أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية عبد الجواد - -حبوب العادة-















المزيد.....

-حبوب العادة-


نادية عبد الجواد
كاتبة و متفلسفة


الحوار المتمدن-العدد: 4530 - 2014 / 8 / 1 - 09:21
المحور: الادب والفن
    



أفاق مسرعا على اثر صوت الهاتف الجواَل, بعد رنين طويل و مزعج لرجل نام متأخرا و قد أنهكه الأرق. لم ينتبه راتب للرنين أولَ مرَة إلى أن اقتحم حلمه و غافله و أغفله عن الصوت الحقيقي, و قد ازداد إزعاجا.
كان ذلك الرنين البسيط بمثابة الفزاعة في حلم راتب إذ رافقها صور أناس تتدافع في زحمة محمومة و تتساقط فجأة فتختفي و يظلَ صوت الفزاعة رغم ذلك متواصلا , قويا , مخيفا.
- "ما الذي يجري ؟ " صرخ راتب و قد أفاق مذهولا لبشاعة المشهد.
يا له من حلم ... أردف قائلا , كدت أتلاشى أنا الآخر وسط الحشد و الرنين يخترقني.
نظر يمنة و يسرة و تحت الفراش قبل أن ينهض كليا لكنه لم يجد الهاتف الذي أيقظه.
-"اللعنة على هذه التكنولوجيا العجيبة. لو حافظت على هاتفي القارَ لكان ذلك أفضل"


ككلَ صباح يفيق راتب على مشكلة لا حلَ لها , لقد أكله ,منذ انتقل ليشتغل في المدينة, تيار الزمن المتسارع و جرفه سيل "العجلة" كبقيَة الناس...
"الناس قطيع سعيد هانئ" هكذا كان يقول قبل أن ينتحر وعيه على الحافَة الأخرى من الواقع.

-ما الواقع ؟ صرخ فيه أحد زملائه أيام الدراسة, حين كان راتب طالب حضارة عربية و حين كان يتجادل يوميا مع حلمي طالب الفلسفة الذي ذهب ضحيَة فكره الثوري و مواقفه المتمرَدة.
-"الواقع نخلقه يا حلمي أو نتركه يعبث بنا"
هكذا أجاب راتب منذ خمسة عشرة سنين, لكنَ اليوم شيء ما تغيَر , ربما عبث الواقع براتب و ربما خلق راتب واقعا مغايرا لما كان يحلم به أو ربما لم يعد أمر الواقع يهَم بتاتا فالأسئلة صارت آخر مشاغله بل و لعلها امَحت من باله كليَا.

كان راتب يفكَر ,قبل أن يصبح التفكير مهمَّة ممنوعة في المدينة, لقد شهد حملات التوقيف التي شنَت منذ سنوات على المفكرين و الأدباء و الفلاسفة , كانت حملات مريعة لم يتمكن أحد من الفرار منها سوى من تقنَع بقناع العامَة و ادَعى باطلا الانتماء إلى مجموعة " التماثل" , هذه المجموعة التي هيمنت على العالم و سيطرت عليه بـآليات عملت على دعمها و تقويتها تدريجيا.
لم تعد هذه المجموعة مجرَد سلطة متخارجة عن المجموعات الأخرى بل اندمجت و اتحدت بهم ثم استوعبتم و باتت منبثَة في كلَ الأمكنة إلى درجة يصعب تحديد موقعها. و يقال أنَها يمكن أن توجد في المنازل و الأحياء و الحوانيت و حتَى في جيوبنا.
وكان راتب من أولئك الذين استسلموا و فضَلَوا حياة القطيع على موت الأحرار و هاهو اليوم مسيَر لولا تلك الحبوب التي يتناولها الجميع كلَ صباح فتوهمهم بالحريَة: "حبوب العادة"

غيَر ملابسه على عجلة من أمره وغادر المنزل دون أن يتفقد جواله , لقد كان مطمئنا لأن حاسوبه الجديد يمَكنه من القيام بالاتصالات. ترشف القهوة و هو جالس في مكتبه, كانت بمرارة غير معتادة , شعر لوهلة بالدوار فاتَجه مسرعا إلى حمام قبل أن يتفطن اليه بقيَة الموظفين.
-"وظيفة ؟ هل ستصير موظفا لديهم يا راتب ؟ سأله حلمي مستاء لما آل إليه وضع صديقه , هل ستبيع نفسك من أجل حقك اللامشروط في الحياة. عجبا يا صديقي كم تغيرت..."
كان ذلك منذ سنين, قبل أن يتمَ اعتقال حلمي و تهجيره أمَا اليوم فلا يتذكر راتب شيئا من كل ذلك ,الماضي صار ضبابيا بلون الرماد , و الأفضل أن يظل كذلك.

-"ماذا يحدث لي هذا الصباح؟ أشعر بالاختناق , بالاستياء ,على غير عادتي ",قال راتب و هو ينظر الى نفسه في المرآة..."لا... لا ينبغي عليَ أن أتعجب أو أن أسأل فلو علم أحدهم أني مندهش و متسائل سيُقضى عليَ"
خرج مسرعا ليستنشق بعض الهواء فانزعج لضجيج السيارات الملوَنة و الأصوات الصاخبة التي تطلقها. كانت في تنوعها و جمالها الخارجي تنَم عن شيء واحد : قضاء الحاجة.
لا أحد ينزعج من هذه العادة و لا أحد يدهش للحركة المتكرَرة باستمرار للحياة في المدينة.
الكلَ منغمس في التفاصيل: في فاتورة الماء و عشاء الغد و حلويات العيد و مهر الزواج, الكلَ يبحث في الهنا و الآن, الكلَ لا يعيش الهنا و الآن.
فكيف لراتب أن تزعجه أصوات السيارات؟ كيف لراتب أن يدهش ؟ أن يكفر بالعادة ؟ أمر غريب و خطير قد يؤدي بحياته للتهلكة.
قرَر راتب أن يعود إلى البيت فحالته تسوء أكثر فأكثر و خاصَة أنَ الأسئلة اكتظت برأسه. امتطى سيارته و انطلق مسرعا, بدا كأنه يهذي فيتمتم و يصرخ و يفرك عينيه و يدهش لكل ما يحدث حوله كأنه يحدث لأول مرَة و الأغرب من ذلك أنَه رأى لافتات تشعَ في الطريق بعبارة "استيقظ"
لم يصدَق راتب ما رآه و حاول استفسار الأمر, نزل من السيارة و اقترب من اللافتة لكنَه كلَما ازداد قربا ازدادت اضمحلالا,و هفت لمعانها.
-"أنا أهذي" فكرَ راتب و قد استبد به الخوف.
أيكون يهذي ؟ ما هذا الحيرة التي تمكَنت منه فجأة بعد أن كان ينعم بالأمن و الطمأنينة ؟

قرَر أن يشرب كأس نبيذ علَه ينسى هذا اليوم العجيب. كان البار مكتظا و كان هناك في أحد الزوايا مجموعة من السكارى يغنون. مرَ بجانبهم راتب دون أن ينبته إليهم و طلب كأسا و جلس في مكان منعزل لكنَ سرعان ما شدَ انتباهه هتاف الجماعة " استيقظ استيقظ" كان الهتاف يعلو و يرتفع كأنَه يخترق أذنيه , امتقع لونه و ارتجف خوفا مما سمعه و طلب مزيدا من النبيذ ثمَ خرج ثملا متمايلا لا يعرف مكان سيارته بالتحديد و بينما هو يبحث عنها متمتما وجد فتاة صغيرة متسوَلة تقترب منه ثم أشارت بصوتها في أذنه " استيقظ قبل فوات الأوان, نريد مدينة للأمل و لا نحلم بأكثر منها"
تحجَر راتب و تصلَب في مكانه " مالذي أسمعه؟ و ماذا تقول هته..."
نظر إليها بعينيه الحمراوين و قال لها : وهل لنا الحق في الحلم بالأمل؟ اخشي أن يستحيل إمكان الأمل أصلا"
ابتعد عنها و صرخ وفي صوته أنين" أريد أن أستيقظ " ثم ركض في الشارع الطويل المزيَن بفوانيس زهريَة و بين السيارات الغاضبة و هو لا يرى من الطريق سوى اللافتات المشعَة التي اعترضته قبل قليل.
ظنَ راتب أنَه قد جنَ و أنَه يحلم . توقَف لحظة و اتَكأ على باب محلَ تجاريَ كتب عليه " هنا يباع الأمل"
ضحك راتب و دخل المحلَ طالبا المساعدة و فورا تمَ توفير ما يبحث عنه : الأمل في أقراص تسمَى"حبوب العادة"
شربه راتب متلَهفا و شعر في غضون دقائق بالرَاحة و عرف أنَه لم يشرب قرصه هذا الصباح.
خرج من المحلَ و استقبلته المدينة بضجيجها و اكتضاضها و الزاماتها و استقبلها بدوره بابتسامة محايدة شبيهة بابتسامات جميع الناس...



#نادية_عبد_الجواد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية عبد الجواد - -حبوب العادة-