|
العرب ورياح الديمقراطية الأمريكية ! 3
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1280 - 2005 / 8 / 8 - 11:13
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
من على أمتار قلائل من شارع مسمى بالألفي ، الذي هو أبو الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي ، المعروف بالألفي ، وذلك لأن الملك الصالح قد اشتراه كمملوك بألف دينار ذهبا ، ورباه سوية مع ولده . كان الألفي هذا هو سلطان مصر* وقت أن نزلها الرحالة العربي الشهير ، ابن بطوطة الذي عرفني ، على شحط المسافة الزمنية بيننا ، بمكان وجود ضريح ومسجد السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام **، من ذاك المكان استأجرت سيارة اجرة في اليوم الثاني من زيارتي للقاهرة ، وحين مررت بمسجدي : الأمام الحسين والسيد زينب عليهما السلام سألني السائق فيما كنت قد زرتهما ، فأجبته بالإيجاب ، قائلا : كانت تلك الزيارة قبل يوم . بعد دقائق معدودة من حديثنا هذا صارت السيارة في طريق فسيح ، يمتطي ظهر منبسط مرتفع من أرض بتول ، يتدفق الجمال فيها انشراحا وبهجة في قلب كل من يراها ، أخذني العجب من أنني ما كنت قد مررت بهذه البقعة الجميلة من الأرض قبلا ، رغم أن هناك طرق كثيرة في القاهرة قد أخذتني منها الى هذه الحارة أو تلك . لكن سرعان ما تبدد عجبي كله ، وذلك حين كشف لي السائق هوية هذا المكان بقوله : أمامنا جبل المقطم ! قلت له : نعم . هذا هو المكان الذي وعد الله أن يكون روضة من رياض الجنة ! مثلما كتب ابن بطوطة قبل مئات من السنين عن أثر أخرجه القرطبي ، وهو ذات المكان الذي نزله السيد الجبلاوي ، صاحب الجنة والبيت الكبير ، ذلك الرجل الذي حدثنا عنا نجيب محفوظ في روايته ، أولاد حارتنا ، الرجل الذي وضع نفسه فوق الجميع ، فإن حاز أحد من أفراد إسرته قبوله ورضاه أحله جنته ، وسلمه مفاتيح الوقف ، تلك العين المتدفقة بالمال والثراء ، وإن لم يحز ذلك صار خارج تلك الجنة ، طريدا مثل آدم ، متشردا ، يطوف في سفوح المقطم ، جائعا لا يملك من الأرض غير صخرة ، يفرغ شهوته عندها بفتاة متشردة مثله ، فتلد له مولودا سفاحا ! جبلاوي هذا الذي توالد منه الخير والشر هل هو ( الشكل الزائد ) الذي كتبه محفوظ ، وأخبرني عنه بائع كتب الرصيف في أحد شوارع القاهرة ، مثلما ذكرت ذلك في الجزء الأول من هذه المقالة ؟ وهل يكون هو من جلب غضب رجال الصحوة على محفوظ ، فكان جزاؤه سكينا تحز الرقبة منه ؟ عهدي برجال الصحوة هؤلاء أنهم ينفرون من مذهب التأويل في النصوص ، ذلك المذهب الذي حمله أتباع القرمطي من سواد الكوفة فالسلمية ثم الى سجلماسة في جنوب المغرب الأقصى ، حيث أنتشر بعدها انتشارا واسعا عند قيام الدولة الفاطمية ، تلك الدولة التي ابتنت القاهرة عاصمة لها . عهدي بهم أنهم من بنوا التكايا ، وأشادوا الزوايا بعد أن بسط صلاح الدين نفوذه على تلك الديار ، فالناس على دين ملوكها كما يقال ، ولهذا فقد تعلقوا هم بالأشعري ، والغزالي وابن تيمية ، وبمحمد بن عبد الوهاب ، ولعمري أن هؤلاء الأربعة قد أخرجوا كل باطني ، ومبدع ، وفيلسوف مسلم من ملة الإسلام ، لا لأنه كافر باعتقادهم وحسب ، وإنما لأنه يخالفهم الرأي والعقيدة ! وأنا هنا سأنقل للقاريء الكريم قطعة زمنية رسمها ابن بطوطة ، أحد قضاة الإسلام والمسلمين ، ذلك الرجل الذي يروي لنا مفتخرا بنفسه أنه كان يضاجع زوجاته الأربعة كلهن في اليوم الواحد ، هذا غير النساء الستين اللائي كان يأخذهن على قاعدة : وما ملكت أيمانكم . يرسم ابن بطوطة تلك القطعة الزمنية من ماضي القاهرة التي يريد رجال الصحوة أن نعود إليه ، وبتشجيع واضح من الأيادي الأمريكية الممتدة كإخطبوط في بلادنا شرقا وغربا فيقول : ( أما الزوايا فكثيرة ، وهم يسمونها الخوانق ، واحدتها خانقة ، والأمراء بمصر يتنافسون في بناء الزوايا ، وكل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء ، وأكثرهم الأعاجم ، وهم أهل أدب ومعرفة بطرق التصوف ، ولكل زاوية شيخ وحارس ، وترتيب أمورهم عجيب . ومن عوائدهم في الطعام ، أنه يأتي خديم الزاوية الى الفقراء صباحا فيعين لكل واحد ما يشتهيه من الطعام .... ولهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف ، ومرتب شهري من ثلاثين درهما في الشهر الى عشرين ، ولهم الحلاوة من السكر كل ليلة جمعة ، والصابون لغسل أثوابهم ، والأجرة لدخول الحمام ، والزيت للاستصباح ، وهم عزاب ، وللمتزوجين منهم زوايا على حدى ، ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس ، والمبيت بالزاوية .. ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد منهم على سجادة مختصة به ، وإذا صلوا الصبح قرؤوا سورة الفتح ، وسورة الملك ، وسورة عم ، ثم يؤتى بنسخ من القرآن العظيم ، مجزأة ، فيأخذ كل فقير جزء ، ويختمون القران .. ) أهذا هو المصير الذي يُراد لنا ؟ ألهذا الحال والزمن يريد منا رجال الصحوة أن نعود ، لا عمل لنا سوى الأكل والنوم ، والقيام والسجود في رحاب من كسل التصوف ؟ ألهذا الحال يطارد رجال الصحوة كاتبا ، مبدعا ، مثل محفوظ ، ويمنعون كتبه التي لم ينقل فيها إلا ما عاش وما رأى في مجتمع يحفل بأشرار البشر وأخيارهم مثل غيره من مجتمعات الدنيا ، يعرف الحلال والحرام والزنا ؟ وهل كان هناك عصر اسلامي خلوا من حسنات تصاحبها موبقات ؟ فلقد أطاع المسلمون القدامى ، وهم أقرب منا الى أيام الاسلام الأولى ، أبناء الزناة والزانيات من أمرائهم ، وهذا زياد ابن ابيه يقف شاهدا على ما أقول ، والحديث عن الزنا ، بعد ذلك ، ليس من صنع نجيب محفوظ ، وإنما هو حديث متصل ، صنعت أجيال ودهور ترد الى أبي البشر ، آدم عليه السلام ، مثلما يرى ذلك الشاعر الفيلسوف ، أبو العلاء المعري ، حين ينشد : إذا ما ذكرنا آدما وفعاله وتزويجه بنتيه لابنيه في الدنا وجدنا بأن الخلق أصله زنية وإن جميع الناس من عنصر الزنا ومع هذا لم نجد أحد من الأقدمين قد تصدى لأبي العلاء ، وما جرأ أحد منهم على تكفيره ، وغرس سكين في رقبته ، بل على العكس من ذلك فقد ظلت مكانة المعري معروفة في تاريخ الأدب العربي ، وقد أمتد تأثيره الى الفنون والآداب العربية والعالمية ، حيث ظهر أثر رسالة الغفران ، التي كتبها هو ، واضحا في عند ابن طفيل الأندلسي ، وفي الكوميديا الإلهية عند الفنان الايطالي الشهير ، دانتي ، كما حفظ الدكتور طه حسين له تقديرا هو أحسن تقدير ، وذلك حين كرمه بكتابه الموسوم : تعريف القدماء بأبي العلاء ، والذي جمع فيه كل ما كتبه الأقدمون عنه . ومع كل ذلك ، فإن جل ما فعله محفوظ هو أنه كتب لنا عما سمع وشاهد بأمانة ، وبسعة عقل الكاتب المتفتح ، فعلام تكون روايته : أولاد حارتنا ، مخيفة الى هذا الحد ؟ وعلام تمنع من البيع ، ويلاحق صاحبها ؟ أليس هذا مظهرا من مظاهر النفوذ الذي يريد رجال الصحوة من خلاله فرض جبروتهم وسطوتهم على الناس وتصرفاتهم ، بحجة الدفاع عن الدين وقيمه ؟ حين تسير هذه الأيام في شوارع القاهرة تحس أنت ومن دون أن يخبر أحد بالتراجع الواضح والمخيف الذي أصاب الحياة الثقافية والفكرية في مصر ، ويظهر هذا النكوص وهذا التراجع جليا ، وأنت ترى المعروض من الكتب والمجلات عند بائعتها في هذا الشارع أو ذاك ، فقد برزت بوضح كتب الفتايا ورجالها ، وكتب الدجل والشعوذة في الطب والمداواة ، وكتب هزيلة أخرى مثل : نوادر جحا على سبيل المثال ، حتى كتب التراث الجليل قد تراجع سوقها ، وبخس ثمنها دون أن تجد من يشتريها ، فقد اشتريت أنا كتاب : دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني بثلاثة جنيهات لا غير ، أي ما يعادل نصف دولار تقريبا ، هذا فضلا عن كتب الأدباء والكتاب والمفكرين المصرين الذين عرفناهم إبان نهوض حركة التحرر الوطني سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. إن جوا ثقافيا وفكريا مثل هذا الجو يجتاح هذه الأيام الوطن العربي من مشرقه الى مغربه ، على ما أظن ، وهو ، والحال هذه ، يشكل مقدمة فترة مظلمة سيكون أصحاب الزوايا والتكايا من رجال الصحوة هم فرسانها ، وذلك بعد تلقي الديمقراطية الأمريكية أعنة خيل السلطة لهم . = = = = = = = = = = = = * قرأت عند محمد حسين هيكل قوله : لم يحكم مصر رجل مصري إلا جمال عبد الناصر الذي حكمها عام 1952 م . ** اختلف محقق رحلة ابن بطوطة ، طلال حرب ، معه ، وذلك حين رد نسب السيدة نفيسة الى الفرع الحسني وليس الى الحسيني على ما ذكر ابن بطوطة ، وزاد عليه من أنها كانت زوجة اسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق ، وهي عالمة بالتفسير والحديث ، ومن تلاميذها الأمام الشافعي ، وتوفيت بالقاهرة سنة 208 ه / 824 م
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرب ورياح الديمقراطية الأمريكية ! 2
-
العرب ورياح الديمقراطية الأمريكية-1
-
علاوي وأحلام العصافير !
-
حكومات تحت ظلال سيوف الديمقراطية الأمريكية !
-
بوش الدجال بين طالبان سنة العربان وطالبان سنة إيران !
-
أوربا نحو القبول بالحصة من الغنيمة العراقية !
-
حليفكم الجبل يا مسعود !
-
العراق نحو ولاية الفقيه !
-
جنود من بطيخ !
-
ويسألونك عن الزرقاوي !
-
حكومة دونما حكم ودولة دونما حدود !
-
حرب الأحزاب الطائفية بدأت في العراق !
-
الشيعة العرب هم الخاسرون !
-
إثنتان أرعبتا صداما وواحدة أرعبت صولاغا !
-
البعثية تهمة صارت تطارد عرب العراق سنة وشيعة !
-
حلفوا بقسم مزور !
-
العراق في العهد الأمريكي !
-
مواعيد صولاغ !
-
الحكومة البتراء !
-
الموت خبط عشواء !
المزيد.....
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
-
الدفاع الروسية تعلن إسقاط 8 صواريخ باليستية أطلقتها القوات ا
...
-
-غنّوا-، ذا روك يقول لمشاهدي فيلمه الجديد
-
بوليفيا: انهيار أرضي يدمّر 40 منزلاً في لاباز بعد أشهر من ال
...
-
في استذكار الراحل العزيز خيون التميمي (أبو أحمد)
-
5 صعوبات أمام ترامب في طريقه لعقد صفقات حول البؤر الساخنة
-
قتيل وجريحان بهجوم مسيّرتين إسرائيليتين على صور في جنوب لبنا
...
-
خبير أوكراني: زيلينسكي وحلفاؤه -نجحوا- في جعل أوكرانيا ورقة
...
-
اختبار قاذف شبكة مضادة للدرونات في منطقة العملية العسكرية ال
...
-
اكتشاف إشارة غريبة حدثت قبل دقائق من أحد أقوى الانفجارات الب
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|