موسى راكان موسى
الحوار المتمدن-العدد: 4540 - 2014 / 8 / 11 - 01:17
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
تكملة ..
و لهنتنجتون قول يا له من قول .. حقيقة هو يختزل الكثير :
{ كما يستخدم الناس السياسة لتحديد هويتهم إلى جانب دفع مصالحهم و تنميتها فنحن لا نعرف من نكون إلا عندما نعرف من ليس نحن , و ذلك يتم غالبا عندما نعرف (( نحن ضد من ؟ )) } (1) .
فإن كانت السياسة في المفهوم الماركسي هي أدب الصراع الطبقي .. فهي كذلك قد كانت لوضوح القاعدة أو البنية التحتية التي بدورها تفرز و تشكل لنا البنية الفوقية , فالسياسة إذا أداة في الصراع الطبقي عند الماركسيين .. و حين إنعدام الطبقات لا تكون هنالك سياسة .. و ذلك في الشيوعية .
لكن حين يتم مسخ الإقتصاد .. و تتجه المنظومة الإنتاجية من السلعية إلى الخدماتية , تمسي الطبقة العاملة مقارنة بالطبقة الوسطى في موقع هامش الحياة , و تصبح و تمسي الطبقة الوسطى في تضخم و توسع دائميين , فطبيعي جدا حينها أن تصبح السياسة ذات طابع عبثي .
فالسياسة في هذا الطقس الملوث تتحول من (أدب الصراع الطبقي) إلى (عبث صراع الهويات) , يصبح الآخر بمجرد إختلافه عدو .. حلال النيل من شخصه , و كل حسب مقدرته حينها .. و الويل إن كان متمكن القدرة .
و يخلص هنتنجتون إلى :
(( أن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم مكون من سبع أو ثمان حضارات , العوامل الثقافية المشتركة و الإختلافات هي التي تشكل المصالح و الخصومات و تقاربات الدول , (...) السياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب و متعددة الحضارات .
لحظة الشعور بالبهجة في نهاية الحرب الباردة ولدت وهما بالتوافق و الإنسجام , الذي سرعان ما تكشف أنه وهم بالفعل , أصبح العالم مختلفا في أوائل السبعينيات و لكنه بالضرورة ليس أكثر سلاما , التغير كان حتميا .. التقدم لم يكن كذلك , إزدهرت أوهام مماثلة عن التوافق و الإنسجام في نهاية كل من صرعات القرن العشرين الرئيسية الأخرى .
من الواضح أن نموذج عالم واحد منسجم , بعيد جدا و منفصل عن الواقع لكي يكون دليلا مفيدا لعالم ما بعد الحرب الباردة )) (2) .
و رغم أن هنتنجتون إنتهى إلى سبع أو ثمان حضارات رئيسية في العالم إلا أنه جعل من (العوامل الثقافية المشتركة و الإختلافات) هي أساس تشكل المصالح و الخصومات و التقارب بين الدول , و الغريب أن هنتنجتون جعل من الهوية و الحضارة سببا لكل ذلك _صراع , توافق , تقارب .. إلخ_ إلا أنه لم يقل لنا : لماذا هي (الهوية و الحضارة) تفعل ذلك ؟ بحكم ماذا ؟ .. لا يجيبنا هنتنجتون عن ذلك إلا في كون (الهوية و الحضارة) تسبب كل ذلك لأنها تسبب ذلك .. أي أنها كذلك لأنها هي هي , و هو بذلك إن جعل (الهوية و الحضارة) محرك لتاريخنا المعاصر إن قام بدور الذي يفسر الماء بعد الجهد بالماء (!) .
((أصبح العالم مختلفا في أوائل السبعينيات و لكنه بالضرورة ليس أكثر سلاما , التغير كان حتميا .. التقدم لم يكن كذلك )) .. ما أقرب هنتنجتون في ذلك من أصحاب القول أن نظام العصر ليس برأسمالي و الرأسمالية إنتهت بإعلان رامبوييه حيث سيقت إلى مثواها الأخير _و أنا منهم_ .
و مما يلفت النظر قوله : ((قد يكون العالم في حالة فوضى و لكنه ليس دون نظام بالكلية , و صورة فوضى عارمة بلا تمييز .. تقدم لنا بعض المفاتيح لفهم العالم , من أجل ترتيب الأحداث و تقييم أهميتها و التنبوء بإتجاهات الفوضى و التمييز بين أشكالها و أسبابها المحتملة و نتائجها المختلفة , و لإستجلاء خطوط هادية تساعد صانعي السياسة الرسميين )) (3) .
قد يبدو لوهلة أن هنتنجتون يخرج على منهج التجريب إلى آخر .. ليس علمي بالضرورة بل واقعي {براجماتي} , لكن لمَّ لا نقرأ هذا ( نظام الكلية للعالم ) و نتحسس ( مفاتيح فهم العالم ) بمنهج علمي ؟ , ما دام ذلك ممكن للبراجماتيين .. فالأولى منهم أصحاب المنهج العلمي .
و أما فيما يتعلق بالعولمة , فصمويل هنتنجتون له في ذلك قوله : (( يمثل التنوع أو الإختلاف الحضاري تحديا للإعتقاد الغربي و الأمريكي بخاصة في عالمية الثقافة الغربية , فهو يعاني _أي الإعتقاد الغربي في عالمية ثقافته_ من ثلاث مشكلات : فهو إعتقاد زائف .. و لا أخلاقي .. و خطر .
فالإفتراض الغربي العام بأن التنوع الثقافي عبارة عن فضول تاريخي يتآكل بسرعة بسبب نمو ثقافة عالمية مشتركة ذات توجه غربي .. أمر غير صحيح , و الأعتقاد بأن الشعوب غير الغربية لابد لها من أن تتبنى القيم و المؤسسات و الثقافة الغربية .. إعتقاد لا أخلاقي بسبب ما يجب عمله لكي يتحقق ذلك .
الثقافة تتبع القوة , و إذا كانت المجتمعات غير الغربية سوف تتشكل مرة أخرى بواسطة الثقافة الغربية .. فإن ذلك سيكون نتيجة لتوسع و إنتشار و تأثير القوة الغربية , الإستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية للعالمية .
بالإضافة إلى أن الغرب كحضارة في حالة نضج , لم تعد لديه الدينامية الإقتصادية أو الديموغرافية المطلوبة لفرض إرادته على المجتمعات الأخرى , كما أن أي محاولة لعمل ذلك ستكون ضد القيم الغربية الخاصة بتقرير المصير و الديموقراطية )) (4) .
لتأثير جملة هنتنجتون ( الإستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية للعالمية ) إيقاع مؤثر على الوعي قبل أن تكون كذلك للآذان _يجب_ , فالعالمية لديه بمعنى العولمة .. و إن كنا نرى إنها إشكالية الترجمة في غالب الظن .
إذن فهنتنجتون يرى أن العولمة إدعاء وهمي .. و رغم وهميته فإنه خطير لأنه تغييب للذات (الغربية) عن الواقع , و لأنه يزيد من الصراع مع الآخرين .. و لأنه لتحقيقيه على أرض الواقع يستلزم :
1) اللا أخلاقية .. لأن يفترض القيام بأعمال لفرضه ذات طابع لا أخلاقي .
2) تحقيق ذلك يستلزم .. دينامية إقتصادية _لاحظ أن هنتنجتون ينكر وجودها عند الغرب بمسمى {النضج} !_ , و الديموغرافية _ و لعله قصد شيخوخة أوروبا .. لكنه ليس مستلزم حقيقي صراحة_ , و أخيرا الإيديولوجيا أو منظومة القيم _فهو يقر بأن هذا العمل ضد منظومة القيم الغربية .. و هي التي كانت من قبل تقبله_ , ( من ذلك يمكن أن نتحسس تضمينا لدى هنتنجتون بإنكار الرأسمالية بجانب إنكاره الصريح للعولمة ) .
و هو من منطلقه البراجماتي يسدي نصائحه للكيفية التي تجب أن تنتهجها دولته {الولايات المتحدة الأمريكية} : (( إن الولايات المتحدة في هذه الحقبة لا يمكنها أن تسيطر على العالم و لا أن تهرب منه .. فلا العالمية و لا الإنعزالية و لا التعددية و لا الأحادية يمكن أن تكون الأفضل لخدمة مصالحها (...) تتبنى بدلا من ذلك سياسة أطلنطية للتعاون الوثيق مع شركائها الأوروبيين )) (5) .
و في ذلك فهو يقرر ثلاث قانون تكون حاكمة للسياسة الأمريكية بشكل خاص و العالم كله لتجنب التصعيد و الحرب الكونية (6) :
قانون الإمتناع / أي أن تمتنع دول المركز عن التدخل في صراعات داخل الحضارات الأخرى , و هو أول متطلبات السلام في عالم متعدد الحضارات .. متعدد الأقطاب .
قانون الوساطة المشتركة / أي أن تتفاوض دول المركز مع بعضها الآخر لإحتواء أو إيقاف حروب خطوط التقسيم الحضاري بين دول أو جماعات داخل حضاراتها .
قانون العوامل المشتركة / أي أن تبحث شعوب جميع الحضارات عن تلك القيم و المؤسسات و الممارسات المشتركة بينهم و بين شعوب الحضارات الأخرى و أن يقوموا بتوسيعها .
هذه القوانين قوانين {عقلنة العالم قدر الإمكان} .. فبين الإمتناع عن التدخل و التفاوض للإحتواء هو يقرر البحث عن القيم المشتركة (!) , و مرة أخرى هذا القول ليس بمستغرب من أن يبدر عن تجريبي , لكنه و إن لم يتم رفضه .. مستحيل الوقوع لمثاليته .
في الختام نورد مقولة لهنتنجتون : ((على مستوى عالمي , تبدو الحضارات و كأنها تستسلم للبربرية في جوانب كثيرة , مخلفة صورة لظاهرة غير مسبوقة , و ربما تنزل على الإنسانية عصور كونية مظلمة )) (7) .
رغم أن الكتاب صدر 1992 .. و 2008 كان رحيل صاحب الكتاب , و رغم أنه قرأ التاريخ المعاصر قرآءة تجريبية _و نرى في التجريبية خداعة_ , إلا أنه أصاب جزءا من الحقيقية لا يزال عصيا على الفهم لدى كثير _منهم ماركسيين_ , و القارئ لهنتنجتون يكتشف أنه لم يكن يوالي الرأسمالية بقدر ما كان يوالي أمريكا ممثلة للحضارة الغربية , فالرأسمالية لم تكن تعنيه بل أمريكا هي التي تعني له الكثير .. و هذا واضح , لكنه يقر أن النظام إختلف منذ السبعينيات كإقتصاد _سواء في أمريكا أو العالم_ , كما أنه يختلف جذريا مع (فوكوياما نهاية التاريخ) فهو إلى جانب إنكاره لرأسمالية أمريكا و العالم _و هنا إنكاره أن النظام الإقتصادي الحالي إستمرار للنظام الإقتصادي لما قبل السبعينيات_ .. ينكر العولمة _و إن كانت في لفظ الكتاب _ , و قد كان أنقى بصيرة (بدرجة ما) في ذلك من كثر , فصحيح أنه تجريبي في ذلك إلا أن المهتمين بالعولمة لا زالوا يتعاطونها بعيدا عن الواقع التجريبي إلى الفكر التجريدي .. يضاف إلى ذلك نزعة تحررية _لا من الإيديولوجيا بل من المنهج العلمي_ , كثير هم من قرأ لهنتنجتون .. و أكثر منهم هم من هاجمه , أرجو أن تكون هذه قرآءة جديدة نقدية علمية تضع هنتنجتون في موقعه الصحيح و إن إختلفنا معه .. و ليعد من عادوه قراءته قراءة نقدية علمية .
المرجع :
صدام الحضارات , صمويل هنتنجتون , ترجمة طلعت الشايب .. تقديم د. صلاح قنصوة , دار سطور – القاهر , الطبعة الثانية 1999 , الصفحات بالترتيب : (1 : 39) , (2 : 48 و 52 و 53) , (3 : 59) , (4 : 501 – 502) , (5 : 505 ) , (6 : 512 و 518 ) , (7 : 520 ) .
#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟