما المطر الخفيف،نهض ومشا،تبعته.
((يمكنك أن تحكي عن هذه الحرب اللعينة))
((ما قرأته من حكايات حربية،يشعرني أنني لن أستطيع أن أضيف شيئاً لكل ذلك الركام المتراكم في ذاكرة الحكايات))
((لكل حرب حكايتها،حربنا محض حكاية كبيرة))
((مذ بدأت دوّنت الكثير من التفاصيل في دفاتر،أسوة بكتّاب كبار كانوا يدونون الملاحظات والوقائع اليومية بغية كتابتها فيما بعد))
((ستجدها ذات يوم تفاصيل وقائع هامدة،محض كلمات خامدة))
((لكنها تنهض ذكرياتنا على أقل تقدير))
((هذا وهم،ذات يوم ستتذكر كلامي،فالحياة تنفجر،وأشياء جديدة ستهيمن على الزمن،فالذي يمضي لا يشكل لك بستاناً ناضج الثمار تقطف منها ما ترغب أو تشتهي من ثمار،أعني حكايات))
لم أجد كلاماً.
بدأت أصغي لصوت شهيقه وزفيره،شعرت أنه تعب..باغتني:
((لم أشعر بـ الحب أبداً!))
***
[جملة طارئة تستوجب التوقف ومراجعة تراكمات التفاصيل المسرودة من قبل(وداد)ومن خلال الدفتر الصغير،من حكى بصدق؟أنه ينسف كيانه بجملة،قد تكون عابرة،قالها من غير شعور،وربما أراد أن يراوغ بكلامه،لا أقول أنه كذّب عليّ،كوننا ما زلنا داخل مستنقعٍ المجهول،ونعيش مخاضاً عصياً،فوحدتنا العسكرية،ما تزال نقطة ظلام مفقودة في الظلام الشامل،ولا نملك سوى الليل كي نصل إلى وحدتنا بعدما تناثر خبر الهجوم الموسمي الكبير،وما رافقته من تصاريح مفبركة صاغتها مؤسسات فلسفية لنشر الفزع بين الجنود وإشغال الناس بالهلع العام.
صاحبي أكد كلامه السابق((حسناً أنا لم أحب!))،بجملة لاحقة( لم أشعر بالحب أبداً)،هذه المرة كلامه يوحي أنه عاش تجارب عاطفية قد تكون عابرة،أو كان لا يملك قلباً يفهم القضايا المصيرية للإنسان،فهو كما مدوّن لدي،في دفتري الصغير،وفي ذاكرتي أو ذاكرة(وداد)،خاض تجارب عاطفية مزلزلة،بل كان مدمناً،شجاعاً،ثمت قضية بدأت أشمها،لابد أنه لسبب ما يحاول أن يراوغ أو يكذب،ولو كنت غريباً عنه،ولن ننتمي لبلدة واحدة،لربما دلق لي كل ما عنده من أسرار،حقاً على المرء أن يكون حساساً،ولا يهدر أسراره في جلسة طارئة،أو رحلة عابرة مع زميل يشاركه العيش زمناً ومكاناً]
***
((عندما نفقد الحبيبة تتولد لدينا هذه المعضلة))
((ليس فقدان أول الشرارات العاطفية ينتج هذا الهم))
((ألم تحاول دفن الحزن بمحاولة لاحقة؟))
((ربما العلاقة القلبية ما بينك وبين القطب الآخر،ومهما كانت التناغمات والتفاعلات وحرقة المشاعر، لا توفر جوهر الحب الذي يشبع مزاجك))
((نحن نفهم الحب على أنها علاقة عاطفية ما بيننا وبين الإناث))
((كل الكائنات عاشت هذا الجحيم،لكن كم حكاية بقت خالدة حتى يومنا هذا؟))
((ربما العلاقات المدججة بالتلفيق والتهويل هي التي تأسطرت))
((تأسطرت لأنها حفلت بـ النبع الصافي للحب))
((لو نمتلك مدوّنوا حكايات لربما أعطينا التأريخ كماً هائلاً من هذه الخرافات))
((ما لم نتحرر من ثوب الماضي،من سلطة الخوف،من هذرنة تكفير العلاقات الاجتماعية،لن نفلح في إنتاج بشرية مستخلصة من فواصل العنف والتمرد والكسل،الحب بضاعة خالدة،كونية،لا يمكن المتاجرة بها ولا المقامرة،عندما نتحرر من الخوانق،يمكننا ردم الكواليس،عندها يمكننا أن نفهم هذا الذي نكنه الـ حب))
صمت.
قبيل الفجر توقفنا قليلاً،جلسنا،سحب من حقيبته كيساً وأخرج حفنة(فستق)تناولت منه نصف الحفنة،بدأنا (نكرز)..قال:
((هذا أنفع شيء لجعل الذاكرة متيقظة،أنه يمنع من تسرب النعاس إلى العينين))
((ما قلته صحيح،جربت هذا أيّام الدراسة وتحديداً ليالي الامتحانات))
((جربته وفشلت في النجاح))
((لم أكن أقرأ،كنت مهوساً بالشعر،كان يهيج ذاكرتي ويشطحني بعيداً عن الدروس))
((لو جربته..يمكنه أن يبقيك متحمساً ليالي الحب أيضاً))
((أشك أنك تراوغ معي))
((لسنا في معمعة تجارة كي أتحايل عليك))
((أجزم أنك مررت بتجارب عاطفية،ولديك خزيناً من الذكريات الممتعة))
((ربما وقائع روتينية برقت صدفة وذابت كما تختفي قطرات المطر في الصحاري اليابسة))
((يقولون أن الحب ليس واقعة عابرة أو روتينية،بل مطهر حيوي لتصهير وتخليص الإنسان من قسوة العيش ووعورة الحياة ويمده باليقين والأمل كي يكون ثورياً دائماً))
((حسناً..كيف تجزم أنني عشت تجارب في الحب؟))
((شكلك الوسيم،ووظيفتك كونك تربوياً،وعملت في التنظيمات الطلابية وكنت سبّاقاً في المسيرات الشعبية والندوات،كنت دائماً محاطاً بجملة رفيقات،أشك أنهن لم يكنّ معجبات))
((عندما تكون ملجوماً بقدسية الانتماء،عندما تكون رأس الرمح عليك أن توظف قدراتك البدنية والذهنية كي تكون متأهباً لكل عائق أو هدف،ليس من الفضائل أن تهمل مكانتك وتهبط إلى درك الحياة السافلة، صحيح أنّ البعض من الرفيقات كنّ وما زلن مشاريع إثم حاضرة،لكن الحب لم يولد وظلّ من مقبلات حياتنا لا طعامها الرئيس))
قمنا ومشينأ..
مع هيمنة قرص الشمس دخلنا وحدتنا،وجدنا الجنود مستنفرين بانتظار الأوامر الصادرة للتحرك،رغم العناء والنعاس كان يجب أن نهيأ نفسينا لما هو قادم.



















الساعة الواحدة من بعد الظهر.
بدأت الدبابات تتحرك بنا،ثار غبار حجب الرؤية،داخل الكتل الحديدية،كنّا نرتج ونخوض صراعاً نفسياً مريراً مع المجهول.
مع دخول الوقت لحظة الغروب،توقفت الدبابات وترجلنا لنعرف موقعنا ومصيرنا،حتى الضبّاط لم يعوا شيئاً،ظلوا حائرين،يتناقشون كلامهم الفارغ،لم تتفق الآراء،كل لسان عبّر عن محدودية الرأس الحائر،قدر ثقافته،توقفت الثرثرات،بعدما تعذرت الأوامر أن تصل،توزعت الدبابات خلف ساتر ترابي،وتم توزيع المشاة الآلي لحراستنا،كانت الرمال توشح الفضاء وتخنق أنفاسنا،طعامنا معلبات مرزومة في صناديق خشبية، معلبات وزعت علينا،على عجلٍ،تحسباً للطوارئ،تحسباً لتعذر وصول الأرزاق الطرية.
مع الظلام الأوّل.
تناثرت أصوات طلقات،بقينا خاشعين للصمت في انتظار الخبر،قبل أن يثار لغط توسع،خرجت ووجدت جندياً مقتولاً،لقد قتله صاحبه بدافع القلق أو سقط في فلك الشك،لقد ظنًّ الجندي القاتل أن الشبح البارز من بين العتمة ووشاح الغبار لابد أنه جندي(إيراني)متسلل،فقد حكمته ولم يجد سوى سلاحه،زرع فيه بضع أطلاقات أنهت حياته،كان يجب سجن الجندي القاتل أو المتوهم وتحويله إلى مجلس عسكري،لمعرفة دوافع القتل،لكن ضابط شاب بدا أكثر عقلانياً،وضع حداّ للأفواه المثرثرة،أعاد الهدوء إلى النفوس وأعتبر ذلك(قضاء وقدر)،وأعطى أوامره بضرورة التأني وعدم التسرع في هكذا حالات.
في الحرب تتداخل الموازين ويتعذر على العقل تمييز الأشياء،عاد الجندي القاتل إلى حراسته بتصميم وعزيمة كما بدأهما،لكنه خرق تعهداته مرة أخرى وقتل أثنين آخرين،وقبل أن يثار اللغط..صاح:
((لم أعد أرى سوى العدو!))
تدخل الضابط:
((ويحك ستنهينا قبل بدء المعركة))
((سيدي قل للجنود أن لا يبتعدوا من حول الدبابات))
((ويحك يا غبي،لدينا دوريات خافرة والبعض يبتعد لقضاء حاجته))
((لم لا توزع علينا كلمة السر سيدي؟))
((أنت على حق،كيف نسينا هذا الأمر!))
منتصف الليل تصاعدت أصوات أطلاقات أخر،كان الجندي القاتل مرتبكاً،وكانت جثة الضابط مسجاة،لم يجد أحدنا دافعاً في الكلام،بدأت الشكوك تحوم حول عقلية الجندي،بعضنا أجزم أنه مجنون،وربما فقد رشده عندما لبس جلد الحرب،فالحرب أجبرت الحكومة على تجنيد الكل،من غير استثناءات كانت فاعلة إلى وقت قريب،ولسد الفراغات المتوقعة،فكرت في استدعاء المواليد قبل بلوغهم سن الجندية،لم يكن هناك وقتاً يكفي لتهيئتهم وإعدادهم نفسياً وبدنياً وأنضاج عقولهم كي يكبروا ويكونوا جنوداً يعرفون واجباتهم الفردية والوطنية،كيف يقاتلون،كيف يقتلون وكيف يحتجبون عن الموت،تم إخضاعهم إلى فترة تدريبية موجزة،لا تعدو سوى تعليمهم(التفكيك عكس التركيب)،و(ضع الفرضة على الشعيرة)،علموهم فك وربط أجزاء البندقية،كيفية إدامتها،مع خوض تجربة رمي حقيقي لأهداف خشبية،قبل أن يتم تكديسهم في حوضيات،ونثرهم على الوحدات العسكرية الباركة على الحدود،سداً للنقوصات اليومية.
مع الفجر تم اعتقال الجندي القاتل،وبعد أسبوع وصل خبر إعدامه رمياً بالرصاص بعدما أنتزع منه سر جريمته،كان يرتبط بـ(حزب الدعوة)،يمتلك مخططاً معقداً لقتل أكبر عدد من الجنود بسريّة تامة،وإمكانية إرسال أخبارنا إلى(الإيرانيين)عبر جهاز اللاسلكي.
***
وقع الهجوم.
كان صاحبي ضمن السرية الأولى،كنت أنا ضمن السرية الثانية،جاءتنا الأوامر أن نتحرك نحو الساتر الأمامي لصد أكداس بشرية تخترق حقول الألغام،نقلوا الخبر بشكل مهول،قتل في الجنود بقايا شوارد الشجاعة،ليس من اليسر أن تزج في صلب معركة من غير أن تستكشف الأرض التي تدافع عنها، فجغرافية الجبهة ستبقى أبداً يوتوبيا بالنسبة لجيش البلاد،تلك القّوة المتوغلة،تمكنت من سحق حجاباتنا، وصلت طلائعها إلى أمتار قليلة من الساتر الرئيس،علينا التحرك سريعاً،والوصول بأقصى سرعة ممكنة قبل أن يهيمنوا على الساتر،فتضيع منا فرص النصر المؤزر،ونكون لقم سائغة لقاذفاتهم ورشاشاتهم.
وصلنا الساتر.
لم نستطع فعل شيء،كانت القذائق الماطرة هي من مدافعنا الثقيلة،كانت تغربل الأرض وتنهض أكوام ترابية وتمطرها،فاستحال الفضاء إلى قيامة خانقة،كانت تلك بسبب نقل أخبار مستعجلة،من غير تريث تم إبراق خبر سقوط الساتر بيد العدو،وكان الخيار العسكري الدائم،عجن الجميع مهما كانت النتائج،احترقت دبابات وتمزقت أشلاء الجنود،وقبيل الظهر بقليل توقفت اللعنة الوطنية،وتنفسنا الصعداء،تمكنا من الخروج بعدما وجدنا كل شيء خراب،نيران وقذائف تنفلق،أشلاء الدبابات المحترقة تتناثر،رائحة اللحم البشري المحروق تميت الروح،وتثير الفزع والتقزز،كان الساتر مغربلاً وفيها حفر كثيرة،كبيرة وصغيرة.
تمكنت المفرزة الطبية من تجميع أعضاء الجنود المتناثرة،وإخماد بقايا النيران،لم نجد جنود العدو،تحركت ألسنتنا،((أين هم؟))،لابد أنهم يمتلكون قدرات ميدانية فوق مستوى الخيال،بحيث يخترقون كالسراب،وهناك مفارز متجحفلة تعالج الأخطاء،وتنتشل الخسائر فوراً،آراء ولدتها الحالة الآنيّة الماثلة أمام أعيننا.
العسكرية حاضنة الخيانة.
مهما كانت قوّة العدو وقدراته العسكرية،لابد من زج أو كسب فئات خادمة تهدم بنيان الطرف الآخر،تبقى الغايات النفسية لبعض ضعفاء النفوس متواجدة،دائماً تحت خيمة الحرب تجد لنفسها المناخات الملائمة،مثل الداء الخبيث يعمل لتفكيك القدرات الجسدية عند لحظات الوهن أو فقدان الدفاعات الفيتامينية المضادة،تلك النفوس المرتدة،تفتك بـ البنيان الوطني كي يجد العدو الثغرات المأمولة لتحقيق منجزاته الحربية المأمولة،إذ لم يحصل أن خان أجنبي وطنه وتجسس لصالحنا،دائماً يلهج التاريخ بـ أسماء خائنين منّا لصالح الأجنبي.
جاء الخبر من إذاعة العدو،ففي كل مساء نسمع لقاءات مفبركة مع الأسرى،أحد رجال الحجابات،أعلن أنه أقام بعمله بأكمل وجه،بعدما خدع القيادة الميدانية بأخبار كاذبة،لم يقم العدو بهجومه،وليس هناك من عبر الحجابات،أفلح في جعل الجيش في نفير طيلة ليلة كاملة ونصف نهار،خسر فيها دبابات وطواقم جنود كاملة وآلاف القذائف وتخريب دفاعاته بيديه.
هدأت الأمور.
عدنا لبضع كيلو مترات إلى الخلف،كي يعاد تنظيمنا،وتعويض الخسائر وإعادة البناء النفسي لنا عبر محاضرات ضابط التوجيه السياسي.
وجدت فرصة اللقاء بـ صاحبي،كان مثقلاً بالهم،مكتئباً،يميل إلى العزلة،دنوت منه،لم أفلح من إحداث تغيير في طبيعته،لم أرصد فيه نفوراً،تبادلنا بعض الكلام،وجلسنا في ظل دبابة معطلة..قلت:
((كدنا نروح فيها))
((سنروح لا تستعجل،بعضنا راح والبقية سـ يروح عن قريب))
((لم كل هذا الشؤم؟))
((ما دامت الخيانة سارية المفعول،هناك من سيبيعنا))
((قد تكون أكاذيب العدو،أنت تعرف أن الحرب خدعة،وكل البيانات الصادرة مجرد قذف قذائف الروع في نفوس الند،بغية تضعيفه نفسياً وتفكيكه مجتمعياً))
((عندما تنظر إلى حجم الخسائر،والتكتيك المتبع،لا يمكن للشك أن يتواجد على مائدة الحوار))
((ضابط التوجيه السياسي شرح هذا،وأكد أن الغاية منها دفع السلطة لشنق المزيد من الضبّاط وتخوينهم،لكن اللعبة باتت قديمة وبالية ولم تعد تشكل سوى دعايات حربية فاشلة))
صمت.
تعالى نداء توزيع وجبة الغداء،قمنا وقررنا أن نتغدى معاً،تناولنا حصتنا وبعد الغداء عدنا إلى ظل الدبابة..قال:
((أرجو أن ننجو من هذه الحرب))
((أن ما يفرحني هو أننا لسنا جنود مشاة،ستنتهي الحرب سريعاً،الكل يقر بهذا،الحرب لم تعد تنفع العالم،حتى الكبار باتوا يخشون منها،كونها سرطان،الحرب نار تمتد وتأكل الأخضر واليابس،الحرب ما عادت لغة الطامعين وأصحاب القرارات،حتماً ستتدخل دول الأطراف وتضع حداً لها ونعود إلى بيوتنا))
((أرجو هذا سريعاً،بدأت أمقت الحياة،بدأت أشعر بوهن،بدأت أكره هذه البلاد))
((ويحك،لست من يقول هذا الكلام،لا تنسى مركزك السياسي))
((مركزي سبب تمردي،السياسة كذب،أقول هذا بصراحة،بدأت أخرج من البلادة وسياسة ـ نفذ ثم أكل الخراء ـ منذ سنوات ونأكل الخراء والسلطة تدفعنا نحو مستنقعات الوهم،ما الذي تريده منا؟إلى متى نظل حمير مطيعة؟ها نحن ننقل أحمالنا على ظهورنا من غير فواصل راحة))
((أنت متعب كثيراً رفيق ـ حبيب ـ أعتقد انَّ توقف الإجازات سبب فيك هذا الشعور المحبط))
((صدقني،ليس هذا ما ينهض تمردي،بل كنت كائناً مخدوعاً،دائماً يقذف بي في المحارق،كونني مناضل متميز ومندفع ـ غشيم ـ ))
((تلك هي معضلتنا،هناك من يتعب وهناك من يجني الثمار،صدق من قال هذا ـ أبو جزمة يكد وأبو كلاش يأكل ـ ))
صمت.
((نعم..ما تقوله صحيح..كنّا ـ جزم ـ وحكومتنا ـ كلاشات ـ !!))
صمت.
وددت أن أدير دفة الكلام،خشية أن يجن ويقذف نيرانه ويورطني معه في خانة المناوئين وأشنق مثل كلب أجرب ضال،ولكن فكرة جديدة طرأت في ذهني،ربما كانت معقولة ومجانبة للصدق،فما هو مشاع أن الكثير من الرفاق يمتلكون الحصانة في قذف السلطة بما يحلو لهم من توصيفات،كونها مصائد لإيقاع الفرائس الغشيمة في شراك اللا انتماء،ليس هذا ببعيد ولا بغريب،كثيرون مروا بهذا الموقف،اندفعت نفوسهم وتحررت ألسنتهم وقذفوا السلطة والحزب بقميء الكلام،وبعد أيّام اختفوا من الوجود،وجدت الاحتراس واجب،فالرفاق سرطانات الحزب،لم ينالوا درجة الـ رفاقية من أجل سواد عيونهم،بل بسبب تكديس تقاريرهم الهدامة في أضابيرهم الشخصية،وتسويق الغافلين إلى متاهات السجون والمقابر.
قلت:
((أفضل وسيلة لقتل الوحشة هو الحديث عن الحب))
رمقني بنظرة،حرك رأسه..قال:
((ما زلت تحاول،كدنا أن نمزق شر ممزق في العراء))
((لا أكتمك القول،أنا الآن أعيش تجربة حب جديدة،لا أعني مررت بتجارب سابقة،بل حب صادق،إذا ما تخلصنا من هذه الحرب وانتهت فترة عسكريتنا بسلام سنتزوج))
((أتمنى لك حياة حافلة بالسعادة))
((وأنت))
((هناك شيء..!))
توقف عن الكلام،أدار بوجهه عنّي،خلته سقط في بركة الخجل،لكنه أعاد وجهه،لمحت في عمق عينيه حبتي دموع.
((بدأت أثير أحزانك،أنا آسف لما بدر مني))
((لا..لا..لا تقل هذا،أنني أحببت واحدة فقط))
صمت.
***
[بدأت الحكاية،زغرد لساني،نحيت الأوراق جانباً،ظلّ صدى كلامه يتردد في ذهني،فما قاله سابقاً ربما كان كلاماً غير مسئول،كلام عابر،عليّ أن أبدأ من هذه الجملة،صاحبي مر بتجربة حب،يمكنني أن أحرر قلمي كي يرص الكثير من الحكايات الجانبية،فالحب بين الذكور والإناث هو واحد،نسخة مكررة،كل الألسنة تلهج بأغاني ثابتة،الكل يكذب ويتوسل ويخضع لاستمالة القطب الآخر،نفس اللقاءات ونفس القبل،يا ترى هل حقاً مر بتجربة حب واحدة؟،فما حكته لي(وداد)،فوق مستوى الخيال،ربما فوق درجات الخبال،ماذا أسمي تجاربه؟،هل كانت عواطف جارفة خرجت من فلك الحب؟هل ما قاله كان يعني به(............)،بدأ الفضول يمتد ويجبرني أن أتابعه كي تتوازن ثيمات حكايتي]
***
لم يدعنِ أن أتكلم،أغمض عينيه وفتحهما،على ما يبدو أنه أسترجع ذكرياته،ولم يجد بد من التخلص منها..قال:
((تمردت ورضخت،تعالت وهبطت،مشت وتوقفت،بكت وضحكت،نامت واستيقظت،رحلت وعادت،قست ولانت،جرحت وتعافت،مد وجزر،سكر وملح،حلو ومر،ربيع وصيف،ليل ونهار،كانت منقسمة على كل تناقضات الوجود،كانت ـ قلب ـ وكنت ـ قلب ـ ))
((قذفتني في غابة شائكة،أخرجني من هذه المتاهة؟))
((هي من أحببت،لكنني لم أكن ذلك الذي أحبت))
((ألم تكن لك محاولات أخر؟))
((الحب مرة!))
((قد نفشل في الأولى،هل من المعقول أن نتوارى من الحياة؟))
((لم تفهم كلامي))
((أنا أحببت واحدة لم تستمر علاقتنا سوى أشهر قبل أن تتزوج قسراً))
((لا تسمي ذلك الحب الأوّل،أنه إعجاب مؤقت))
((لكننا تناصفنا الوعد أن نستمر وأن نكون معاً))
((تلك هي أوهامنا،لساننا ينفلت من غير الإصغاء لصوت العقل،تلك هي أوهام المراهقة يا صاحبي))
((هل توقفت عندها؟))
((كلا..حياتي توقفت عندي))
صمت.
لم أجد سبيلاً لفك غموض كلامه،كان يتهرب من كلامي بمراوغة أو بتشكيل تعابير ملغزة.
انتهت جلستنا.
مضى إلى سريّته،وعدت إلى سريتي،كأن لم يكن هناك شيئاً،ولا رغبة تحدوني أن أطارده لأنتزع منه سراً أو معرفة فتاته التي أأمل أنها ليست(.........).
***
((هجوم)).
راحت ألسنة الجنود تردد الكلمة،بدأت الأجساد تفقد توازنها،الكل يبحث عن سلاحه ومتاعه.
كان الوقت ما بعد الغروب،وقريبة بدقائق قليلة من وقت العشاء،عندما وجدنا أنفسنا في هذيان وفقدان وعي،تلك حالة شائعة في كل جبهات القتال،عند المهمات المباغتة يبدأ المرء بتفقد أشيائه،هي متواجدة أمامه أو بين يديه،لكنه يبحث عنها،وعيه مسلوب وفكره مصادر،وقلبه فاقد توازنه،في الحرب يفقد البصر وظيفته،يفقد المرء بصيرته،ويخضع جسده بكامل إرادته لـ شيطان الفزع.
قبيل منتصف الليل.
بعدما فقدنا نصف إرادتنا وكامل شجاعتنا،تحركنا نشق رفوف الظلام،باتجاه نشرات ومضية تتناثر داخل أفق شاحب،وقنابر تنوير تسبح قبل أن تأفل،داخل كتل حديدية مزمجرة،نجلس لا نعرف شيئاً سوى أننا أحياء داخل قبور متحركة،لا شيء نملك سوى أسناناً والتي بدأت تطحن كل شيء يمكن أن يسكت عصافير بطوننا التي ظلّت تزقزق من هاجس الخوف لا من دافع الجوع،كانت الدبابات تتوقف وتنطلق، هي الأوامر التي تتشتت وتتفكك أوان المحن،بسبب خوف الضبّاط على حيواتهم الغالية،كونهم رؤوس الرماح المنطلقة،يمكن للجندي أن يجد مخبئاً أو شقاً منفلتاً كي يتوارى من المجابهة،لكن الضابط قائد،شجاعته واقتحامه غابات المنايا يؤمن زخماً شرساً من قبل جنوده،تلكؤه خيانة وطنية عقابه الرمي بالرصاص،سبب آخر يتوالد مع بداية كل هجوم،تتشابك النداءات اللاسلكية،المعادية والوطنية،كأنها تشارك المعسكرين رغبة سحق الآخر،هذا الأمر المقلق يجبر القيادة بقطع الاتصالات الميدانية،بغية تغيير التشفيرات أو الرموز المتفق عليها،قد يستغرق هذا وقتاً طويلاً،كون البدائل كلها تعدو مسروقة أو لا تؤمن اتصالات سليمة،مع تواجد أنفار التجسس في كل تجمع عسكري،تتخبط حركة الأرتال وتتقاطع الأوامر وتغدو الوحدات الحربية مثل تماسيح جائعة داخل مستنقع مسيج بأسلاك كهربائية،يمضي الوقت مهدوراً، والعدو يسلك طريقه من غير عراقيل دفاعية،أو وحدات شاغلة تمنعه حتى مجيء النهار،كي يتم معالجة الهجوم بوسائل جوّية أو برّية،وعند التعذر يتم اللجوء إلى الخيارات الأخيرة،اللجوء إلى المحرمات الدولية،تلك المبيدات الشاملة،والتي تمتص من خلالها الحكومات الراديكالية،خيرات البلدان المتعسكرة،وفيما بعد ترفعها رايات إدانة ضدها،كلما شعرت أن موازين القوى بحاجة إلى تبديل أقنعة وسياسات.
بدأت أشعر برجات عنيفة،عرفنا أن القذائف بدأت تتساقط من حولنا،استلمنا أوامر الرمي،لكن ليس بوسع جندي أو أي ضابط أن يطلب إيضاحاً أو تفسيراً لسؤال شبه غامض،أين نرمي ومن؟،بدأت المدافع تزلزل والرشاشات تلعلع،كان الهاجس هو تدمير الخوف وتفكيك الليل وزخ الروع في جانب العدو،أين تسقط قذائفنا تلك مسألة لم تعد شاغلة البال،المهم يستمر الرمي حتى منبلج الفجر،كون و(حدات الحرس الجمهوري)و(اللواء المدرع العاشر)في أتم الاستعداد لإنهاء المعركة وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
فجر الحرب بعيد.
الخوف يتخثر،لم تعد الحياة ذات قيمة بعدما يتعب الجسد،الكل يطلب الموت،لا أحد يستطيع العيش في هذا الفساد البشري المتواصل،حتى الكلاب تتجنب بعضها البعض عندما تلعب الصدف في جمعها حول مزبلة أو مكان جثة نافقة،معاركها مجرد نباح عقيم،لكن البشر ينبح عالياً عبر وسائل الأعلام والصحف،كل جهة تبرز قوتها ودرجة إرادتها وإمكانيات النصر متاحة،النباح الإعلامي لن ينفع في جعل الكثير من الحروب تخمد،بل تتشابك الجيوش في رقصة غبية،في هيجان الحيوانات المذعورة أمام الكواسر الصائلة،جيش يضرب جيش بكل وحشية،بكل الأسلحة الفتاكة،بالمبيدات المحرمة،أيام وأشهر وسنوات،يفقد كل جهة أنفس عزيزة ومال مهدور وتراجع حضاري مهين،وبعد سنوات من الحرب الطاحنة،تجلس الأطراف،بعدما أزاحت عقولها الحيوانية واستبدلتها بعقول بشرية،تتناقش وتتنازل من أجل طي صفحة ماضِ دموي وفتح صفحة بيضاء لتعايش سلمي طويل الأجل،من قتل نسي،ومن تعوق لا يملك حق النباح،وكل تلك الاتفاقات سرعان ما تشرخ الجانبين،وتجرهما لطاولات مستديرة ومستطيلة ومربعة،كل طرف يطلب تعويضات عن خسائر أزمنة الغباء،دائماً وابداً أوطاننا هي الجهات المتهمة والبادية بالظلم،هي الجهة الدافعة للغريم.
مع بزوغ الفجر.
الجبهة خالدة لثقل محير،لا شيء يلوح،أين العدو؟دباباتنا متناعسة،الجنود متهالكون من ثقل النعاس،انهيار تام في العروق،العيون تنقفل وتنفتح بتعذر،لا رغبة لطحن الطعام،انتظرنا ما هو قادم،ليس هناك اتصال،تراخينا تحت دباباتنا،نتكلم بالعيون،بعد ثلاث ساعات من شروق الشمس وصلت مدرعة،وزّعت علينا الفطور،بيض مسلوق وشاي بارد وصمّون بائت،كان يجب أن نلوك الطعام،فالحرب غير أمينة،والعدو يمتلك المكر وكل وسائل الخديعة،مستمداً قوته من تواجد جواسيس يتواجدون في مراكز حسّاسة،ضمن أجهزة المخابرات السرية والإستخبارات العلنية.
قبل الظهر جاءت الأوامر.
علينا أن نتحرك نحو الحجابات،على ما يبدو أن العدو أخترق الحجابات بقوة صغيرة تمكنت من التوغل والتمركز مابينها وبين الساتر الرئيس،استولت على كل الأسلحة المتواجدة فيه بعدما هرب الجنود بسبب انقطاع الاتصالات وجرح آمر الفوج،مع اقترابنا شم العدو تحركنا وبدأ يرسل سيل قذائف،كانت تسقط من حولنا،واحدة منها زلزلت دبابتنا،عرفنا أن السرفة أصابها العطل،أبقونا من غير تحرك،توقفت المدافع الثقيلة،كان الغبار الجحيمي يغلف الفضاء،وعند الأصيل سمعنا نداء عبر جهاز اللاسلكي،تم إرسال مفرزة إلينا،تعذر معالجة العطل،سحبونا إلى الساتر،وجدنا دبابتين محترقتين،والساتر مغربل وأشياء كثيرة محترقة ومبعثرة،ومع الغروب انتهت ثرثرة الهجوم الموسمي،جلسنا في شق الساتر بعدما وجدنا الأوامر قاسية والبقاء داخل الدبابات أشبه الوقوف عرايا في شوارع مكتظة بالعابرين،كثر الحديث وطال وعرفنا أن طاقمين من جنودنا من ضمنهم آمر الرعيل احترقوا بقذيفتي(RBG7)،لم يدعنا التعب أن نسترد بعض مشاعرنا ونمنحهم بعض الحزن،بعضنا نام متمدداً على التراب،والبعض وجد فرصة مسامرة لإخماد ضجيج الواقعة،قمت وتوجهت ببطء إلى خلف الساتر،حاملاً إبريق ماء بعدما شعرت بالتواء في بطني،كان ذلك بسبب كثرة لوكي الصمون اليابس والبائت،مشيت خطوات قبل أن يتحرك شيء من أسفل قدمي،انفلق وقذفني إلى الهواء،هرع نحوي الجنود،سحبوني ولفوا قدمي المبتورة بقميص ممزق،كان لغماً أرضياً مزروعاً،علمت فيما بعد أن العدو زرع تلك الألغام بعدما استولوا على الساتر،كوسيلة دفاعية مبسطة تعرقل صولة جنود مشاتنا قبل وصول تعزيزاتهم.
لغمٌ صغيرٌ ـ على ما يبدو ـ أنتظرني ساعات قبل أن يأخذ مني هويتي البشرية.
***





















عتبة الحكاية

بدأت الحكاية تلح.
أقضت مضجعي،جرتني إلى ساعات تأمل ومحاورة الذات،والضياع الذهني خلف قوالب فنيّة تغريني وتسحلني قبل أن تتركني في عماء،أتقهقر لأخضع لسلطان قالب فني آخر يعلن جاهزيته لشراء أو دفن جثة بضاعتي،مشلولاً أو مهوساً أتبعه رغم يقيني أن اللعبة شائعة،لكنها نافعة،كونها تفتح أمامي آفاق مترامية وتدفع في نهاية النفق الحكاية نحو ضفة الخلاص.
ما دونته في الدفتر الصغير ـ بانياً مجد حكايتي على كلام(وداد)أيام خطوبتنا ـ بدأت تتشظى عن أبعاد أخر،تمنح دافع الكتابة،تؤجج تفاصيل يمكن دسها ومن غير أن تحرف الثيمة الأساس،أو إخراج النص من حقيقتها،فكل حكاية لا تنفعها صدقها ما لم تدس فيها حفنة أكاذيب كونها الجوانب الحافلة بالإثارة،تنسجم كمية الكذب مع كمية الكذب المتواجدة في دخيلة كل إنسان،نهضت روح المغامرة،دفعتني أن أركب سفينة الموت،إن جاز التعبير،أن كتابة رواية تتطلب موت كاتبها واقعياً والانتقال للعيش في عالمه الافتراضي إلى أجل غير معلن،يعود لحياته السابقة،ما أن يتخلص من أعبائها.
بعدما تعطلت ملكة الحكي.
أضعت بعض أيامي بحثاً عن حكاية جديدة،دخول(وداد)على الخط،وتذكيري بتفاصيل حيوية من حياتها، وجدت إعادة تشريح الحكاية من قبلها لابد أن تؤجج تفاصيل منسية،هذا الإحساس نتج من ومضة خاطفة،فالحكاية المسموعة غالباً ما تلبس ثوباً إغرائياً لنثر عطر الدهشة،الحكاية المكتوبة،لوحة مرئية تستقطب العيون وتحرك المشاعر،عندها تتشكل أسئلة الغرور،عندما استحضرت تلك الجلسات معها،وأنا أزيح مخاط السنوات توامضت بروق خفية،عرفت أن الخجل منع(وداد)من قول كل الأشياء التي بانت من خلال عينيها،كان يجب أن نعيد حواراتنا القديمة،سلطة الحكاية ركبت عقلي،لابد من شرارة كي تشتعل الأجواء وتظهر ملامح الجواهر المخبأة،لم تمانع،كانت متحمسة،أعادت لي تفاصل كثيرة عن(صاحبي التعيس)،كما رغبت أن تسميه،كانت ترد على كل سؤال محرج بثقة وشجاعة،ولم تخفِ عني مشهد ليلة كانت في غرفة الماء عندما شعرت أنها صارت بين أحضان خشنة،تداركت نفسها وتحررت بعدما وجهت صفعة إلى الظلام،شاءت الصدفة أن تكون صفعة موفقة،لم يكن ظلاماً،بل كان وجهاً متحمساً،أمتص الصفعة ونقل الصمت لحظتها كامل الصوت وبكل وضوح إلى حندس الليل.
***
((صاحبي لم يكن تعيساً كما تروين))
((تعاسته..كان لا يحتمل إرادته))
((الذي أعرفه كان فتى مندفعاً لخدمة الحزب))
((في تلك الأيام تحول إلى وحش غير مفترس،وحش فقد شجاعته وراح يتوسل إلى ضحاياه أن تغدوا قرابين أمامه))
((رغم قصر فترة تعارفنا،وجدته مكتئباً،لم أتمكن من الوصول إلى أيّة معلومة تدلني على أسراره))
((من يراه يتوهم أنه هادئ الطباع،ودود،خضوع،ربما وسائل مكيدة،أو فطنة مفترس عتيد))
((تحدث مرة وتردد مرة حول قصة حب،ربما كان حباً مؤثراً جعله منطوياً بقية حياته))
((ربما أراد أن يخفي عنك جملة حقائق،كون زميلاتي معروفات وسقطن في حبائله))
(( لولا إصابتي وبتر قدمي لربما كانت لدي الآن حكاية مسرودة بلسانين))
((يمكنك أن تستند على أقوالي ويمكنك أن تضيف ألاعيبك وحيلك وتختلق أكاذيب تدفع الحكاية))
((لا أستطيع أن أضع الحلول لأسئلة لم تثر،أن ما أفكر به،هو الوصول إلى قصدية الحكاية،ليس من المستحسن أن نحكي حكايات من غير دوافع،لم تعد حكايات التسلية تحظى باهتمام الناس،صارت الحكاية جزء حيوي من حياة البشر،صارت الحكاية سياسة مطلوبة لشرائح بشرية لا تفهم السياسة،صارت تأريخاً ناطقاً بخفايا الأمور،وعدسات تقتنص ممنوعات الظواهر،صارت دواء لعلاج أمراض هذا الزمن الغادر))
صمت.
توقف الحكي.
قامت(وداد)وخرجت،بقيت أتأمل سقف الغرفة،في محاولة تجميع الفواصل المتعلقة بصاحبي،استذكرت أيامه القديمة،عندما كان يتقدم مواكب المسيرات الداعمة لسياسة الحكومة،كان يرفع العلم وأحياناً يرفع صورة(التعيس)عفواً(الرئيس)كانت العيون تمطره بكثير من الغايات،عيون فتيات تتشبع بوسامته،وعيون شباب من أصحاب الأفكار الاشتراكية تنظر إليه،كلب يطرد المناوئين بنباحه،وعيون أزلام الحكومة تنتشي لوجود جيل شاب سيتحمل مسؤولياته الوطنية الكبرى والصغرى.
عادت إلى ذاكرتي،تلك الاحتفالات الشعبية والتي بدأت تتوسع،تم بناء مسارح لها،في كل شهر وفيما بعد كل أسبوع يتم حشد الناس في أماكن مهيأة،يتم فيها إشاعة الطرب واللهو،يجيء بمطربين ومطربات وراقصات شرقيات شبه عاريات يعلمون الناس فن العيش الجديد،كان صاحبي الفتى مدلل الحزب،يصعد على المسارح ليقدم فقرات الحفل،عريفاً محسوداً.
لم يحصل أن أشيع عنه حكايات غرام رغم تواجد سيول المشاعر العاطفية من حوله.
كيف قفز ليتبوأ شمعة حكاية مرفوضة اجتماعياً،بسبب وحل لا أخلاقيتها،كيف تحول القطب النافر في كتلة مغناطيس إلى القطب الجاذب؟لابد من فواصل إقناع كي تكون الحكاية مقبولة،مضموناً وسرداً.
صاحبي،رغم كونه أبن بلدتي(جلبلاء)لم يحصل أن التقينا في جلسة طارئة،أو في حوار عابر،كان بيتهم في سوق البلدة،بيوت تقطنها الناس المترفهين نوعاً ما،كونهم كانوا يمتلكون المحال التجارية ويمتلكون وظائف حكومية في دائرة السكك أو في دائرة البريد والإتصالات،وكنّا نسكن(قرية جار الله)،حفنة مساكن طينية،تتخوصر مرتفع أرضي يطل على وادىٍ مجنون،كل شتاء يتحول إلى ممر لسيول غاضبة تدفعها الجبال والمنحدرات الخانقة للبلدة في قسميها الشرقي والشمالي،عندما ترسل الغيوم مدرار المطر كل شتاء خصب.
لم نجد دوافع ملهمة فينا كي نذهب ونتواجد داخل سوق البلدة،ليس لدينا نقود كي نذهب لشراء الأشياء،كنّا نخضع لتحذيرات الأبوين ولا نبارح منطقة السكن إلاّ برفقتهم.
***
بعدما أستعرت نار الحرب.
تم سوقنا إلى معسكر(المنصورية)ومن هناك إلى(مركز تدريب الدروع)،تخرجت وبعد الإجازة جاءت الأوامر بنقلنا إلى جبهات القتال لتعويض الخسائر المتواصلة.
في(شرق البصرة)،تم تنسيبي إلى السريّة الثانية ضمن(اللواء المدرع 54 كتيبة دبابات الصديق)،بعد مرور أربعة أسابيع تم منحنا إجازة على أن نلتحق بوحدتنا في حال تعرض قاطعنا إلى أي هجوم،في اليوم الثالث من إجازتنا تصاعدت صيحات المذيع وتعالت أهازيج المطبلين والمعربدين،وقذفت مكبرات الصوت فوق مبنى الحزب وهي تزف بشائر النصر المؤزر إلى الناس،غادرت المنزل وفي كراج النهضة وجدته يقف.
((هل أنت من جلبلاء؟))باغتني.
((من قرية جار الله))..أجبته.
فرح بي وفرحت به،قبل أن ننطلق معاً،كانت المصادفة أنه منسوب لنفس الكتيبة ولكنه مخابر ضمن السريّة الأولى.
تلك هي كل ما أملك من تفاصيل لا تشكل جوهر الحكاية،ما لدي من حوارات تشير على أنه كائن فوق العادة،خاض تجارب جسدية لا معقولة،شيء أثار اهتمامي،كان متحمساً،كثير الحركة،ها أنني إزاء شاب منغلق،يميل إلى الصمت،حتى نظراته شبه جامدة،لم أجد سؤالاً يدفعني لشرح القضية،كل إنسان يمر بمراحل الحياة،من العبثية إلى العقلانية،لابد من أنَّ العمر يمتلك خصلة أو الأوامر القطعية لتحديث التبدلات الجوهرية في الصفات والرغبات.
***
عادت(وداد)تحمل قدح شاي،بدأت تذيب السكر،وجدتها تنظر بشيء من الغرابة فيّ،بقيت ناحتاً عينيّ فيها،رفعت قدح الشاي..قالت:
((بلا قهوة))
((آه..تذكرت،نسيت أن أجلب القهوة يوم أمس))
((أشربها من غير قهوة هذه المرة))
بدأت أرتشف الشاي..قلت:
((ما الذي يشعل ثغرك بهذا الألق))
((ثمة تفاصيل جديدة،لا أعرف سبباً لعدم ذكرها))
((أرجو أن لا تتعلق بك))
((قد تكون من مفاجآت الحكاية))
((لنسمعها أولاً قبل البت بالحكم مسبقاً،هناك تفاصيل كثيرة قد تخرج من الحكاية،وقد تدخل عليها تفاصيل ملفقة كونها تعطيها الشحنات الثورية))
((كانت لدينا مستخدمة،سقطت في مستنقعه،حكت لي كل التفاصيل وبمتعة))
((حقاً هذا شطر لا يمكن التغاضي عنه،كيف غاب عن بالي هذا الفاصل الحيوي،ففي كل مدرسة لابد من حارس ومستخدم أو مستخدمة))
((لم يكن لدينا حارساً،فقط ـ أم عليوي ـ مستخدمة في الستين من عمرها،كانت أرمل،حاولت كثيراً معي ـ بناء على رغبته ـ أن أكون حبيبته كما كان يتوسل لها،صمدت وتحولت فيما بعد لأمٍ لي بعدما نالت استحقاقاتها العاطفية من بعد سنوات حرمان))
((منحتي الحكاية بعداً كونياً،الشهوة آفة عمياء،عندما يفتقد الذكر إلى بركة راحته،لابد من أقرب الواحات ـ مهما كان الماء ـ آىسن أو جاري ـ تأتي سعادته،إذا كان كلامك غير ملفق،لابد أن صاحبنا وجد الرفيقات بساتين جافة،ووجد بستان ـ أم عليوي ـ عامراً بالفواكه الناضجة،أعتقد فهمتي كلامي وما أعنيه))
((حسب ما قالت لي،أن المصادفة هي التي أعادت لها الأنوثة النائمة،كانت في غرفة الماء عندما شعرت بيدين تلقيان القبض عليها،مثلما حصل معي،لم تحرك ساكناً،لم توجه صفعة كما فعلت،بل مكنته من نفسها))
((قد أبدل حكايتك أو بعض فقراتها،ربما الآن وجدت أن المستخدمة هي الشخصية المؤهلة لتقوم مقام العرابة أو ـ ...... ـ لا أحبذ أن أقول الكلمة بصراحة،هذا ممكن،فمثل تلك النساء وبحكم طبيعة عملهن في هكذا وظائف مبتذلة غالباً ما يسقطن أو يغدون(كاسرات رقاب)إن جاز التعبير،نعم هي من تقوم بمحاولات الإغواء وربط المصائر ما بين صاحبنا وبين الصويحبات))
((لا علم لي بهذه الأمور،أنت كاتب حكايات ولديك ألاعيب فن الحكي))
((هذا أكثر منطقياً،كون هذا شائع ومعقول ومقبول،لو جعلت أحدى الرفيقات تقوم بهذا الفعل،لجانبت الكثير من الأذواق،ودفعتها أن تضع الحكاية في خانة اللامعقول))
((لكنها حقيقة))
((الحقائق لا تصلح أن تكون حكايات،الحقائق تجعل من أي عمل فني تأريخ محض))
((ما قالته لي،أنه دخلها مرتين))
((هذا الجانب سيتحكم به السرد،وطبيعة الشخصية المحورية،ربما ستغدو ملهمة قسراً،مثلاً أنها تفرض عليه جباية أخلاقية،كأن تطلب مقابل كل محاولة إغواء خلوة جسدية،بالطبع الشخصية شابة ومتحمسة،حتماً سيرضخ لمطاليبها ولو على مضض،عندها تكون شخصية مركزية تقتسم كعكة الحكاية معه))
((بدأت عالياً تغرد وتخرج عن النص يا ملفق الحكايات))
((ليس ما سمعته سيكون حاضراً،ربما عند الشروع بالكتابة أتجرجر إلى عالم آخر وشخصيات أخر وتفاصيل جديدة،تلك هي أسرار الحكايات الخيالية،الحكاية هي الخوض في متاهات أو السباحة في بحر مجهول القاع،مجهول الكائنات))
((هذا لا يهمني،المهم أنك تواصل الكتابة،أن تحكي للناس حكايات جرت بينهم))
((ذلك هو منهجي،أن أتحسس الوقائع المنسية والمخفية والتي أحرقت الكثير من حياة المجتمع في زمن الغبار،آن أن أتحرك وأبحث عن أبطالنا المنسيين))
((لا تتحرك؟ما حكيته لك يكفي،عندما تتعقد الأمور يمكنني أن أسعفك))
((لكنني أبحث عن إطار جديد،أبحث عن شكلٍ لائق،لا أريد أن أكرر نفسي ضمن أطر بالية))
((حكاياتك السابقة كانت مقبولة من أهل النقد))
((أن ما يشغلني هو تركيب الحكايات،أي أن أجرجر القارئ وأضعه بين حكايتين،أريده أن يعيش معي،أن يشعر بالجهد المبذول،أريده أن يستمتع وهو يلاحق الأحداث،لا أن يقرأ حكاية من غير تحريك المخ أو المشاركة في طرح الحلول))
((وهل في يومنا هذا،يمكننا أن نصرف أوقاتنا جرياً وراء ألغاز وحيل كتّاب الحكايات؟))
((ليس غايتي اللعب على ذهن القارئ،الحكاية الحديثة تتطلب شكلاً يعطي فاصل المتعة بطريقة مغايرة لما كانت،يمكننا أن نخرج سطوة الكاتب من حركة الشخصيات والتدخل السافر في شؤونهم،يمكننا أن نوفر المناخ الملائم كي يقول ما عنده،كي لا يحمِّل الشخوص أفكاره،هذا الشكل الجديد يضمن للكاتب حرية طرح بضاعته،وترك الحكاية تأخذ مجراها الفني المعقول جنباً إلى جنب الحكاية المركزية))
((أرجو أن لا يستغرق هذا كثيراً،بدأت أتشوق لحكاية كنت الشاهدة الوحيدة فيها))
((ما وضعته في بالي،قد يستغرق وقتاً،أنت جزء من الحكاية،وأنا جزء،ولابد من الجزء الأهم،صاحبنا،لابد من معرفة مصيره،لقد مضى أكثر من ثلاثين عاماً على تعارفنا البسيط،أين يمكن أن أجده؟،ربما هناك رغبة تتزاحم فيّ لرؤيته إن كان حياً،في فترة الحرب سقط الكثير من القتلى والكثير من المعوقين والمفقودين والأسرى،لكنني لم أسمع باسمه من بينهم،لابد أنه تخلص من الموت،وهو متواجد في مكان ما،ربما سأبحث عن فرضيات كثيرة،لابد من وضع حياة ما بعد الحرب له كي تكتمل الحكاية))
((هب أنك وجدته،هل يغير شيئاً أو يضيف للحكاية ملحاً؟))
((لو وجدته لربما سأحصل على تفاصيل جديدة قد تخدم الحكاية))
((وقد لا تهتدي إليه))
((هذا محط اهتمامي،أفكر بعدة فرضيات،بعدة نهايات،فجوهر القضية عندك،وخيالي متحفز لتلفيق الكثير من المشاهد المنحرفة والتي لا تدور خارج فلك الحكاية))
((ومتى تبدأ؟))
((عندما أشتري القهوة،من غير فناجين قهوة معمولة بيديك الناعمتين،لن أستطيع المضي قدماً))
((حسناً..حان وقت النوم،وراءنا دردشات ما قبل النوم))
((آه..أنها حكايتنا التي بدأت ولن تنتهي))
تناولت عكازي،أسندتني ومضينا إلى الفراش.



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أولاد اليهودية(رواية)10
- أولاد اليهودية(رواية)9
- أولاد اليهودية(رواية)8
- أولاد اليهودية(رواية)7
- أولاد اليهودية(رواية)6
- أولاد اليهودية(رواية)4
- أولاد اليهودية(رواية)3
- أولاد اليهودية(رواية)2 /حازت على المرتبة الثانية/في مؤسسة ال ...
- أولاد اليهودية(رواية)1
- قضية فرحان/قصة قصيرة/
- المسكين مخلوف /قصة قصيرة/
- مزبلة الرؤوس البشرية/قصة قصيرة/
- حدث في ليلة مأزومة/قصة قصيرة/
- في أزمنة ليست سحيقة//قصة قصيرة//
- ليسوا رجالاً..(قصة قصيرة)
- بعد رحيله..جائزة محي الدين زنكنة للمسرح
- مسرحية(ماما..عمو..بابا..ميت)القسم الثاني..الأخير
- ماما..عمو..بابا..ميّت(مسرحية)القسم الأوّل
- حديث مقاهينا(مسرحية)المشهد الثالث/الأخير
- حديث مقاهينا(مسرحية)المشهد الثاني


المزيد.....




- مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات ...
- الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و ...
- -أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة ...
- الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
- “من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج ...
- المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ ...
- بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف ...
- عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
- إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع ...
- تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - ليالي المنسية/ القسم اثاني