البغاء فى مصر ..نظرة تاريخية

رياض حسن محرم

الحوار المتمدن-العدد: 4536 - 2014 / 8 / 7 - 12:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

الدعارة أو ممارسة الجنس مقابل أجر هى أقدم مهنة عرفها البشر وكانت موجودة فى جميع المجتمعات القديمة قاطبة وكانت تختلط بطقوس دينية فى المعابد تحت مسمى "العهر المقدس" وتم استخدامها قبل ظهور الديانات باعتبارها وسيلة للتقرب من الآلهة وانتشر البغاء فى المعابد الفرعونية حيث كانت المرأة رمزا لزوجة الإله ووسيلة لخلاصها من الأمراض والأرواح الشريرة، ويذكرالمؤرخين أن بعض الغرف التى أكتشفت فى سقارة بإسم "غرف الإله بس" كانت مخصصة لمارسة البغاء ووجد على جدرانها رسوم تظهر اشكال الممارسة الجنسية، وقد سميت العاهرات ب"بغايا المعبد" ويعتبر البعض أن الأسماء العامية لعضوى الجنس عند الرجل والمرأة وكثير من الألفاظ الإباحية وردت الينا من قدماء المصريين، ويبدو أن استخدام اشكال من الطبيعة المحيطة للتدليل على اللغة ينتشر بين جميع الشعوب فقد إكتشفت أثناء عملى بسلطنة عمان أنهم يطلقون إسماء تشبه الرسوم على الأعضاء الجنسية حيث يطلق إسم "ن" على الثدى ( لاحظ التشابه بين حرف النون وشكل الثدى) وإسم "سنبلة" على الفرج ( قارن بين رسم السنبلة وصورة الفرج) ، كما صوّر الفراعنة إله الخصب على شكل قضيب ذكرى يسمى "مين" وعبّرت أسطورة الخلق أن الإله "رع" قد خلق العالم بالإستمناء فى يده التى حملت منه بالإلهه الأولى واعتبروا أن الإلهة "حتحور" هى المعنية بالجنس والموسيقى، لذا كان للرقص والغناء علاقة مباشرة بالجنس فى المعابد وظهرت الراقصات والعازفات شبه عاريات وبوشم ظاهرعلى أعضائهن التناسلية لصورة الإله "بس"، وذكر على صفحات البردى أن الإله آمون كان يمارس الجنس مع الملكات حيث يذكر فى إحدى البرديات ( إستيقظت الملكة عندما إستنشقت العطر الإلهى حيث سمح لها الإله آمون أن تراه فى هيأته الإلهيه الحقيقية وقام بالإقتراب منها فسرّت لفحولته وقالت له لقد إجتاحتنى قواك الإلهية وماؤك أصبح داخل أعضائى)، وهى الأسطورة التى انتقلت الى كتب مقدسة أخرى كما يقول بريستد.
لم يغيّر دخول العرب مصر فاتحين من إستمرار الدعارة ممارسة وتجارة وترك الحكام المسلمون الأمور على ماهى عليه طوال العهدين الأموى والعباسى، وبعد فتح الفاطميين لمصر إستمرت الأحوال كذلك حتى زمن الخليفة العزيز بالله عماد الدين أبو الفتح أواخر القرن السادس الهجرى حيث فرض ضريبة على دور البغاء التى سميت بالفانون "بيوت الزوانى" وسميت تلك الضريبة "الحقوق السلطانية"، وقد استمر فرض ضرائب على دورالبغاء بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدى المماليك وفى عهد العثمانيين الأتراك (وسميت بيوت الدعارة "كرخانات" وهى كلمة تركية مكونة من مقطعين "كرى" وتعنى نوم و"خانة" وتعنى نزل أو محل) وجرى أول تنظيم وتسجيل للبغايا فى مقر "الصولباشى" أو رئيس الشرطة وكان تحت إمرته أربعين شرطيا يسمون "جاويشية باب اللوق" وظيفتهم حصر ومراقبة البغايا ويساعدهم ثلاث رجال لجمع الضرائب يسمون "شيوخ العرصات"، وبعد دخول بونابرت مصرعلى رأس الحملة الفرنسية أعيد تنظيم المواخير وأدخل الرقص والغناء عليها، وبعد تنصيب محمد على باشا إذدهرت الدعارة مع توافد الأجانب الى مصر وفى عهد الخديوى إسماعيل أصدر ناظر الداخلية عام 1855 لائحة مكتب التفتيش على "النسوة العاهرات" يلزمهن بالتسجيل والترخيص وتم تجديدها مرتين فى 1896 والأخيرة فى 1905 والتى استمر العمل بها حتى الغاء الدعارة الرسمية فى 1949،اما التعديلات على لائحة 1905 فتشمل 21 مادة أهمها:
مادة (1) يعتبر بيتا للعاهرات كل محل تجتمع فيه إمرأتان أو أكثر من المتعاطيات عادة فعل الفحشاء حتى ولو كانت كل منهن ساكنة فى حجرة منفردة أو كان اجتماعهن فيه وقتيا.
مادة (2) لايمكن فتح بيوت للعاهرات الاّ فى الأخطاط التى يعينها المحافظ أو الحكمدار ولا يكون للبيت الاّ باب واحد فقط ولا يجوز اتصال بينها وبين مساكن أخرى أو دكاكين أو محلات عمومية منعا لشكوى أرباب العائلات.
وبعد ذلك تعدد المواد التالية المصرح لهم وغير المصرح لهم بافتتاح دور دعارة وشروط العقاروالرسوم المطلوبة وضرورة موافقة قنصل الدولة لرعاياه الاجانب بتصريح مثل هذه الدور والعقوبات التى توقع على المخالفين وكذلك تحديد الحد الادنى لعمر العاهرات واثبات توقيع الكشف الطبى الدورى عليهن.
مادة (21) لا يجوز لأصحاب بيوت العاهرات ترك أحدا يلعب بألعاب القمار على مختلف أنواعها مثل لعب الباكارا واللانسكنيه والواحد وثلاثين والفرعون والروليت وماكينة الخيول وما أشبه من أدوات اللعب. ( بسبب أنه توجد أماكن أخرى مخصصة لذلك.)
ويوجد فى " دار الوثائق والمحفوظات" أحد السجلات وهو دفتر تسجيل البغايا حتى اكتوبر 1890 ويحمل رقم 1189 ومكتوب على غلافه (حكمدارية بوليس مصر – دفتر يشمل أسماء العاهرات ونمرهن وعناوينهن حسب خطابات مكتب الكشف فى 26 يونيو وحتى 4 سبتمبر 1890 وعدد النسوة بمحلات المومسة المصرح بها..نزلا نزلا ..وجهة جهة)، وبمراجعة أسماء العاهرات يلاحظ أن معظمها تحتوى على لقب مميز وكأنه "ماركة مسجلة" مثل "حسنة الطرابية – زينب الفطاطرية – بهية الزايطة – فطومة الاسكندرانية – بمبة العربجية ....الخ"، وبعض الأسماء توحى بجنسيات غير مصرية مثل "شاهور شان – أنجلكة خريستو – فريدة ينى وغيرهن"، وأمام كل بغى يكتب بالاضافة الى الاسم محل السكن وتاريخ الكشف الطبى ورقم الرخصة ومكان العمل، وتوجد ملاحظات طريفة مدونة مقابل الأسماء مثل (مسافرة اسكندرية) أو (تابت وسلمت الرخصة)...الخ، ورغم أن دورالبغاء كان منتشرة بمعظم المدن الكبيرة فى مصر فقد كانت توجد بعض الأحياء التى تتركز فيها هذه الدورمثل بولاق وشارع كلوت بك بالقاهرة، ومن الطريف أننى سمعت عمالا من الصعيد يعملون فى مهنة المعمار فى سبعينات القرن الماضى يغنون أثناء العمل واستوقفنى مقطع يقول " يا رايح اسكندرية حرّص من كوم بكير" ويرد العمال "حرص من كوم بكير" وعرفت فيما بعد أن "كوم بكير" اسم حى الدعارة بالاسكندرية وقد توارث السكندريون ذلك وحتى أسماء كبار القوادات والعاهرات بالأسكندرية ما زالت فى ذاكرة البعض مثل "زينب عصفور" و"بسيمة عمران" "التى ذكرها نجيب محفوظ فى احدى رواياته" وحتى بيت ريا وسكينة كان فى الأصل بيت دعارة تعملان به وكان حسب الله هو القواد الذى يعمل معهما بمنطقة اللبان.
يذكر أنه خلال ثورة 1919 وفى غمار النضال الوطنى ضد الاحتلال الانجليزى أن العاهرات مشاركة منهن فى الثورة قد قررن الإمتناع عن مضاجعة جنود الإحتلال وكانت ظاهرة فريدة أن يمنع الفتوات والقوادين الجنود الأجانب من دخول مناطق البغاء مما إضطر سلطات الإحتلال الى إستقدام أجنبيات للترفيه عن جنودهم ( من كتاب الدكتور عبد الوهاب بكر " تاريخ العالم السرى والبغاء فى مصر")، والجدير بالذكر أن الذى لعب الدور الرئيسى فى الغاء الدعارة فى مصر ليس الأزهر أو الإخوان المسلمين ولكن نائب باب الشعرية المخضرم وشيخ البرلمانيين المصريين "سيد جلال" وكانت باب الشعرية تضم شارع "كلوت بك" الشهير بالدعارة عندما تقدم الى وزير الشئون الاجتماعية الوفدى "جلال فهيم" بطلب إحاطة حول دور البغاء وتضمن الطلب إصدار قانون بحظرها وتم إقرار المشروع بالبرلمان رغم المعارضة القوية له وذلك قبيل ثورة يوليو، كما أصدر عبد الناصر قرارا بإلغاء الدعارة فى سوريا فى حكومة الوحدة عام 1958، ويعتبر المعترضين على إلغاء البغاء أن القضاء على تلك الظاهرة لن يتم بالقوانين وحدها وذلك لأنها ستتواجد بشكل غير شرعى بعيدا عن الرقابة القانونية والطبية "البيوت السرية" مما يؤدى الى انتشار الأمراض الجنسية الخطيرة ومرض الإيدز القاتل، ولكن علينا أن نعترف أن نظرة المجتمع قد إختلفت كثيرا الآن عما كانت عليه فى زمن مضى وليس من المنطق المطالبة بمثل تلك الممارسات الآن والاّ كان ذلك نوع من الإنتحار السياسى.

#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات