|
النشاط الاقتصادى فى العالم الوسيط (3)
محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 4550 - 2014 / 8 / 21 - 12:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
(11) ويمكننا أن نعقد مقارنة بين الإقطاع فى الشرق الإسلامى والغرب اللاتينى فى ضوء ما لدينا من مصادر تؤكد لنا أن جوهر الإقطاع لا يختلف فى الشرق عنه فى الغرب. منتج مباشر مستغَل. نخبة حاكمة مستغِلة. ريع عينى ينقل إلى مخازن الملاك. وريع نقدى يتدفق إلى خزائنهم. قد يتغير الشكل. قد يتغير اسم المستغل وصفته. قد يختلف مكان الاستغلال. قد تتبدل الالتزامات. ولكن تظل الروح واحدة لا تتغير، والقواعد الكلية واحدة لا تتبدل(48). ولمن يهوون القول باختلاف الإقطاع فى الشرق عن الإقطاع فى الغرب، يمكننا بوجه عام أن نسايرهم، ونلاحظ أمرين: الأمر الأول بشأن الحيازة، والأمر الثانى بشأن إنتقال الأرض بالوفاة إلى الورثة. والأمران نتصورهما شكليين للغاية. ولا بأس من إيضاحهما، وقبل أن نقوم بذلك، نذكر أن الماوردى (974-1058) كتب:"وإقطاع السلطان مختص بما جاز فيه تصرفه ونفذت فيه أوامره، ولا يصح فيما تعين فيه مالكه وتميز مستحقه. وهو ضربات: إقطاع تمليك وإقطاع استغلال. فأما إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات وعامر ومعادن، فأما الموات فعلى ضربين: أحدهما ما لم يزل مواتاً على قديم الدهر فلم تجز فيه عمارة ولا يثبت عليه ملك... والضرب الثانى... ما كان عامـــراً فخرب فصار مواتاً عاطلاً وذلك ضربان: أحـــدهما ما كان جاهلياً كأرض عاد وثمود فهى كالموات الذى لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه... والضرب الثانى ما كان إسلامياً جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتاً عاطلاً... وأما العامر فضربان: أحدهما ما تعين مالكه للسلطان فيه إلا ما يتعلق بتلك الأرض من حقوق بيت المال. والقسم الثانى من العامر: أرض الخراج... والقسم الثالث: ما مات عنه أربابه ولم يستحقه وارثه بفرض ولا تعصيب"(49) فمن الواضح، وفقاً لنص الماوردى، أن الإقطاع فى الشرق يجد له سنداً تنظيمياً وغطاءً أيديولوجياً، على خلاف الإقطاع فى الغرب الذى فرضه الظرف التاريخى. وإذ كان هذا وجه إختلاف، فلدينا وجهين آخرين(50): فبصدد الحيازة: لم يكن للحائز فى الشرق سوى سلطـة استغلال وانتفاع دون التصرف؛ لأن المالك الوحـــيد للأرض جميعها، فيما عدا بعض الاستثناءات، هو الخليفة. الذى يستطيع أن ينزع الملكية وقتما شاء ممن يشاء، فمثلاً كانت بعض أراضى الشرقية والبحيرة موهوبة بمثابة إقطاعات للبدو من قبيلتى جزام وصليب اللتين كانت فرقهما تدخل فى عداد الجيش النظامى، غير أن السلطان صلاح الدين نزع هذه الإقطاعات منهم عقاباً لهم على عقد صفقة سرية من الحبوب مع الصليبين(51) كما نزع السلطان الكثير من إقطاعات الأكراد كعقاب لهم على هزيمتهم فى الرملة فى العام 1177.(52) أما عن إنتقال الحيازة بالوفاة إلى الورثة، فقد كانت الأرض، فى غرب أوروبا، تنتقل إلى أكبر الأبناء الذكور، وهو الأمر الذى كان له نتائج غاية فى الخطورة على النظام الإقطاعى نفسه. أما فى الشرق فالإقطاع سواء كان فى مصر أو سوريا يمكن أن يتحول وفقاً للوظيفة الحربية، ويخبرنا ابن عبد الظاهر أن إقطـــاع الأمير شهاب الدين القمـــرى انتقل لابنه بعد موته، ولكن إقطــــاع الأمــيرشرف الدين الذى وقع عندئذ، فى بداية 1261، فى الأسر على يد الصليبيين، استبقاه السلطان لإخوته. والمقريزى فى العام 1265 يستشهد بنص مرسوم بيبرس الخاص بتوزيع الإقطاعات على الأمراء فى الريف والقرى التى تقع حول المناطق التى تم نزعها من الصليبيين فى قيسارية وأرسوف؛ علاوة على أنه يؤكد على الطبيعة الوراثية لهذه الأوضاع، وإعادة توزيع الإقطاعات بالشكل الوراثى ترجع فى الأغلب للعادات الموجودة الخاصـة بأمراء المماليك الكبار، الذين لا يمكنهم أن يرثوا وظائف أبائهــم وبالتالى إقطاعاتهــم. والمصادر تؤكد أن عــزل الأمير أو وفاته تستتبع إعادة توزيع إقطاعه على الآخرين، وكان المحاربون يتعرضون لفقد إقطاعاتهم إذا ما ارتكبوا ما يخالف القواعد المتوارثة. على ذلك قد يتبدى الاختلاف فى النشأة ربما أو التنظيم أو عوامل التطور والإنهيار، ومع ذلك يمكننا أن نرى نشأة الاقطاع فى الشرق مشابهة، فى بعض الأحيان، لما حدث فى الغرب اللاتينى؛ إذ نجد أن من أهم الأسباب التى أدت إلى ازدياد عدد الضياع عند الخلفاء وذويهم، نظام الإلجاء؛ فقد كان الأهالى الضعفاء يقومون بإلجاء ضياعهم إلى الأقوياء من أقارب الخليفة أو الوزراء أو كبار رجال الدولة، للتخلص من جباة الخراج الذين كانوا يغضون النظر عن هذه الأراضى الملجأة فلا تخضع لجبايتهم. وبذلك يخف الخراج عن أصحاب الضياع الضعفاء، وبمرور الزمن تصبح هذه الضياع ملكاً للملجأ إليه، فى حين أن وضع المالك الأصلى يتبدل إلى حالة مزارع فى الأرض. وترجع هذه الطريقة، فيما يبدو، إلى العصر الأموى، حيث ألجأ الكثير من الفلاحين أراضيهم إلى مسلمة بن عبد الملك بن مروان فى أثناء ولاية الحجاج بن يوسف الثقفى للعراق. كما توجد أمثلة أخرى بعد قيام الدولة العباسية، ففى عهد المنصور، على سبيل المثال، ألجأ رجل من أهل الأهواز ضيعته إلى الوزير سليمان بن مخلد المعروف بأبى أيوب المريانى.(53) كما أننا نلمس تشابهاً آخراً؛ إذ كانت ملكية الأرض فى عهد الدولة الأيوبية تقوم فى أغلبها على النظام الفئوى الهرمى الشبيه فى أساسه بالأشكال السائدة فى غرب أوروبا فى العصور الوسطى، وكانت الفئات الحاكمة تتكون فى أغلبها من الأعيان المحاربين الذين ينحدرون من الأصل التركى(54) (12) فى العصر الوسيط إذاً، كما العصر القديم، عرف العالم بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق، وتداول الثروة العقارية، كما عرف التبادل النقدى المعمـم، ولم يكن، وفقاً لمحـــور ماركس-روزا- هيلبرونر، مجرد مجموعة قرى أوضياع أو إقطاعات مكتفية ذاتياً تجهل النقود والتبادل. ويحكمها سيد قاس غارق فى الملذات جل همه امتلاء مخازنه بالحنطة! إنما كانت، كما ذكرنا، تعرف الصيغ الثلاث التى تتخذها حركة الرأسمال على الصعيد الاجتماعى. ومن ثم كانت تعرف بيع قوة العمل، كما عرفت الإنتاج من أجل السوق، قد يتغير الشكل. شكل العامل. شكل العمل. شكل الآلة. شكل السلعة. شكل السوق. ولكن الصيغ واحدة. وحينما تمكنت أحد هذه الصيغ من اخضاع باقى الصيغ لهيمنتها كان من الحتمى ظهور العلم الذى يشرح هذه الهيمنة ويكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم هذا الاخضاع لقانون حركة واحد؛ فحينما تمكن صيغة حركة الرأسمال (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) من فرض هيمنتها على باقى الصيغ (ن --- س --- نَ)، (ن --- س --- نَ) تبلور نظــام إنتاجى، لا يعتمـــد على العــبد، أو الأرض، إنما على الرأسمال، إنما كظاهرة تمكنت من فرض هيمنتها، عبر صراع جدلى تاريخى طويل مع باقى الظواهر الأخرى، وليس كظاهرة غير مسبوقة، كما تقول كراسات التعميم الأوروبية الصنع، والموجزات الأولية سوفيتية المنشأ. حقاً من المأساة مناهضة نظام دون معرفة مما يتركب هذا النظام. والانسياق وراء تاريخه الوهمى، ومن السخف حقاً النضال من أجل اسقاط نظام بدون وعى بماهيته. وحقيقته. وقانون حركته. الأزمة ليست فى الرأسمال. إنما فى النظام الاجتماعى المبنى على الرأسمال. الإشكالية الرئيسية ليست فى الإنتاج، إنما فى توزيع المنتَج. المشكلة ليست فى التاريخ، إنما فى كتابة تاريخ الأجزاء المتخلفة، ونحن منها، ابتداء من تاريخ أوروبا الاستعمارية. ابتداء من هذا الوعى؛ ربما يمكننا وضع المشروع الحضارى لمستقبل آمن، لأجيال لم تأت بعد ونتحمل أمامها المسئولية التاريخية كاملة.
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النشاط الاقتصادى فى العالم الوسيط (1)
-
النشاط الاقتصادى فى العالم الوسيط (2)
-
النشاط الاقتصادى فى العالم القديم
-
قانون حركة الرأسمال
-
الجغرافية العامة لإيران
-
الجغرافية العامة لمصر
-
أصول الاقتصاد السياسى
-
التاريخ العام للرأسمالية
-
فى المسألة الفنزويلية
-
كيف نفهم، كعرب، إيران؟
-
السودان بعد التفكيك
-
ملاحظة بصدد أزمة التعليم فى العالم العربى
-
النداء الأخير
-
نقد المركزية الأوروبية فى الاقتصاد السياسى
-
نقد ديالكتيك ماركس فى رأس المال
-
هيكل اقتصاد مصر
-
خلاصة الرأسمالية
-
محاضرات دورة كتاب رأس المال
-
موضوع الاقتصاد السياسى
-
مسخ الاقتصاد السياسى
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|