|
قصة قصيرة
جمال حكمت عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 4540 - 2014 / 8 / 11 - 20:36
المحور:
الادب والفن
أنْسامٌ عذبة
أنْسام رياح خفيفة عذبة...هواؤها سَجْسجّ لا حرّ فيه ولا بردَ ينعش ذاك القلب المختبئ بين الضلوع المقوسة؛ وكأنه في غرفة انعاش!!. - دعتني للذهاب إلى الحقول المجاورة لي!!. سبقني قلبي لتلبية نداءها... ونهضت من مكاني واخذت طريق الحقول مجانباً حقل القمح ورأيت سنابل القمح مثقلة بغلالها... تموج بأعوادها، متراقصة بهدوء، تدافع الرياح الخفيفة، رافعة فروعها إلى الأعلى، متباهية بسنابلها الذهبية، متحدية حقل الذرة المجاور لها والواقع على الضفة الأخرى للجدول الصغير الفاصل بين الحقلين... يربطهما جسر قصير من الخشب. كانت طيور البطّ تشق ماء الجدول بصدورها ويروح الماء يتلوى من خلفها منفرجاً هارباً ومندفعاً بأمواج خفيفة متباعدة، والشمس قبل المغيب مازالت تغني فوق الحقول وترسم لوحة لآلئ مضللة فوق صفحة ماء الجدول المرتعشة بالرياح الخفيفة ، وتسكر الحقل بلفحات حرارتها الخفيفة وضوئها الناصع يعكس حبات القمح الناضجة.. .والحمائم العاليات في زرقة السماء الصافية تمر من فوقي محلقة تهبط وتعلو متراقصةً فرحاً. لا صوت سوى حفيف السنابل وأوراق أشجار الذرة . لاحت لي من بعيد فتاة كانت جالسة على الأريكة الخشبية المقابلة للحقل، تلوّح لي بأنها هنا ومنذ وقت تنتظرني ...اقتربت منها متسارعاً بخطواتي، وفرحة قلبي تغمرني وتسحبني اليّها ...وقفت أمامها أحدّق فيها ،واِرتسمت اِبتسامة في وجهها القمري المدوّر...وكأنني أرى زمناً بعيداً تركته. سألت نفسي: هل تكون هي؟؟ أم أنا في وهمٍ... فمنذ زمن بعيد لم أرَ فيه وجه حبيبتي... سحبتني اليها دون أن أشعر، وجلست على جنبها ملاصقاً كتفي على كتفها؛ حتى كادت تسمع دقات قلبي المتلهف اليها كالطفل مندفعاً نحو صدر أمه...ووضعت رأسي على كتفها وسالت دموع الحنين من مقلتي... نظرَتْ اِليّ ونظرتُ اليها بحنين الزمن الطويل الذي لن نلتقي به... وجهان متقاربان تجمعهما عيون نواطق ذابت بها الأشجان... ونَسيم الأنفاس الدافئة الخارجة من بين الشفاه تلقي العتب على تأخري عنها ولم يكن لي عذراً أجيبها به سوى الصمت، ورغبت أن أبقى صامتاً... أنظر إلى عينيّها وشفتيها التي تعاتبني... حاولت أن أدنو اليها أكثر؛ لكن حرصي عليها اوقَفني... ووضعت يدي على كتفها ولصقت جنبي على جنبها ونسيت نفسي في ذلك الدفء الجميل الذي كم اشتقت اليه وأنا أنظر إلى الشمس وخيوطها وكأنها قضبان شبابيك بيتها يوم سقطت عينيّ لأول مرة عليها حيث كانت تنظر لي مبتسمة من خلف شباك غرفتها وكانت تبدو لي كضوء القمر ناصع ينبعث من خلف القضبان. كان المشهد يتكرر في كل نهار وأنا عائد من الجامعة. لم أصَدّق نفسي أني أراها !!وكيف أتت إلى هذا المكان المنعزل في احدى قرى هولندا؟؟ وهل يعقل هذا بعد كل سنين غربتي!!!!. - هل كنت نائماً وصحوت بعد غيبوبة؟؟ - لا ادري: فلم يعد لي لسان يتكلم وغلبتني دهشتي وأنا أمتّع نظري اليها. لمسات هادئة نظرات حنينة من عينين عسليتين ناعستين وكأنها تغرف بهما آلام السنين والحنين الذي جمعنا... شفاه كرزية اللون كأنها كأس خمرة صهباء تسكر راشفها. كل شيء هادئ... صمت ودفء وحنين... ولم يكن بيننا سوى نِسام الرياح الخفيفة التي مازالت تلاعب حقول القمح والذرة . قامت من مكانها واتجهت صوب الطريق الترابي متهادية كالفراشة بين حقل القمح فارشة ذراعيها، وسنابل القمح تتمسّد على راحتي كفّيها حانية عيدانها الرفيعة لتلقي لها التحية. تبعْتَها وسرت خلفها وكانت الرياح تلاعب شعرها وخصلاته تهفهف على كتفيها، وأنغام سمفونية الريح الخفيفة العذبة بدت لي كنَسَمة روح تراقصت أمامي كطفل لاهياً في اللعب مطمئناً جوار أمه. أسرعتْ بخطواتها... حاولتُ أن أجعل خطواتي أسرع منها؛ كي أمسك بها... اقتربتُ منها وبعدت عني وهي تتلفت مبتسمةً وكأنها تقول لي: هل تستطيع الإمساك بي؟؟. ونسائم الرياح الخفيفة تنعش صدري ... ما أحلى هذا اللقاء لحبيب هامس عذب رقيق وشفاف. - كنت أخاف عليها كالوردة من لمسة كي لا تذبل.. أغار عليها من أن يكلمها أحد... أغار عليها من ملابسها قد تخدش جسمها الناعم. كان حبٌّ عذرياً... نعم فكل أنواع العنف مرفوضة بيننا لقد صنعناه بقلبينا النابضين بحب الحياة . - قلت لها: قفي أرجوك لقد ابتعد الدفء عني؛ لكنها تستدير بوجهها وترشقني بابتسامة وتعدو... - هل تستطيع اللحاق بي؟؟ قلت لها: كيف لا الحِق بكِ بعد هذا الفراق المر. - جعلوه علينا فراقاً اجبارياً. - كيف يكون هذا وأنتِ مهجتي. - كيف اقتنعوا أهلكِ بمجيئك لي ؟؟. صمتتْ واخذتْ تحدّق بحنين لي وتحيرتْ بعينيها دمعة وقالت: ليس السبب أهلي لقد داهمتنا عصابات تحمل رسائل طائفية الفحوى تأمرنا ترك منزلنا... وأصبحنا مهجرين داخل الوطن!! . - قلت لها: متى حدث هذا؟؟. - قالت حينما غابت الشمس. - قلت لها: ألم يكن هناك قمر؟؟. - قالت: لقد غاب عنّا القمر ولم يظهر. - قلت لها: ألم تكن هناك نجوماً تحرسكم؟؟. - قالت: لقد نامت النجوم ولم تظهر... والتحفنا السماء في حلكة الليل ونَجيْنا بأنفسنا. - قلت لها: أين أصبح الوطن؟؟. - قالت: تركنا الوطن تعوي به الريح الصفراء والسوداء؛ ولم يعد لنا هناك مكان... كل شيء ذهب مع الريح في عالم الويلات والأحزان... هربتْ مسرعة، وهي تضحك وصوت ضحكتها يعلو ويعلو وهي تعدو في الحقل وأنا من خلفها أنادي: انتظريني ارجوك لا تقتلي فؤادي مرّتين... - حاولي أن تنسي الذي حدث وتعالي؟؟. لكنها تعدّت الجسر الخشبي الصغير إلى الضفة الأخرى حيث حقل الذرة العالية... تبعتها اقتربت منها، حاولت الإمساك بها ؛لكنها اندفعت بسرعة وابتعدت عني حتى توارت بين أشجار الذرة... - ناديت عليها: تعالي يا حبيبتي فلم ترد... - تعالي: فما زال ضوء الشمس مشرقاً نلملم به السنين الضائعة... - تعالي: لنتعانق ونرجم الشر بقبلات الحب... - تعالي: أرجوك لا تبتعدي عني فما زال الأمل موجود. هدوء مطبق ولم يعدْ سوى صوت الرياح الهادئة تلامس أذني وتلاعب اوراق أشجار الذرة. تحولتُ بنظري يميناً ويساراً فلم يكن هناك سوى أشجار الذرة العالية . كم فرحتُ بعودتها، وكأنها أرادت أن تكون أنيسة غربتي؛ لكن القدر لاحقني وخيّب رجائي مرتين مرة في بلادي وأخرى في غربتي. أقبَلتُ رأسي في السماء صارخاً بأعلى صوتي: - كفاكَ لعباً بي يا قدََري؟؟؟ - أكذا جعلتنا نصنع قبورا ً لأحلامنا. هدأ ألنسيم وهدأت معه روحي... صوتُ زقزقة عصفورة ينادي من خلفي وقد أعاد الأمل لي... تلَفَتُّ ورائي فلم أجدها. وعادت تزقزق من الجهة الأخرى... وكلما أقترب من الصوت فرحاً بأنها عادت، يذهب الصوت عني إلى جهة أخرى. - سألت نفسي هل أنا واهماً فيما أراه وأسمعه؟؟. - لم أجد جواباً. تركتُ الحقول خلفي ، وألم غامض يخترق جسدي ،وتباطأتُ في سيري أتلَفتُ ورائي...عسى أن أرى يدها مرة أخرى تلوّح بها لي. وعدْتُ من حيث أتيت .
فتَحتُ عينيّ وأنفاسي تعلو وتهبط حسرة في صدري، وعينيّ تصطدم بجدران غرفتي... والمروحة المنضدية البيضاء تنفخ الهواء في وجهي...نهضت متثاقلاً وجلست متربعاً فوق فراشي أستذكر الحلم مقلباً أحداثه بعينيّ ورأسي ...فجأة سقطت عينيّ على قَشّة صفراء كانت عالقة على يدي...التقطتها بأصبعيّ ودنوتها إلى عينيّ أقلب النظر فيها... وكانت قشّة قمح. جمال حكمت عبيد
#جمال_حكمت_عبيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة/ أنسامٌ عذبة
-
قصة قصيرة/أحلام تحت سحابة سوداء
-
بلادي
-
قصة قصيرة جدا(لمسة إصبع)
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|