عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1282 - 2005 / 8 / 10 - 08:10
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مازلنا نلملم بين ضلوعنا فجيعة الحدث, بمزيد من الأسى فداحة الموقف, فما عاشت على إيقاعه الدار البيضاء ليلة الجمعة 16ماي 2003 مختلف واستثنائي بالمرة, لا من حيث توقيته ولا من حيث مضمونه. إن الأمر أشبه ما يكون برسائل مشفرة موجهة لعدد من الأطراف المعنية والتي يهمها الأمر تحديدا!!
التفجيرات أفعال أو بالأحرى ردود أفعال بمثابة بالونات اختبار تحبل بالإشارات والتي التقطت على وجه السرعة من طرف مختلف الفاعلين في الحقل السوسيوسياسي المغربي والخارجي أيضا.
لكن وبعيدا عن مأزق البحث عن الفاعل الحقيقي, وبعيدا عن محاولات استجماع الخيوط وتفكيك الرموز والعلب لاكتشاف من يقف وراء هذه الأعمال الإجرامية, وقريبا من هاجسنا السوسيولوجي نمارس عملية قلب الطاولة ونترك قصدا سؤال الفاعل المحتمل لنتساءل عن جينات البدء والامتداد, عمن يصنع هذا العنف قبلا؟ عمن ينتج التطرف القاتل؟ فمن وما الذي يخلق هذا الكاميكاز الذي يهدي نفسه إلى الموت الرخيص آخذا معه بذلك عددا من الضحايا الأبرياء؟ وكيف وأين تتناسل إمكانات العنف المضاد؟
هذا الكاميكاز!
خلال الحرب العالمية الثانية وفي ذروة الاحتقان العسكري بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية طفا على سطح الأحداث الدامية مفهوم الكاميكاز الذي يحيل رأسا على الطيارين الانتحاريين الذين يسقطون طائراتهم قصديا فوق الأهداف الأمريكية, وهو ما أربك حسابات العم سام وهو ربما ما جعله يصب جام غضبه على هيروشيما وناكازاكي بقنبلة نووية مازالت آثارها الكارثية بادية إلى حدود الآن, لكن الكاميكاز الانتحاري لم يبق حكرا على اليابانيين بل انتقلت عدواه إلى العديد من الدول خصوصا مع انتعاش حركات التحرر ومقاومة الاستعمار الامبريالي, لتتواصل فصوله في ساحة المقاومة الفلسطينية بشكل جلي, ويلوح في أكبر وأخطر صوره في أحداث الحادي عشر من شتنبر وبعقر دار العم سام.
وها الكاميكاز اليوم يحل بالمغرب حاملا معه كثيرا من الأغاز والرسائل المشفرة, والتي يعسر فكها في الوقت الراهن, فكيف يتحول الشخص إلى انتحاري من الدرجة الأولى يقدم نفسه قربانا لفكرة ما؟ كيف يتم تعليب وعيه وغسل دماغه قبلا؟ فهل الإيمان المطلق بفكرة وقضية ما هو الذي يقود إلى هذه النهايات الكارثية أم ماذا؟
إن هذا النوع من ألوان الانتحار لا يكون مجانيا, ذلك أن هناك جهات معينة هي التي تغذيه وتوجهه بأفكار وقضايا معينة, ومادام الأمر يتطلب الفدية والقربان فهذا ما يجعل مسألة اختيار الشخص المؤهل للاضطلاع بالمهام الانتحارية مسألة فائقة الخطورة, ولهذا فإن هذه الجهات الراديكالية التي يتأسس مشروعها التغييري على العنف تنتقي انتحارييها من الفئات السهلة التطويع والتدجين, والواقع أنها تجد في أحزمة الفقر والبؤس التي يرتقع فيها الحقد الطبقي والإحباط الاجتماعي, خير المؤهلين للقيام بهذه المهام الانتحارية, وهي في سعيها الحثيث إلى قولبة الوعي وإقناع زبنائها المفترضين بهذه المهام تتوسل بخطابات إيديولوجية ودينية, فالتيارات اليسارية خلال السبعينات وإلى حدود الثمانينات والتي انحازت إلى الاختيار الثوري كانت تعتمد مقولات الصراع الطبقي في شرعنة العنف المضاد, أما التيارات الأصولية فلا تتورع في الرجوع إلى الخطاب الديني لتبرير العنف واستباحة الدم بدعوى أن السلطة والمجتمع يعيش زمن الكفر ومن الواجب الاقتصاص منه عن طريق أمراء الدم, وفي هذا الصدد تحضرنا جماعات السلفية الجهادية والتكفير والهجرة والصراط المستقيم, وكلها جماعات قالت كلمتها في مشهدنا المجتمعي بالسيف وعن طريق أناس غسلت بأدمغتهم وعلبت بأن قتلهم للأبرياء/الكفار في نظرهم هو جهاد في سبيل الله, وأن الجنة وحور العين في انتظارهم بعد تنفيذ العمليات الانتحارية.
الحقد الطبقي!
إن جماعات التطرف والعنف المضاد لا تختار الكاميكاز عبثا, وإنما تخطط جيدا لصناعة هذا الانتحاري المؤمن حد النخاع بالقضية, ولهذا يفترض فيه أن يكون طيعا للأوامر والإيحاء, وحاملا بالضرورة لحقد طبقي ضد مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في هذا المجتمع, والذين يحوزون هذه الدرجات من الحقد يصعب حصرهم بدقة متناهية, مادامت فصول التهميش والإقصاء مستمرة, ومادامت أحزمة الفقر المدقع والبؤس المعتق آخذة في الاتساع والتنامي, إن نيتشه يقول بأن إنسان الحقد عاجز عن الفعل وعن تحقيق ذاته ففعل الحقد ينطوي على العجز وعدم امتلاك إرادة الحراك والتطور, الشيء الذي يحول الفرد إلى كائن سلبي يكون مستعدا دوما لنفث سموم الحقد تجاه كل من يحوز رأسمالا.
إن رشق القطارات والحافلات من طرف أطفال الهامش بالحجارة, وكذا إحداث الخدوش في السيارات الفارهة هو إشارات واضحة لحقد طبقي كامن يتحين الفرص للظهور في مستويات عليا, إنها بدايات أولية لتطرف وعنف مضاد ناجم عن الإحساس بالعجز واللامساواة. إن الحقد الطبقي هو بالضرورة مجرد نتيجة مركزية لأوضاع سوسيواقتصادية معينة, فخصوصيات الوضع القائم والمنتجة باستمرار للتفاوتات هي التي تجعل القروي يحقد اجتماعيا على القاطن بالمدينة, وتجعل العاطل يحقد على صاحب المرسيديس والأمي على المتعلم, وقاطن دور الصفيح على صاحب الفيلا... اعتبارا لكون الحقد يتولد عن العجز والفشل والاندحار الاجتماعي.
فكيف لا يعيش الحقد الطبقي في أعماق شاب مثلا تربى في أحضان الفقر والفاقة ونال حظا مهما من التعليم وحاز شهادات عليا ومع ذلك لم يجد غير العطالة مآلا وانتهاء؟ كيف لا يكون هذا الشاب وبالرغم من شهاداته العليا حاقدا على كل ما له علاقة بالدولة؟ وكيف لا يكون ضحية سائغة لجهات التطرف التي قد تغريه بالمال والعمل لقاء الانضواء فيها والدفاع عن أفكارها, ولو كانت مناوئة للنظام الذي لم يقدم له غير العطالة والتهميش؟
المنابع والمفاقس!
لقد أوضح أوسكار لوبين في كتابيه الهامين "أبناء سانخير" و"لافيدا" بأن هناك ثقافة فقر متميزة ذات صفات مشتركة بغض النظر عن المجتمع الذي يوجد فيه الفقر, ولهذا فثقافة الفقر تضم أفراد ذوي معدلات وفاة عالية نسبيا ومتوسط عمر قصير, ومستويات عمر قصير, ومستويات منخفضة من التعليم ومشاركة ضعيفة في المنظمات الموجودة في المجتمع... كما تتميز حياة هؤلاء الناس بالافتقار إلى الخصوصية وكثرة اللجوء إلى العنف والشعور بالقدرية والاستسلام(1).
إن واقعا كهذا يتسم بانسداد الآفاق ومحدودية الإمكانيات يعد منبعا ومفقسا طبيعيا لكل مظاهر الانحراف والتطرف, فالأحياء الصفيحية ومدن الهامش التي غاب عنها التخطيط وأخطأتها مشاريع الماء والكهرباء وبالمقابل استهدفتها برامج التنمية المعطوبة والحملات الانتخابية المناسباتية, لن تكون إلا فضاء موبوءا لانتاج وإعادة إنتاج الحقد الاجتماعي الذي يتطور مع تنامي موجات الإقصاء إلى تطرف وعنف مضاد لتصفية الحساب مع المسؤولين المباشرين عن التفقير والتهميش.
ففي أحضان الهامش يصنع الكاميكاز وتتناسل بذور الإرهاب, ولهذا فلا يجب الاستهانة بدوائر الإجرام والجنوح التي تتعالى في الهوامش, ولا حتى بالخدوش والرشق بالحجارة للسيارات الفارهة, وباقي ملامح الحقد الطبقي, إن ذلك كله يؤشر على إرهاصات أولية للتطرف الذي يعد نتيجة لأسباب محددة لا تنأى عن التفاوت الطبقي وغياب تكافؤ الفرص واستمرار الإهدار العلني واللامنطقي للطاقات الشابة, ولنتذكر جيدا أن المحسوبين على تيار السلفية الجهادية الذين ألقي عليهم القبض الصيف الماضي بتهم زعزعة الأمن والاستقرار هم في الغالبية العظمى ينحدرون من بيئات فقيرة جدا ويتوفرون على مستويات تعليمية متدنية, ذلك أن الخطابات الراديكالية تجد أنصارا لها دوما في الدوائر المقصية والبعيدة عن صناع القرار, ولهذا كانت المراهنة منذ البدء في الكثير من ايديولوجيات التغيير على الطبقات المهمشة كالفلاحين والعمال والطلبة... باعتبارهم الأكثر استعدادا للنضال واستعمال العنف دفاعا عن مستقبل آخر يحلمون به, ولهذا فإن الجماعات الأصولية ذاتها لا تخطئ الهدف, وتعرف جيدا بأن أحياء الهامش ومهمشيها من المعطلين والمعوزين هم أكثر الأفراد استعدادا لنفث الحقد الطبقي والوصول أيضا إلى مستوى الكاميكازية!
المقاربة الأمنية
وهكذا فكلما تعالت في السطح آهات المسحوقين وزفرات الساخطين إلا وكانت أجهزة القمع والترويض لها بالمرصاد, لا حلول إذن لهذا الألم الاجتماعي الرابض فوق الصدور غير استنفار الجهاز الأمني وتجفيف المنابع بالحديد والنار, في كل اللحظات التي يقول فيها الشارع كلمته تكون الزرواطة حلا أمنيا ينهال على الرافضين والغبونين, فكيف والحالة هذه, لا تتألق في رحاب هذا المجتمع "قيم" الحقد الاجتماعي؟
وكيف لا تصير أرضية العنف المضاد خصبة لإنبات الكاميكاز؟ لقد عاش المغرب ومايزال على إيقاع مقاربة أمنية اختزالية ترى في احتكار العنف واستعماله اللامبرر خير وسيلة لتقليم الأظافر وإنهاء حالة الفوضى والصراع الطبقي, فما أن تخرج جماعة من القرويين مطالبة بأبسط حقوقها في العيش حتى تكون السيارات المصفحة والمتاريس والكلاب البوليسية في استقبالهم, وكأن الجهاز المخزني لا يعرف غير هذا الحل الأمني لحل إشكال الماء والكهربة.
إن هذه الممارسات المخزنية العتيقة هي التي تنتج الحقد الاجتماعي وتصنع بداية الكاميكاز, ذلك أن كل عنف يستتبعه بالضرورة عنف مضاد يكون في الغالب أكثر قوة وضراوة, وفضلا عن ذلك فظروف التهميش والتفقير مضافا إليها هذا الهاجس الأمني في التعاطي مع الشأن المحلي, هي التي تثمر هذا التطرف القاتل.
ومن جهة أخرى ألا يمكن القول بأن ما وصلنا إليه آنا هو بسبب تراخي الفعل الاستخباراتي ومراهنته فقط في الآونة الأخيرة على التضييق على الصحافة ومحاولة تكميم أفواهها؟ فأين كانت أجهزتنا الأمنية العليا لما كان الانتحاريون يزرعون الفجيعة بيننا كرها واعتسافا؟
حصاد الهشيم
هذه إذن مجرد محاولة لفهم ما جرى من زاوية أخرى طبعا!
نحاول من خلالها أن نستجمع خيوط اللعبة بعيدا عن هواجس التقصي الأمني, وذلك لاكتشاف مناطق الظل المعتمة في صناعة الكاميكاز, وقبلا في تفريخ التطرف والإرهاب!
إنها ثمار التهميش والتفقير والمقاربة الأمنية الاختزالية هي التي تقود إلى حصاد الهشيم وإلى جني العوسج, إن التنمية المعطوبة والسياسات اللاشعبية هي التي تنتج دوائر الفقر والفاقة والإجرام والتي تستحيل إلى مفقس طبيعي للتطرف والحقد الطبقي!
فما قام به هؤلاء الكاميكاز يجب أن يدفع التفكير نحو الأسباب قبل النتائج, وذلك لاستخلاص الدروس والعبر ولتلافي وقوع الفجيعة من جديد, إنه ناقوس خطر يدعو إلى إصاخة السمع لصوت المعاناة الشعبية ومحو التفاوتات الطبقية الصارخة, وتجفيف المنابع ليس بسياسة الحديد والنار ولكن بإعمال مقتضيات التغيير والمساواة والعدالة الاجتماعية.
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟