|
قالت الشجرة
عبد الكريم وشاشا
الحوار المتمدن-العدد: 1276 - 2005 / 8 / 4 - 10:39
المحور:
الادب والفن
"الشجرة التي تمشي… الشجرة التي تعد سنوات الأربعمائة يوم من خلال الأقمار التي رأتها، وقد رأت أقمارا كثيرة، مثلها مثل كل الأشجار الأخرى، وقد جاءت هرمة من بلاد الوفرة"
ميغيل آنخل أستورياس
الشجرة قالت:
السنة لا تهمني، فأنا خارج تقاويمكم المضحكة، وروزنامتكم الرتيبة. أذكر أن أكوام الحجارة التي تحاصرني الآن و لا تدعني أن أتنفس بحرية، لا زالت في أعماق الأرض. و أذكر بصفاء أن بطني تلك السنة انتفخت واتسعت. هل هو إحساس مبعثه أمطار طوفانية ملأت الآبار، وحفرت بحيرات لم تكن من قبل، وانبعثت أنهار ماتت منذ قرون عديدة. ثم جاءت الثلوج؛ طبقات حتى الأعناق. شهر بالكامل لم تخرج الناس من جحورها، إلا بعد أن ذابت الطبقات العليا من الثلج، والسفلى المتعفنة ينغل فيها دود أبيض. سنة مطيرة لا مثيل لها. لكن أخبارا عن جراد قادم انتشرت هنا وهناك،حكايات عن أعداده الهائلة، عن اعتقاله للشمس واحتجابها بفيالقه الطائرة التي عسكرت السماء، تم التهاماته المرعبة. أذكر أن ساقي ارتجف وبطني اهتز، عندما تداولت جماعة من الرحل هذه الأخبار على مقربة مني ذات ليلة. بل إن أحدهم وهو رجل أربعيني أسمر له لحية شوكية، لا يكف عن لمس بطني بحنو وعيناه الصغيرتان تبرقان كأنه مقبل على مضاجعة زوجته. الدار تجثم على بضعة أمتار قليلة مني كما هي الآن. إلا أنها كانت فتية بلونها القاني المغسول. فائضة بالحياة، الأطفال صاخبون يداعبون بأصابعهم الصغيرة بطني، يتسلقونها و أنا أكركر ضاحكة.. أين هم بعد ليلة الاصفرار واليباس..والموت… فأس دامية تشدخني طيلة هذه السنين الشوهاء، ترى أما زالوا يرسفون في قيود هذه الحياة. لا بد أنهم كبروا و أصبحوا رجالا شربوا من شمس الحياة كثيرا. صورتهم الأخيرة، لا تفارقني وهم بين أسنان أمهم. أمهم التي انقلبت إلى امرأة أخرى تلك الليلة. كان القمر أسيرا في بهمته الضبابية، إلا أنه فجأة أطل فلمعت أسنانها، كانت أسنانا قوية بيضاء. تلقفوها، لبوءة جريحة نترت أيديهم الممسكة بها، فرافقوها من بعيد وبنادقهم مصوبة نحوها. سنين طويلة وأنا أراها من النافذة، امرأة صامتة أغلب الأحيان، نظراتها تكنس شاردة على الأرض، تبحث عن شيء ما . أو أن السماء لا تعنيها. منهمكة أبدا في أعمال لا تريدها هي بنفسها أن تنتهي. عكس رجلها، رجل ضاج، يطفح منه الضحك والأشعار. نعم، كان يحكي أن أباه سافر مشيا على الأقدام إلى سوق أزيلال، كي يلتقي "مريريدة تنظامت" ويحفظ أشعارها. مثل أبيه عاشق كبير للشاعرة ومفتون أكثر بصورتها.. كان نائما، عندما أيقظه وقع أحذية كثيرة تترادف. خرج ليستطلع، فطوقوه، وقبل أن يحملوه، صاح عليهم صيحة قوية أيقظت كل من كان نائما. فانطلقت النيران.. رجفت بطني وارتطمت بالأرض. بعد كل هذه السنين، لا زالت تلك الرجفة لا تفارقني، حتى وبطني ضمرت وذابت في ساقي الأصفر، حتى وشعري تساقط كله وتدلت أطرافي يابسة، حتى وروحي سائبة مع الريح في المقابر.. يقيني أن الرجال الثلاثة، لم يكونوا نياما. مستعدون؟ مرغمون؟ مكرهون؟ قلقون؟ متعبون؟ مرهقون؟ مرعوبون؟ مطمئنون؟ مخذولون؟ مخدوعون؟….. هؤلاء. كانوا ضيوفا غير عاديين. في اليوم الأول من نزولهم، قلت هذا. لماذا. لا أعرف، إحساس مبهم. شيء ما يحيط بهم وينفثونه كالرائحة فينتشر في الهواء. أكثرهم ذلك الرجل ذو الجبهة العريضة كصخرة صقيلة، الصامت غالبا. في البداية كانوا اثني عشر رجلا حوله، تم طفقوا ينفرطون ليلا في مجموعات صغيرة، تسوق أمامها بغالا محملة بصناديق. بعد أن أتاهم رجل في منتصف الليل، رجل مستعجل كأن النار تشتعل في ثيابه. ترى أكان يحمل إليهم رسالة خطيرة. حينها تسللوا كالخائبين في كل مسالك وطرقات الجبل. أحسست بشيء ما تكسّر، بل سمعته وقد تقوّض. يمتعضونه على وجوههم الواجمة فيتأبّى على الامتعاض. شيء ما لا أفهمه بعد كل هذه السنين، هم بأنفسهم لم يفهموه. ربما يحتاجون إلى وقت طويل كي يفهموه. أما هو فقد تجمّد في مكانه ولم يغادر. استبقى معه اثنين من رفاقه فقط، فشرعوا يستعدون. قضوا ذلك اليوم، ينظفون أسلحتهم. تكلموا كثيرا كما لم يتكلموا من قبل. ماذا قالوا، تكلموا عن أمور كبيرة، صغيرة تافهة. ما همّ. ضحكوا حتى سالت دموعهم. في إحدى اللحظات تغيرت وجوههم الضاحكة. أذكر أنه كان مستندا على جدار البئر المنزلي، عندئذ بدت لي قسماته صارمة. لقد ذاب فيها حزن ثقيل كالرصاص. بينما رفيقاه المأخوذان تعلقت نظراتهما، مذهولة لا يرف لها جفن كأنها من نحاس. كان سرب من الطيور الجنوبية، يحط على أطرافي الخضراء، وسحلية تنزلق بتوءدة على ساقي اليانع… ستمر أياما طويلة وسنين عديدة وستمر من أمامي مختلف الوجوه وتخترق جوفي أصوات كثيرة.. لكن كلماته وصوته لن أنساهما أبدا .. أنا الشجرة الأطلسية، لا زالت جثة مارس القتيل تشخب في جوفي، مارس الصامت غالبا ذو الجبهة العريضة كصخرة صقيلة.. قتلوه وصلبوه وما حملوه. والله ما حملوه! قبل أن يصلبه المخازنية تلك الليلة، وقبل أن تفاجئه وتغدر به الأسلحة الفاسدة والذخيرة التلفة، أصدقاء ورفاق أثخنوه بخياناتهم العديدة وقاموا بقتله عدة مرات.. أنا الشجرة المارسية العارية من كل شيء لا زالت جثة مارس طازجة ببطني ودمه يسيح في جذوري.. وما حملوه .. شبه لهم وما حملوه..
#عبد_الكريم_وشاشا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيتها العاصمة، ياقلبا ينبض ويتجشأ الخثارة!!
-
أبي الصياد
-
الشاعرة المغربية الأمازيغية:مريريدة نايت عتيق -هاجس روائي حو
...
-
مقدمة في المساءلة والأسئلة الراهنةالعمل الجمعوي الثقافي (بال
...
-
بيان عن نهاية البطل- القبو- لدوستويفسكي
-
ورقة جنوبية
المزيد.....
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|