محمود الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 4537 - 2014 / 8 / 8 - 09:18
المحور:
الادب والفن
سؤال حائر , تراه الحروف وتستشعره , في لمس حيرته , وهمس خوفه واضطرابه , وتموجات أحاسيسه الحائرة في دروب المعني الممزوجة بالوجع الطائر في سماء الذكريات السعيدة التي تتبدي وكأنها تموجات أحلام مضطربة باحثة بإشتهاء عن محطة أمل , ومرسي أمان , وحضن أم باعد التاريخ بينها وبين إبنتها التي مازالت تري ذاتها شاخصة طفلة بريئة , وكأنها طفلة نبية , في وداعتها , ومشاغباتها اللذيذة بحضور عيني الأم الرؤوم التي لاتفارق حركات وسكنات الطفلة النبية , وهي تلعب في البيت الذي تعلوه سحابة أمن , ونسيم معبق برائحة النعناع في وقت العصاري , وأريكة يجلس عليها الأب مع حوارييه الذين يتشابهوا معه في الرؤية والتصور , وتتوحد وجهاتهم العقلية , وأهدافهم الثورية , يشربون شاي العصاري تسبح أوراق النعناع الأخضر فوق الأكواب , يتسامرون بحكايا الشهامة , والنشامي , والنخوة التي كانت ممزوجة بدمائهم , وتسري معهم أينما حلوا وارتحلوا فهي مزيج مع الروح , تتسائل الطفلة عبر تاريخية المكان , وعبق رائحته , إنها مازالت طفلة حائرة بذكرياتها السعيدة , تجتهد في إعادتها لواقعها المأزوم , الكسير بصراعاته في سبيل التحرر من اسر المكان , فتهرب إلي اسر جميل محبب للروح , تتشوقه النفس , وتتحاكي به الذاكرة المشحونة بالأحلام طامحة أن تتحول الأحلام إلي حقائق علي أرض واقع اسير ,, مازالت تتسائل :
هل تعرفني قريتي .. ياليتها تعرفني , وتعرف من أنا , ومن أمي , ومن أبي , ومن هم أشقائي , وعائلتي , وجيراني وأصدقائي , أتمني ألا تنساني قريتي , فأنا لم أنساها أبداً , فهي روحي , فكيف أنسي روحي , وهي تاريخي , فكيف بي أن أهمله , أو أركنه جنباً في حياتي ..
مازلت أيتها القرية الحبيبة أراكي في أحلامي , واشاهدك شاخصة أمامي في صحوي , واسافر إليك , سفر المحب الوله , آه .. ثم آه , ثم آه , من اللعنة التي تلازمني عبر خيالي العابر , فلا أدري في موجة التوهان , وفجيعة الوجدان , حين ذهابي للأمس , وأراكي حال المطر , وأراكي فقط قطرة ماء بين تحطم القطرات التي تزاحمت وصنعت بحراً هادراً بمياه الذكريات , ومع ذلك أراكي قطرة في هذا الخضم المتموج المضطرب , نعم أعرفك مهما كانت ضخامة الأمواج , واتساع البحر , ومهما كانت ظلمة الليل , وعصف الريح التي تريد أن تجتاح ذاكرتي , مستحيل أن أنساكي , فأنت ووجه أمي شبيهان متماثلان , فكيف أنسي وجه أمي حتي أنساك ياقريتي الحبيبة , فمازلت أذكر وجه أمي حتي في قليل من الضوء أراها ترومني بنظرة رؤوم , وتحدق بي , واذكر تفاصيل التفاصيل , وأري عيني أمي الخضراوين كالنعناع الأخضر , وهي تطعمني اللوز , وقطع السكر التي أشتهيها , فها أنا ذا , أعرفك , وأعرف ملامحك , وأعرف بيوتك بيتاً بيتاً , وشوارعك شارع شارع , حتي الحارات أعرفها , وزقاق العم يعقوب , والعم سالم , والخالة عائشة , والجد مهدي , كلهم أعرفهم , وأعرف ميسون , ووداد , ونائلة , ونبيلة , نعم أعرف إياد , ونضال , وميشيل , ورافع , كلهم أعرفهم , وأعرف ملامحهم التي هي ملامح قريتي , أتذكر أيام الحصاد , ورائحة الأرض والقمح ورائحة أزهار الليمون والبرتقال , وأزهار اللوز أعرفها زهرة زهرة , وبستان بستان , ولكن حيرتي تجعلني أتساءل : هل تعرفني قريتي !!؟
هل تعرفني قريتي؟؟
أسافر إليها، وَلَعْنَتي أنّي خيالُ عَابرٌ
في الأمسِ بَيْنَ موجة وقطرة مطر
ذاكرتي ..
ذاكرتي ووجه أمي
قليلِ من الضوءِ في تحديقِهِا بي
عيناها نعناع اخضر ،
يديها لوز وسكر
قريتي، هل تعرفني؟
يخيم السكون , وينتابني الألم , وتشع من جنباتي أوجاع ألم الذكري , وهمس شفيف الوجدان يذبحني بسكين ليس لها حد , وليس لها نصل , كم أنا حزينة موجوعة الفؤاد , مشتت المشاعر , تنتابني أحاسيس الوجل , ومشاعر الفقد , ووجداني متكسر علي عتبات الإنتظار , فلا أتسمع إلا لصوت الريح , لعله قد مر علي قريتي , وشاهدها , وشاهد أهلي وأقاربي وعائلتي , لعل هذا الريح قد مر بشوارع قريتي وحاراتها , ياليته قد مر علي بيتنا , وشاهدني في فناء الدار طفلة صغيرة لاهية عابثة بأشياء الدار , وياليته شاهد أمي , وشاهد أبي وأشقائي , هل الريح سارت علي عتبات البيوت وسمعت أحاديث أصدقائي وأقراني , هل ستخبرني الريح بما سمعت من حكي , وما سمعت من أهازيج , وأغاني , وهل شاهدت فرحاً , أم مرت علي موكب جنائزي , فلعلها جنازة أحد الأحباب , أو الأقارب والأصدقاء , ياه , كم هو كم الحسرة , والخوف والترقب والألم , كم هو صعيب الإنصات لصوت الريح , والأمر والأصعب هو الهمس للعاصفة الجارفة التي تحمل الأخبار جملة واحدة , فلا تكاد تسمع همسي حتي تخبرني بما لم أطلب سماعه , أو أتشوق لمعرفته , فأترك العاصفة هرباً منها , ومن حكاياها , وعصفها لذهني , وتشتيتها لعقلي الحائر التائه في دروب قريتي التي أتلمس ذكراها , فأهيم علي وجهي أغسل شوارع الأسر بهمسي المبحوح , كي أطمئن أسري الطغيان , وحياري الإحتلال , وموجوعي الفؤاد بالذكريات التي لاتمل من السكني في قلوب الموجوعين بفقد الأوطان , وأراني أعلق ذكرياتي علي باب الشمس لعل قريتي تشاهدها حين تشاهد الشمس , فتعرف أني لم ولن أنساها , وحيئنذ , وفي هذا التوقيت اللامكاني , الغائب عن بحبوحة الزمان وانسيابه , أغفو هنيهة في الأمس , لعل الأحلام تراودني , وتتأتي مسرعة في هذه الهنيهة , ولكن هيهات أن تكون تلك الأحلام , فهاهي صارت تعاندني , وتكايدني , وكأنها خصم لدود لي , كخصومة الإحتلال , وجبروته الطغياني , في ظلاميته وفجاجته المجرمة كنوافذ الظلام المفتوحة علي مصراعيها , والأحلام تأتي بطيئة مسرسبة يسبح معها التراب بصمت موجل طويل , ومازلت أشم رائحة المطر القادم من بعيد بعيد , لعله يغسل الحلم , ويبريء جراحاته , ويلملم أشتات الذكري المبعثرة , وهاهو الخوف يعاود الحضور حين ترقب أرض الأسر الخطي الغريبة السافرة في عري فجاجتها , وسفور وقاحتها , وأنا مازلت أترقب حضور الحلم , ولكن في نافذة الظلام المشرعة وتسائلني نفسي : هل تعرفني قريتي ؟!!
أنصت لصوت الريح
أهمس للعاصفة
أغسل الشوارع بالهمس
وأعلِّق الذكريات على باب الشمس
وأغفو في ليل الامس
نوافذ الظلام مشرعة،
والتراب يسبِّح بصمت طويل
الفجر مبلل بالمطر،
والأرض ترقب الخطوات الغريبة، وأنا وحيدة أردد
هل تعرفني قريتي
كم أنا ملتاعة شوقاً لقريتي , أراها في كل لحظة , في كل حين , أراها بالنهار فأريدها أن تعرفني فأعلق ذكرياتي علي باب الشمس نهاراً , وأعلق نفس الذكريات علي جيد القمر ليلاً , ومازالت الشكوك والظنون تنتابني كما تنتاب المهموم همومه , وتتشوق الأحزان للمحزون , فهاهي اللعنة تتحول إلي خيال عابر متوهم , وماهو بخيال عابر , فالذكري تحولت إلي مرض محبب للنفس , تتشوق له الروح وتصادقه , وتزامله مزاملة الزميل لزميله , والصديق لصديقه , بل أعلي مرتبة من ذلك , فهي إستحالت لمرض لايمكن أن يبرأ منه , إنه الوطن , الذي تراه أحياناً كبستان لوز مزهر , وحقل نعناع , ورائحة زهر الليمون والبرتقال , وأحياناً تراه في حين الأسر كزهرة الصبار بأشواكها اللئيمة الغبية الحمقاء الجاهلة التي تحول بيني وبين الوطن بفجاجتها وفظاعتها , ومع ذلك تحتال الذكري لتتحول مسار الريح إلي مسار الإخضرار برمزية النماء والخير , وتتحول الأشواك إلي زهور يانعة تسر العين وتسعد الفؤاد الملتاع علي أمل الحرية , وميعاد التحرر الموسوم علي دعوات وجه أمي المستجابة حال نظرتها لي وأنا أتدحرج في آلامي وأوجاعي وأرمقها وأنا حزينة متبتلة بهذا الدعاء المحفور في ذاكرتي , وأعيد كتابته في لوح وجداني المكسور بعد محاولات مستميتة لترميمه علي صوب دعوات أمي حين ترمقني بقليل من الضوء , ولا أنساها ولا أنسي أبي , فذاكرتي في وجه أمي وأبي , وفي وجه قريتي , التي لم ولن تنساني أو أنساها , فهي أنا , وهي أمي , وهي أبي , وهي أملي في غد أراه في عيني أمي , وأراه في زهر اللوز , فهو غد أأمله كقطعة السكر , وسيكون كذلك ..
أم لعنتي أنني خيال عابر
أعِّلق ذاكرتي على جيد القمر
وأرسم للريح مسارا أخضر
وللشوك أعلمه كيف يزهر
وجه أمي يرسم دعواته
وأنا اتدحرج في الامي
وأكتب حكايتي
بين موجة وقطرة مطر
ذاكرتي ووجه أبي
ذاكرتي ووجه امي
قليل من الضوء بتحديقها بي
عيناها نعناع أخضر
يديها لوز وسكر
**
قراءة وترجمة : محمود الزهيري , لنص من نصوص الشاعرة السورية الجولانية :أملي القضماني , تحت هذا العنوان ..
#محمود_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟