|
في البدء كانت الكلمة !
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4554 - 2014 / 8 / 25 - 10:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمهيد لازم في سنة 1962 اقتسم جائزة نوبل فى مجال علوم الحياة ثلاثة علماء هم: موريس ويلكنس Maurice Wilkins النيوزلندي وفرانسيس كريك Francis Crick الانجليزي وجيمس واطسون James Watson الامريكي. ولم يكن ما إكتشفه هؤلاء بالامر الهين، حتى بمقاييس جائزة نوبل، اذ احدث ما اكتشفوه ثورة علمية ما زالت آثارها، على الصعيدين العلمي والعملي، تفعل فعلها حتى الآن. فلقد مهدت ابحاث الأول، ويلكنس، الطريق لكلا من كريك وواطسون لإكتشاف مكونات وبنية جزئ "الدنا" (دي ان ايه) DNA. وتعود اهمية هذا الجزئ الى تواجده في كل خلية من خلايا الكائن الحي، نباتا او حيوان، هذا بالاضافة الى انه يختزن في بنيته وصفا دقيق لصفات هذا الكائن سواء تلك الموروثة عن اسلافه او تلك الخاصة به. وعلى الرغم من ان هذا الوصف يتضمن العديد من الصفات المشتركة التي تحدد انتماء الكائن لعائلة ما او لجنس بعينه الا انه ايضا يتضمن بعض الصفات التي تميز الكائن عن غيره من الكائنات. وتشكل كلا من هذه الصفات، المشتركة والمنفردة، مجتمعة وصفا لا يتكرر يحدد هوية الكائن ويطلق عليه اسم "البصمة الوراثية". ان البصمة الوراثية كالرقم القومي رقم واحد لايتكرر لكل مواطن. كما اسفر هذا الاكتشاف الى نشوء نظم علمية جديدة من اهمها علم "الهندسة الوراثية". وهو العلم المعني بالتقنيات التي تمكن الانسان من التعامل مع مكونات وبنية جزئ "الدنا" بهدف تغيير بعضا من صفات الكائن الحي الموجود او حتى استحداث كائنات جديدة. ومن ابرز امثلة منجزات هذا العلم الاغذية المعدلة وراثيا فرأينا فواكه اكبر حجما او اقل بذورا، كما رأينا التفاح بطعم العنب، التفاح العنبي، والمشمش بطعم البرقوق، المشمش البرقوقي.
مشهد من الواقع دارت أحداث هذا المشهد في أحد برامج التوك شو الشهيرة التي كانت تذيعها احدى الفضائيات العربية. وكان موضوع الحلقة عن احكام الرضاعة من منظور علم الوراثة. اما ابطال الواقعة فهما احمد مستجير (1934-2006)، العالم والمفكر وابو علم الوراثة فى مصر، واستاذة علم الوراثة في احدى كليات الطب المصرية العريقة. وكان مضمون السؤال الذي تدور حوله الحلقة هو "هل تنشئ عملية ارضاع امرأة لطفل غريب عنها علاقة نسب بينهما؟" وهو السؤال الذي يمكن اعادة صياغته بلغة علم الوراثة ليصبح "هل تؤدي عملية الارضاع الى احداث تغيرات في البصمة الوراثية للرضيع تؤدي الى انشاء علاقة نسب بينه وبين ومرضعته؟". وعلاقة النسب من منظور علم الوراثة هو وجود بعض من المكونات المشتركة بين البصمة الوراثية للمرضعة والبصمة الوراثية للرضيع. وعلى الرغم من فساد السؤال في المقام الاول لخلطه ما لا يختلط، "الدين" القائم على الإيمان والتسليم و"العلم" القائم على العقل والتجريب، الا ان اجابة استاذة علم الوراثة في كلية الطب كانت صادمة بكافة المقاييس. فلقد تناست الاستاذة ابجديات علم الهندسة الوراثية، الذي تدرسه لطلابها، واكدت ان هناك احتمال لأن تؤدي الرضاعة الي حدوث تغير فى البصمة الوراثية للرضيع. اما حجتها في ذلك هي ان ما يقرره العلم لا ينبغي ان يتعارض مع ما جاءت به النصوص المقدسة اولية كانت او ثانوية! ولم تدري انها بحجتها هذه تهدم واحدا من أهم الاسس التي يقوم عليها المنهج العلمي وهو مبدأ التطابق. وطبقا لهذا لهذا المبدأ فان ما يحدد صحة أى مقولة علمية هو مدى تطابقها مع الواقع وليس مدى اتفاقها مع النصوص. ووجدت نفسي ارثي لحال الدكتور احمد مستجير وهو يحاول جاهدا تذكرتها بالمعلوم من العلم بالضرورة، وبأن تغيير البصمة الوراثية لأى كائن حي لها تقنياتها المستقرة والتي ليس من بينها الرضاعة بأي حال من الأحوال.
تأملات ليس المشهد السابق الا احد اعراض مرض تعاني منه الذهنية الاسلامية في شكلها التقليدي وهو مرض "استبداد النصوص". وليست الجماعات الاصولية المتطرفة بشتى اشكالها، وسواء كانت تتبنى العنف منهجا او تتجنبه تحسبا، الا اعراض اخرى من اعراض هذا المرض. والمصاب بهذا المرض تحكم تصرفاته ورؤيته للعالم تفاسير سطحية للنصوص المقدسة لا تأخذ في اعتبارها زمن انتاجها ولا السياق المواكب لعملية الانتاج هذه. ويؤمن المصاب بهذا المرض بأنه "في البدء كانت الكلمة"، وأن الواقع، بمختلف صوره، يجب تشكيله، ايا كانت الوسيلة، ليتطابق مع ما ورد في النصوص. ويتناسى المصابين بهذا المرض أن النصوص، بشتى انواعها، لا تعدوا كونها توثيق مكتوب لرؤية منتج النص للواقع الذي يعايشه، طبيعيا كان او اجتماعي او متخيل. فكتاب عن علم الفلك هو نص تقريري يصف واقعا طبيعي. ورواية طويلة او قصيدة شعر ما هي الا وصف لتجربة انسانية في الواقع الاجتماعي. وخطة طويلة الامد لتطوير العشوائيات لا تغدو كونها وصفا لواقع متخيل يرجى تحقيقه في المستقبل. ويمكن تلخيص ما سبق في عبارة واحدة هي "في البدء كان الواقع" فالتفاعل مع الواقع هو مصدر النصوص بمختلف انواعها.
وتشكل مستجدات الواقع، الذي يتغير بمعدلات غير مسبوقة، تحديا للذهنية المصابة بمرض "استبداد النصوص" وتضعها في مأزق مزمن هو "تباعد مضمون النص الثابت عن احوال الواقع المستجدة". مأزق يضع هذه الذهنية امام ثلاثة خيارات. الخيار الأول هو "التأويل" الذي يعرفه الفقهاء بأنه "صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لقرينة أو لدليل". وهو خيار ترفضه هذه الذهنية رفضا قاطعا. أما الخيار الثاني فهو شيطنة الامر المستجد وتبغيضه ف "شَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ". وبالطبع لا مانع من استخدام نظرية المؤامرة والزعم بأن هدف هذا المستجد هو تدمير الأمة. وثالث هذه الخيارات هو "الانتقاء" حيث يتم قبول بعضا من جوانب الامر المستحدث ورفض بعضها الآخر. ومن امثلة الخيار الثالث ما صدر عن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 5 الى 10 يناير 2002، والذي جاء فيه "أولاً: لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص ... ثانيًا: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية. ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان."
خلاصة القول ان اي حضارة مصابة بمرض "استبداد النصوص" هي حضارة تحمل في صلب تكوينها عناصر تدميرها. فخير عقولها منصرفة عن الواقع متجدد الاحوال بشرح النصوص وكتابة الحواشي والمستخلصات. اما منتجاتها الفكرية ... ! ... فتوفر الاطار التبريري لجماعات العنف المسلح. وهي في النهاية تخلق بيئة معاكسة وضاغطة على حرية البحث والابتكار.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية البيضة والفرخة
-
المستقبل مضارعا
-
الديموقراطية وقيمها الغائبة
-
فنجرة البق وملاعيب الكلام
-
سلالالالام سلاح
-
لا يا شيخ ... ! (أو نقد المرجعيات)
-
عقلك في راسك اعرف خلاصك
-
كشف الغمة عن عقل الأمة
-
الأمة المصرية ...امة كانت وتكون وستكون
-
الاساطير الثقافية: (5) أسطورة -زي السمن على العسل-
-
الاساطير الثقافية: (3) اسطورة الزمن الجميل
-
العصا والجزرة ورفيقتهما الناعمة: من القوة المحتملة الى القوة
...
-
العصا والجزرة ورفيقتهما الناعمة (1-2)
-
الاساطير الثقافية: (2) الغزو الثقافي (او حكاية -الناس اللي ف
...
-
الثروة الخفية
-
من يخاف من العولمة؟
-
علمنة المجتمع وشكة الدبوس
-
العلم من بارادايم البساطة الى بارادايم التعقد
-
الاساطير الثقافية: (1) اسطورة العروبة
-
الحل برة الصندوق
المزيد.....
-
الكرملين يكشف السبب وراء إطلاق الصاروخ الباليستي الجديد على
...
-
روسيا تقصف أوكرانيا بصاروخ MIRV لأول مرة.. تحذير -نووي- لأمر
...
-
هل تجاوز بوعلام صنصال الخطوط الحمر للجزائر؟
-
الشرطة البرازيلية توجه اتهاما من -العيار الثقيل- ضد جايير بو
...
-
دوار الحركة: ما هي أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟
-
الناتو يبحث قصف روسيا لأوكرانيا بصاروخ فرط صوتي قادر على حمل
...
-
عرض جوي مذهل أثناء حفل افتتاح معرض للأسلحة في كوريا الشمالية
...
-
إخلاء مطار بريطاني بعد ساعات من العثور على -طرد مشبوه- خارج
...
-
ما مواصفات الأسلاف السوفيتية لصاروخ -أوريشنيك- الباليستي الر
...
-
خطأ شائع في محلات الحلاقة قد يصيب الرجال بعدوى فطرية
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|