|
نيتشه بين الشعر والفلسفة : وحده الألم العظيم هو المحرر النهائي للعقل
فيصل قرقطي
الحوار المتمدن-العدد: 1279 - 2005 / 8 / 7 - 12:04
المحور:
الادب والفن
ما من مفكر أشد إخلاصا من فريدريك نيتشه ، إذ لم يبلغ أحد قبله ما وصل إليه وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة ، دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب ، لأنه ما كان ليرتاع من اصطدامه بالفجائع في قراراتها ، أو من انتهائه إلى لا شيء". هذا هو نيتشه كما صوره عضو المجمع العلمي الفرنسي إميل فاكيه بعد أن درسه واستعرض مؤلفاته. وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوروبا. ولو استعرضنا ما كتبه العباقرة عنه لكان الأمر مروعا. فمنهم من رآه يتخبط على غير هدىً، ومنهم من رأى في كل جملة من أقواله سورة لا تنجلي معانيها، إلا للعقل النافذ والحسَ المرهف. لكنهم أجمعوا على أنه المفكر الجبار المتجه إلى الحقيقة يطلبها وراء كل شيء، حتى وراء المبادئ، حتى وراء المبادئ التي يقول بها. وفريدريك نيتشه فيلسوف، وأديب مبدع، وشاعر. ربما هذا غريب على رجل مثله وصفه كبار فلاسفة القرن الماضي في أوروبا بأنه المتطرف حدَ الجنون، وخصوصا أن الفلسفة الألمانية "الفاشية" أنبتت على كتاباته أساسا، إلا أن ما يهمنا هنا هو زاوية الإبداع فيه، كرجل قدم العديد من المؤلفات، التي لا يمكن أن يستطيع المثقف المرور عليها، دون الوقوف ملياً على ما تطرحه وتتناوله. "العلم" المرح" ليس هو كتاب فائض عن الحاجة، أو العلم، كما يشي عنوانه، بل إنه على العكس تماما إنه كتاب يبحث في صميم الحياة، فرحا وحزنا، عذابا وسعادة، أدباً وسياسة، مجتمعا وعلماً، أصولا ومعرفة. إنه باختصار كتاب الكتب. و "العلم والمرح" هو إجادة اللعب والتحدي، "وهل نحن في الحياة إلا جلاَس مائدة كبرى للسخرية والمقامرة". إن أعظم ما ارتكب من أخطاء في الحياة هو من قول القائل: "ويل للضاحكين في هذه الدنيا" فإن من جاء بهذا الإنذار فصَر في التفتيش، فما وجد على الأرض شيء يستحق الضحك، في حين أن الأطفال يجدون ما يضحكهم. تضمن الكتاب في بدايته "هزء مكر وانتقام" وهو عدد من المقطوعات الشعرية القصيرة، والتي تشكل عدد من المقطوعات الشعرية القصيرة، والتي تشكل بمجموعها قصائد لنيتشه تمتاز بدقة بالغة في التصوير اللغوي والإيحاء الصارم لمعنىَ صارم في جديته، ومتابعته الدؤوبة لوضع القارئ داخل دائرة التجربة: نعم أعرف أصلي شره كاللهب أستهلك نفسي متوهجاً نورا يصبح ما ألمسه فحما يمسي ما أتركه مؤكد، أنا لهب. تناول نيتشه في القسم الأول من الكتاب عددا من المقطوعات الفلسفية، التي تتبنى أفكاراً فلسفية وموضوعات وشذرات حياتية، تحت عناوين فرعية (وكذلك في أقسام الكتاب الأخرى) بغية تسديد الوعي لهدف جمالي وموضوعي في الحياة. فمثلا يرى في دراسة مشكلة الصحة الاجتماعية لشعب ما، لحقبة، لجنس ما، للإنسانية، هي بانتظار مجيء فيلسوف طبيب حكيم زمانه والأزمنة. "أو الولد المختل إنما هو الضحية البريئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنساء الطامعات المضللات " " لا صلاح لأمة فقدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان من يريد أن يرى". وعن الأفكار والألم يقول، حينما لا يجد مناصا من التشخيص: "يجب علينا أن نوَلد دوما أفكارنا من صميم آلامنا، وبأمومة تنعم عليها بكل ما فينا من حياة، من حب ورغبه، من شغف، من وجع، من شعور، من مصير من حتمية أن نحيا_ وهذا يعني بالنسبة لنا: أن نغير باستمرار كل ما نحن عليه نورا ولهبا" (...) " وحدة الألم العظيم هو المحرر النهائي للعقل" وحينما يغوص نيتشه في دخائل الإنسان وفي الثوران الداخلي لهذا الكائن الحي، فإنه يلحظ فيكتب: "كلنا يحمل في داخله أغراساً وحدائق سرية، ولاختيار تشبيه آخر فنحن جميعا براكين نامية تنتظر ثورانها: أما أن نعرف ما إذا كان (هذا الثوران) قريبا أو بعيدا، فلا أحد قط يعرف ذلك". وعن الشعوب ومعيار نموها يقول: "إن معيار قدرات النمو لدى الشعوب له من الأهمية قدر ما للموسيقى" لكنه يرى في الآن نفسه "أن الشعور هو النمو الأخير والأكثر تأخرا في الحياة العضوية، وبالتالي، الأقل تكاملا، والأكثر تعرضا للعطب منها". لأن تمثل المعرفة وجعلها فطرية، ذلك ما يؤسس حتما دورا جديدا، غذ "أن الغاية الأخيرة للعلم ستكون توفير ما أمكن من المتعة للإنسان، وتجنيبه أدنى انزعاج ممكن، ومن يريد أن يتحمل عبئ المتعة لا بد عليه من أن يكون مستعدا في الآن نفسه لتحمل المقدار نفسه من عبء الانزعاج، ومن يريدأن يتعلم الابتهاج حتى السماء، يجب أن يتهيأ لكي يكون حزينا حتى الموت. وحينما يرى نيتشه الفساد مستشريا في المجتمع، فإنه يربطه مباشرة بالخرافة المتنوعة التي يعرفها بأنها: "فكر من الدرجة الثانية" والخرافي أناني جداً، ففي أزمة "الانحطاط" بالضبط تتردد المأساة على البيوت وتعم، ويولد الحب الكبير والكراهية الكبيرة في آن (...). أما في مراحل الفساد، لفإن الإهانات والتنكيل بالكلام وبالنظر، تبلغ أقصى تمثلها.. انئذ نشا الخبث والرغبة فيه، كذلك أنواع أخرى من الاغتيالات غير تلك التي تضع حداً لحياة الناس بالخنجر أو الرصاصة والغارة. أما عن الأزمنة الحاضنة فإنه يرى بأن "أزمنة الفساد هي تلك التي تسقط فيها الثمار من الشجرة، أعني الأفراد الحاملين لبذور المستقبل، المحرضين على الاستعمار الروحي، وعلى تكوين أعضاء جدد للدولة وللمجتمع. إن مصطلح "الفساد" ليس سوى واحد من مصطلحات احتقار المرحلة الخريفية لشعب ما" أما بالنسبة للإيقاع في الشعر فإنه يرى "ان الإيقاع ارغام، يولد رغبة في الخضوع لا تقاوم، في تبني الاتفاق، ليس التعقب فحسب، ولكن الروح ذاتها التي تتقفى الوزن" ويستطرد "عند الفيثاغوريين كان الشعر يبدو مذهبا فلسفيا أكثر من وسيلة فن تربوي، ولكن قبل أن يكون هناك فلاسفة بوقت طويل كنا نعترف للموسيقى بميزة تحرير الأهواء، تطهير الروح، تخفيف Ferocia animi (روح العنف) وذلك بالإيقاع الموسيقي بالضبط"، ويرى ايضا أننا "من دون افيقاع لم نكن شيئا وأن الأكثر حكمة بيننا سيصبحن مجنون الإيقاع". أما في حديثه عن النثر فإن كلامه يأخذ بعدا وشكلا آخرين، إذ يرى أننا لا نكتب نثرا جيدا إلا بالقياس إلى الشعر، لأن النثر ليس سوى حرب مستمرة مع الشكل الشعري، ولكل مفاتنه التي ترتكز على تجنب الشعر ومناقضته باستمرار، لأن كل مفهوم مجرد يريد نفسه كعفرتة مخالفة للشعر نيتشه الذي عاش حياته يردد دائما "لا يزال عليَ أن أحيا لأنه لا يزال علي أن أفكر" يتحدث بإسهاب عن ذروة الحياة، وفكرة الموت، وصداقات النجوم وهندسة محبي التأمل، ومعرفة الاهتداء إلى النهاية، والثقة في النفس ومتعة العمر، والنبرات العليا للروح، حيث كتب عن سقراط قائلا: "أعجب بشجاعة سقراط وبحكمته في كل ما كان يفعله، في كل ما كان يقوله، وفي كل ما لم يقله، هذا الشيطان وملتقط فئران أثينا الساحر والمحب الذي كان يجعل أكثر الشبان تكبراً يرتعشون وينتحبون، لم يكن فقط أحكم ثرثار وجد على الإطلاق لقد كان له عظمة بنفس القدر في الصمت". أما عن مسالة الوضوح والغموض في الكتابة كمشكلة بين الكاتب والمتلقي، نعاني منها في أيامنا هذه يقول: "حين نكتب لا نحرص فقط على أن نفهم، لكن أيضا على أللا نفهم، لو أن شخصا كائنا من كان حكم على كتاب ما بأنه غير مفهوم فليس ذلك اعتراضا كافيا عليه إطلاقا، فلربما كان هذا داخلا بين نوايا المؤلف، فهو لم يرد أن يُفهم من طرف "أي كان" كل عقل، كل ذوق رفيع يختار مستمعيه حين يريد أن يتواصل، وبذلك نفسه يرسم حدا للـ "آخرين" من هنا تنشأ كل قوانين الأسلوب المهذبة.
#فيصل_قرقطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رامبو : رحلة الشعر والشقاء / أجلست الجمال على ركبتي
-
قصيدة النثر بين رفض التسمية وضياع المصطلح
-
حركة النقد العربي : بين فقد المصطلح .. وتمجيد الرموز
-
بين الاصالة والحداثة
-
النص والأيديولوجيا
-
يسار فريد .. كيقضة حلم مؤكد
-
النص .. والبنية الابداعية
-
الخطاب الروائي محاكاة.. أم تجريب كلاسيكي؟!
-
في اللغة والتفكير
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|