نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1283 - 2005 / 8 / 11 - 11:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
كان واضحاً في مظاهرة (كتاب وفنانين من أجل التغيير) التي أقيمت في ميدان طلعت حرب بالقاهرة عصبية الضباط الشديدة, فمع التزام السلطة بكف أيديها عن المتظاهرين , بعد السبت الدامي الذي سبقه, كان لابد من إجراء آخر يخيف هؤلاء الناس, و لم يتم الاهتداء إلى هذا الإجراء, من هنا نبعت عصبية ضباط الشرطة و الأمن المركزي في التعامل مع السيارات التي مرت بالصدفة في هذا المكان, كان لابد للسيارات أن تتوقف لكي تمر سيارات أخرى من الشارع العمودي, كما كان لابد – في ذات الوقت - ألا تطول لحظات التوقف تلك أكثر من اللازم, و إذا ما تلكأت سيارة بعض الشيء أمام المظاهرة لتستطلع ما الذي يريده هذا الحشد الذي يحمل صورا لأم كلثوم و سيد درويش و نجيب الريحاني كان الضباط يصرخون فيها ألا تتلكأ. كأن تعليمات قد صدرت بحجب المتظاهرين عن الناس (العاديين), و بين (العاديين) و (الآخرين) يلزم وضع كردونات و جيوش من الأمن المركزي, ضباطا و جنوداً, حتى لا تختل القاهرة التي تعرفها السلطة جيداً, حتى لا تفور من تحتها قاهرة أخرى, أو حتى لا يتوسع هذا الفوران ليصل إلى المناطق التي بدا أنه وصل إليها مؤخراً, الناس العاديين.
شيئاً فشيئا يقل اعتماد السلطة في مصر على جيوش الأمن المركزي المصري, حيث لم تنمح بعد من الذاكرة إهانة منتصف الثمانينات عندما هربت مجموعات من جنود الأمن المركزي, وصفت بأنها (مجنونة), من وحدتها العسكرية بالهرم و حطمت واجهة فندق "جولي فيل" و أشعلت النيران فيه و أطلقت سراح المسجونين في سجن طرة. لم تنس السلطة هذا ويبدو أنها فهمت منه عدة أشياء صائبة: أنها هي, صاحبة الصناعة, ليس بوسعها الاعتماد على صناعتها الشخصية الرديئة, الجيش, و إنما عليها أن تلجأ إلى من ربوا أنفسهم بعيدا عنها, إلى من التفتت لتجدهم بلطجية و مجرمين, لا إلى من جعلتهم هي مجرمين عبر إشرافها الدائم, حيث أثبتت فشلا ذريعاً في كل شيء, حتى في صناعة الإجرام و الذي يحدث و أن يتوجه إليها هي ذاتها عبر طاقة الغضب التي تضخها في قلوب "من تصنعهم". لذا تلجأ السلطة إلى من كانوا بعيدين عنها, إلى أطفالها الذين نشئوا بمعونتهم الذاتية و أصبحوا مجرمين (هكذا!) في غفلة منها. و لأن جيوشاً كجيوش الأمن المركزي كان لابد لها من وظيفة, و في ذات الوقت فهناك عدة وظائف تنتظر من يمارسها, فلقد أنيط هذا بذاك, باستخدام حيلة قديمة للسلطة كانت تنفع أحياناً و تفشل أحيانا على حسب النضج الفكري للمقموعين: العقاب الجماعي, فعن طريقه يتوجه المقموعون بالغضب تجاه من تمرد على قمعهم و استغلالهم و من "تسبب" بالتالي (حسب خطاب السلطة) في عقابهم عقاباً جماعياً, ينحون إلى اتخاذه كبش فداء بدلا من مقاومة السلطة القامعة, هذه الحيلة هي الأكثر شيوعاً في المدرسة العسكرية المصرية, و من ضمنها سلاح الأمن المركزي بالطبع, عبر ترديد قاعدة عسكرية شهيرة: (الحسنة تخص و السيئة تعم), غير أنها أيضاً تُمارس من قبل الأمن المركزي في القاهرة المتشحة بالسواد هذه الأيام: يعلن الأمن المركزي القاهرةَ مدينة في حالة حداد, بالأسود الطاغي الممتد من القلب, ميدان التحرير, و حتى سائر الأطراف, عبر تعطيل المرور و عبر التضييق على الناس بسبب تجمهرهم أو وقوفهم في مكان ما لمدة تزيد عن دقائق, ثم الادعاء بأن هذا يتم بسبب المظاهرات. كل هذا يفترض في عقل السلطة أن يدفع الغضب باتجاه المتظاهرين و حركة كفاية بدلا من أن يدفعه باتجاهها هي نفسها, و هو ما يعبر عنه كتاب السلطة الدائمون, إلقاء اللوم على المعارضة في احتقان القاهرة, مرورياً و أمنياً. لم يسأل أحدهم لماذا كان هذا الاحتقان ردا على التظاهرات, لماذا كان الاحتشاد بطول ساعات اليوم لجيوش الأمن المركزي في الشوارع, هل لضرب المتظاهرين مثلا؟ هم لا يضربون و إنما البلطجية هم من يفعلون هذا. هل للتضييق المجاني عليهم لعلهم يتراجعون؟ هذا يحدث في مناطق أخرى ليس أولها المعتقلات و ليس آخرها المواصلات العامة.
تنحو السلطات الفاشية في الغالب إلى التصور العضوي للشعب, إلى تخيل الشعب و كأنه كيان عضوي واحد لا ينفصم بعضه عن بعض, و من هنا يأتي دوما الحديث باسم الشعب, و ليس باسم الأغلبية. ولكن ماذا لو فسد جزء من هذا (الشعب)؟ و إن لم يكن ممكنا في ذات الوقت التوسع في الاعتقال و الحبس الفعلي في المعتقلات, هنا تلجأ السلطة إلى العزل, أدق الوسائل و التي تظهر هدفاً إجرائيا لتوقي السلامة و تضمر آلية رهيبة للعقاب, هذا العزل الذي يعامل به المجنون كما يبين لنا المفكر الفرنسي الأشهر ميشيل فوكو, و الذي يتم لصالح مجتمع "العاقلين" و "العاديين". عبر أمواج من الأمن المركزي لا يمكنك رؤية ما وراءها, قد تسمع هتافات مضببة و تلويحات بالأيدي, تناسب بشدة الصورة التي تريد السلطة إيصالها للمجتمع "العاقل" عن المتظاهرين (أناس مجانين يقومون بأفعال غريبة في الشارع لا يعرفون ماذا يريدون) و عبر التضييق على العابرين بألا يتوقفوا أمام أماكن المظاهرات (يجابه دوما المتفرج بكلمة واحدة: "لو عاوز تدخل معاهم ادخل لكن ماتقفش هنا"), بالإضافة للإرهاب المنبعث من سواد ملابس الأمن المركزي و أسلحته المشهرة, و خوف المواطن من المجهول و الفكرة الغامضة عن هؤلاء المجانين, لهذا كله يؤثر المواطن السلامة, أن يبتعد و يعطي تصريحا سلبياً بإتمام عملية العزل, تصريحا مريحاً يدعم خطاب السلطة, و الذي يتم التعبير عنه في مقالات سمير رجب التي كان يكتبها كافتتاحيات في جريدة الجمهورية, و في بعض نماذج أخرى متناثرة من الخطاب السلطوي, حيث كان يتم التأكيد على وظيفة مغلوطة من وظائف الأمن المركزي: "حماية المتظاهرين من الشعب المحب لمبارك و الغاضب عليهم". لم يكن هذا يؤدي في الواقع فقط إلى قلب الحقيقة (و التي هي حماية الشعب من المتظاهرين, أي حرص السلطة على "عقلانية" مواطنيها, غالبية الجسد, إبعاد أي تهديد فيروسي بالتمرد أو الإبداع عنهم, جعلهم "سالمين".. ماكينات غير مبدعة, تكرر نفسها, تتناسخ بسهولة تامة و لا تشذ عن القاعدة), لم يكن خطاب كهذا يقوم بقلب الحقيقة فقط و إنما كذلك يرسخ مفهوما أبوياً في أذهان الناس: إن انفتح هذا الجدار, عساكر الأمن المركزي, فلسوف تواجهون, يا أبنائي العقلاء, شيئاً غريباً, وحشياً, غير مفهوم, لن تعرفوا إلا أنكم غاضبون عليه. و من ثم يلزم حمايته من غضبكم الذي سيكون مبرراً بالطبع. من هنا تنبع الوظيفة الثالثة للخطاب, إظهار ديمقراطية السلطة حتى مع من ينادون بسقوطها, عبر تلاعب تقليدي و قديم بمفهومي العزل و الحماية.
ليس صدفة أن يهتف بعض جنود الأمن المركزي وراء المتظاهرين و أن يؤمنوا على هتافاتهم, لأنهم, و هي المفارقة, لا يتعرضون للعزل عنهم, فالجدار يعزل المعزول عن الناس و لكنه هو نفسه لا ينعزل عنهم, من هنا تبهت قليلا الصورة الشيطانية التي صُورت للجنود عن المتظاهرين, و لأجل مواجهة هذا, و لصالح عزل أكثر نجاحاً, يمنع عن جندي الأمن المركزي تبادل الحديث مع المتظاهر, و هو ما يوازي عزل الجدار عن المعزول بداخله, كي لا يجد نفسه إلا مواجهاً و محاطاً بنفسه, هذا العزل بالذات هو ما يفشل دوماً, ربما لأن الجندي ليس جداراً في الحقيقة و إنما إنساناً من لحم و دم, و من رحم فشل كهذا صرخ جندي أمن مركزي مؤخراً, مردداً وراء المتظاهرين: "كفاية" بينما كان يفترض ربما أن يصرخ طالباً المزيد من القمع, قمعه هو للمتظاهرين و قمعه هو من قبل السلطة.. بوحشية أولاً و بغنج ثانياً.
و لأن جنود الأمن المركزي, بوصفهم أكثر الناس تعرضا لخطاب المتظاهرين, هم كذلك أكثر المناطق هشاشة في عملية العزل, هم الجدار العازل نفسه, يأتي الرعب الوحشي منهم, عدم تكليفهم بالضرب, مراضاتهم من جانب اللواءات الذين يراقبون في الآن ذاته حصانة الجدار, قدرته على عزل "العاديين بالخارج" عن "الآخرين بالداخل", و, و هو الأهم, على عزله هو نفسه عن الداخل المحاصر, فأي سؤال يريد المتظاهر توجيهه إلى الأمن المركزي يلزم أن يرد عليه الضابط, و يعد من سوء الأدب رد الجندي عليه, للسبب المذكور آنفاً, هشاشة الجدار بسبب تعرضه المستمر لخطاب المعزولين المجانين, و يضاف إلى الهشاشة عناصره هو الذاتية التي دفعته للتحول لطاقة مدمرة في منتصف الثمانينيات, وصفت ساعتها بأنها "مجنونة". كل هذا يجعل وجه اللواء يكتسي بقلق عميق و يختلس نظرات جانبية إلى الجندي عندما يتردد هتاف من نوعية "العسكري غلبان في الجيش.. ياكل عدس و يلبس خيش", ويجعل وجه العسكري المنهك أكثر ارتياحاً و قابلية للابتسام.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟