|
مدرسة الفخراني الفنية
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4539 - 2014 / 8 / 10 - 14:55
المحور:
الادب والفن
قد لا يدرك البعض بشكل محدد وناصع المعنى الدقيق لكلمة " الفن " ، ودون الدخول في دائرة المفاهيم التى صكها الفلاسفة نقول ببساطة : إن الفن هو القدرة على التعبير عن فكرة ما أو موضوع معين بطريقة غير تقليدية بحيث تتحقق المتعة والإبهار.والفن بهذا المعنى لا يقتصر على الفنانين التشكيليين والكتاب والشعراء والممثلين والموسيقيين ومخرجي المسرح والسينما والراقصين والخطاطين ، وإنما قد نجده متجليا لدي لاعب كرة ماهر وعند بعض الطهاة ومصممى الأزياء بل لدى بعض النقاشين والطهاة والإسكافيين وأحيانا لدى المدرسين والحرفيين ، وأساس الفن هو الخروج على المألوف أو تحويل المألوف إلى غير المألوف ، وإعادة إنتاج القديم ليصبح جديدا تماما بما يفضى إلى المتعة وإثارة الفكر ، والفنان عادة لا يستطيع مغادرة الواقع إلا بركوب أحصنة الخيال ومن تعذر عليه امتطاؤها سقط ، ولذلك أرفض بشدة قول بورخيس: من سوء حظ العالم أنه واقعى ، ومن سوء حظه أيضا أننى بورخيس أي أن من سوء حظ العالم أنه ابتلى بذلك الفنان الكبير ومن ثم فهما مختلفان ، والحق أن حظ العالم حسن جدا لأن هناك من يماثل بورخيس كي يعيد تشكيل العالم القبيح ويضفى عليه الجمال . لا أجد غضاضة في أن أقول إن الفنان يحيى الفخرانى قد بلغ أقصى درجات النضج الفنى بعد أن عثر على ذاته العميقة والحقيقية منذ عدة سنوات مع شيكسبير في " لير " ومع الكبير يسري الجندى في " جحا " وبعد ذلك مع الكاتب البارع عبد الرحيم كمال الذي يبدو أنه التقى أيضا قرينه، وتألقا في "الشيخ همام " و"الخواجة عبد القادر" ثم في "دهشة".وقد سبق للفخراني أن قدم عشرات الأفلام والمسلسلات لعل من أفضلها سينمائيا " حب في الزنزانة "و" مبروك وبلبل" و"إعدام ميت " و " محاكمة على بابا " و "عنبر الموت " و" للحب قصة أخيرة " ومن أفضل أعماله الدرامية للتليفزيون " ليالى الحلمية " و" زيزينيا " للكبير عكاشة ، وقد بذل الفخرانى جهده الفنى في المنظومة الإبداعية المتاحة لكن معظم هذه الأعمال وغيرها كانت – في ظنى – محاولة للبحث عن النغمة الصحيحة ، فالأرواح مخلوقة لأرواح محددة لن تجد ذواتها إلا معها .. والفخراني لاعب كبير يبحث عن ملعب يتسع لقفزاته الروحية والفكرية وتأملاته اللانهائية .. والفن هو اللعبة المفضلة للأطفال وبعض المجانين والفخراني طفل ومفكر مجنون عاشق للحياة ويطمع في أن يعينه الفن على تأكيد حبه للوجود ونقل العدوى إلى المشاهدين ليتبعوه . الفخرانى إنسان بسيط للغاية ولكنه منشغل بالقضايا الكبري ويحاول أن يجيب على أسئلة الوجود كالحياة والموت والمصير ودور الدين والمال وقسوة السلطة بكل أشكالها واستبداد الفكر البطريركى " الأبوي" القامع للحريات والقاهر لأحلام أجيال لم تولد بعد. من يريد أن يدرك معنى الفن فليتأمل الفخراني وهو يؤدى دوره ببراعة لا نظير لها مستعينا بكل ملامحه الجسدية والنفسية ورموش حواجبه وعوجة أصابعه واحتقان وجهه وبريق عينيه وبمشيته الحائرة وإقدامه وإحجامه وتردده وكلماته الحالمة والمضطربة والمترددة والمتناقضة التى تضغط عليها أفكاره المجرورة خلف مشكلات الكون العاصفة بالبشر المساكين .. لقد رحب الفخرانى أن يكون ممثل العبيد البسطاء في مواجهة الأقدار التى تتأبي تجلياتها أحيانا على محاولات العقل سبر أغوارها. ولذلك أثق أنه الذي دعا كمال - وهو اكتشاف مصري جميل – كى يعمل على صياغة دراما تليفزيونية مصرية لمسرحية الملك لير تلك المسرحية الرائعة التى قامت للغرابة على أساس هش ، فكل هذا البناء البركانى ارتكز على فكرة غير إنسانية ويندر أن تحدث مع أي أب فقد حُرمت ابنة من الميراث لأنها امتنعت عن التصريح بحبها المفرط لأبيها وهكذا تبدأ التعاسة ويتزلزل كل يوم جانب من عمارة القيم ويعم الدنيا ظلام لا فجر له . استعرض كمال والفخرانى خلال الأحداث معاناة قرية - أية قرية على الأرض – من استبداد السلطة التى لا تمتلك الأجساد فقط بل والأرواح أيضا حيث نري أهل القرية بل والخفراء كائنات يضربها الحرمان ويلاحقها الخوف ، والباسل " يحيى الفخراني"سلطة مطلقة يكاد يحيى ويميت ، وفي يوم يقرر أن يوزع ثروته على بناته الثلاث ، وفي غياب شريعة عادلة يتصور أن أساس المنح هو تعبير كل بنت عن حبها له ،ومن ثم أغدقت عليه بنتان المديح له وتحفظت الثالثة فحرمها ، لكن بنتيه اللتين تمتعتا بأمواله أصبحتا مصدر تعاسته بفضل أطماع زوجيهما لتبدأ امبراطوريته في الانهيار وينتهى مجنونا في طرقات القرية التى اختار لها الكاتب اسم " دهشة " وهو ليس اسم قرية بقدر ما هو صفة لذروة الفن التي سعى إليها الفخرانى بإصرار وأمكنه بثقافته وإحساسه المرهف وعشقه للشخصية أن يحقق هذه الدهشة . وقد اجتذبت هذه الرؤية شابا موهوبا وواعدا هو ابنه شادي الذي يتوهج وتتفتح آفاقه في مدرسة أبيه إلى أن اكتمل المثلث. ولأن الكتابة أصل كل عمل درامى فقد أهدانا كمال كتابة مُعتقة ومُحلقة وعابرة للأزمان والرؤى ، وكمال مبدع لافت يعكف بروية على فكرته ويهيئ لها عالمها الإنسانى ويرسم شخصياته بذكاء ودقة بوصفها مصدر الصراع وساقية الدراما ثم يجري على ألسنتها حوارات بليغة تفيض بالقوة والحكمة ولا تعرف الثرثرة والترخص . والكاتب لابد غاص في عادات وتقاليد المصريين وحيواتهم الخصيبة واستمع طويلا للسير الشعبية وتجول في حوارى التاريخ وتفرغ لتأمل أحوال الشعب الذي تركض على جسده الخيول والكلاب حتى ترسخت في لاوعيه جبال من التجارب والعِبر ، وهكذا تشكل هذا الفريق المميز من الموهوبين وعلى رأسهم الفنان الذي صعد وحيدا نحو القمة.
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجل لا يخشي التاريخ
-
السماء تبدع الشعر أحيانا
-
غلطة عمرك يا باشا
-
رحلتى مع الكتابة
-
رمضان في عيون الغرب
-
ابتسامات ..أول ضابطة عربية
-
ماذا يريد الرئيس من الشعب ؟
-
أغبياء .. من يكرهونها
-
لماذا أكتب ؟
-
ماذا نريد من السيسي ؟
-
قلبى حمامة شقها سكين
-
هل حقا هناك احتلال إسلامي وشيك لأوروبا؟
-
هل طرد عبد الناصر اليهود من مصر ؟
-
أحزان شجرة البرقوق
-
رجال ضد الإنسانية - أبو حمزة المصري
-
الكتابة .. زوجتى الحقيقية
-
ملامح المشهد الثقافي في مصر الواقع والمأمول
-
وقائع موت معلن - لرجل عجوز جدا بجناحين عظيمين - بعد أن عاش ط
...
-
سقطة فادحة لتشومسكى أهم مثقفي العالم
-
الفكرة المدهشة والنص البديع رواية- حُسن الختام - نموذجا
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|