أثار فيلم محمد بكري
"جنين جنين" ضجة كبيرة عندما وصل الى قاعات "سينماتك" القدس وتل ابيب. الفيلم الذي
نال جائزة مهرجان قرطاج للافلام الوثائقية، يصوّر احتلال الجيش الاسرائيلي لمخيم
اللاجئين جنين خلال عملية السور الواقي، وينقل الشهادات الرهيبة للسكان وصور الدمار
الهمجي الذي خلّفه الجنود الاسرائيليون.
في محاولة لمنع العرض، مارس اليمين في اسرائيل
ضغطا جبارا. وقد بلغت الامور بعضو بلدية تل ابيب، يشعياهو دروري، ان طالب من رئيس
البلدية، رون حولدائي، منع العرض وفصل مدير سينماتك تل ابيب، الون جربوز، اذا سمح
بعرض الفيلم. في رسالته كتب دروري لحولدائي: "لا يعقل ان يقوم شخص ما ذو آراء
سياسية معينة، باستغلال مكان عام لارغام سكان تل ابيب على مشاهدة فيلم سينمائي فيه
تحريض، كذب وعداء يمس بالشعب الاسرائيلي والجيش وبنسيج العلاقات الحساس بين العرب
واليهود". حسب رأي دروري يشكل الفيلم اهانة للجيش ويصوّره كجيش قتلة.
في الايام الاخيرة
تلقت ادارة السينماتك في تل ابيب اتصالات هاتفية عديدة تشجب عرض الفيلم. واثناء
العرض في 31 تشرين اول (اكتوبر) تظاهر مئة مستوطن في باحة السينماتك، ورفعوا شعارات
منددة بالسينماتك ومديره جربوز. لكن رغم الضغوطات، تقرر عرض الفيلم، واهتم جربوز ان
يقدم للعرض بالقول: "هذا الفيلم هو عن الحزن، الالم وفقدان الاعزاء، انه يكشف لنا
واقع الجانب الفلسطيني كما لم نره من قبل".
على الهجوم اليميني رد اليسار بحشد
اعداد كبيرة لمشاهدة الفيلم، فحضر العرض الاول في نهاية تشرين اول، 800 شخص في
عرضين متتاليين، وبقي عدد كبير في الخارج. وقد بلغنا من سينماتك تل ابيب ان هناك
نية لاعادة عرض الفيلم بسبب الاقبال الكبير، ولكن فقط بعد حصول الفيلم على تصريح
الرقابة.
الضرر الذي قد يلحق بنسيج العلاقات بين العرب واليهود لن يتسبب عن عرض
الفيلم، كما يخشى اليمين. ان سياسة الحكومة التي اطلقت لجنودها العنان في المناطق
المحتلة، تتضح من الصور والشهادات التي ينقلها الفيلم، والتي بدون شك تسبب الكراهية
وعدم الثقة بين الشعبين، وتجعل امكانية تجاوز هذه الكراهية في المستقبل امرا شبه
مستحيل.
رجل طاعن في السن يصف باكياً كيف نكّل به الجنود، واطلقوا الرصاص على يده ثم
على رجله". ظننت اني سأموت"، يقول، "رأيت في طريقي بيوتا مهدمة… في عام 48 ذقنا طعم
هذه المرارة، لكن لم يكن الوضع هكذا. ساعة واحدة كانت كافية للقضاء على كل ما
بنيناه". على خلفية انقاض المخيم، روى الاهالي كيف فقدوا السقف وعادوا خمسين عاما
الى الوراء للسكن في الخيام. ويحتد الاحساس بالدمار بفعل حيوية وتسلسل
المونتاج.
صورة اقرب للهمجية نقلها فلسطيني آخر عندما وصف بحرقة كيف قام الجنود باطلاق
النار على أي شيء يتحرك، من نساء واطفال وحتى مختلين عقليا. كثيرون سقطوا موتى امام
ناظريه، دون ان تكون اية امكانية لنقلهم للمستشفيات، بسبب شدة القصف. الدبابات التي
داست اجساد الاحياء، والجنود الذين جردوا المارة والجرحى من ملابسهم للتأكد من انهم
ليسوا مفخخين، كانت من المشاهد اليومية التي تعرض لها المخيم. بحرقة يقول الشاهد:
"كل شيء يمكن اصلاحه الا هذا الشعور… كيف سيكون بامكاننا العيش معهم الآن. لقد
كانوا هم الخاسرين. في قلوبنا لم يعد لنا لهم سوى الكراهية، ولا ادري كيف سينجحون
باقتلاعها؟".
يحاور المخرج بكري طفلة اصبحت الكراهية عندها حقيقة ثابتة، تقول: "سنعيش عيش
الصقور ونموت موت الاسود، على كل اسرائيلي ان يعرف هذا". فقط عندما يصل الفيلم الى
نهايته، تلين لهجتها قليلا ويصبح للكراهية عندها معنى جديد: "لقد هدموا كل احلامي
وآمالي. لقد رأيت اشياء لا استطيع الحديث عنها. حياتي بعد الآن انتهت". من اقوالها
يظهر عدم ثقة الجمهور الفلسطيني بقيادته: "لن نصالح، حتى لو فعل ذلك
قائدنا".
عدم الثقة يبدو ايضا في اقوال شاهد آخر تطرق لردود فعل العالم العربي: "قلنا
ان المظاهرات ستعم العالم العربي يوم الجمعة. ولكن يوم الجمعة مر ولم يحدث شيء،
والضغط علينا ازداد". النقمة على المجتمع الدولي يؤديها بسخرية بائع في حانوت
للاحذية، عندما يقرّب حذاء من اذنه ويتظاهر بانه يهاتف بوش وكوفي انان، ويطلب منهما
تعيين لجنة تحقيق.
بعد العرض قال بكري انه اختار ان يصنع فيلما عن الناس: "الفيلم
ليس قصيدة مديح فلسطينية. انا لا اريد ان اجعل من الناس ابطالا او وحوشا،… ليس هذا
فيلما عن المجزرة، انما عن جروح النفس البشرية التي عاشت هذه العملية. الارقام غير
مهمة، الناس هم المهمّون".
ينجح فيلم بكري بالفعل في تصوير ولو هامش معين من معاناة
الاحتلال التي يعيشها الفلسطينيون. لكن مشكلة الفيلم الرئيسية انه غير مستعد
للالتزام بكلمة سياسية واضحة. ورغم تصريح بكري على منصة السينماتك، بانه يهدف
لتحريك الجمهور الاسرائيلي للقيام بعمل ما لاسقاط حكومته، يكتفي بكري بتصوير انساني
للواقع دون كشف الحقائق السياسية التي قادت لهذه الكارثة.
التركيز على الجانب
الانساني مع تجاهل السياسي، يفسر استعانة بكري بالسلطة الفلسطينية في اخراج فيلمه،
وتوجيهه الشكر لوزير الاعلام الفلسطيني ياسر عبد ربه، رغم ان السلطة الفلسطينية
مسؤولة بشكل مباشر عن معاناة شعبها. هذا الموقف اعطى لمساعده في الاخراج، فيصل
حصيري، ان يساوي على منصة السينماتك بين الام الثكلى الفلسطينية وبين الام الثكلى
من المستوطنين الذين تظاهر مندوبوهم في نفس الوقت.
فيلم محمد بكري فيلم هام يعرض وصفا
امينا، معقدا وجذابا لواقع المجتمع الفلسطيني. انه يصور الطريق المسدود الذي وصله
الشعب الفلسطيني الذي وقع فريسة لليأس والكراهية، دون مخرج. رغم محاولته ان يكون
انسانيا اكثر منه سياسيا، الا ان الفيلم لا يخفي نقده لحالة فقدان الخيار التي
يواجهها الشعب الفلسطيني بسبب قيادته. عن هذا العجز القيادي عبّر احد الشهود في
الفيلم بقوله: "قيادة من هذا النوع يمكن ان يستبدلها اي ولد".
الصبار
تشرين ثان
2002، العدد 158