وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 4514 - 2014 / 7 / 16 - 21:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حداثة التلفيق والترقيع
لم تتغير سياقات المعرفة التاريخية ضمن صورتها المذكورة أعلاه ، إذ حافظت على وجودها بالرغم من سياق التبدل السلطوي بواسطة دولة القبيلة المشكلة من خلال آلية الانقلاب والعنف ، حيث ظل الحاكم الجديد يعتمد على الموروث في تبرير سياسته وسلطته ، وظل المثقف " السلطوي " يعيد إنتاج الماضي وفقا لذات التصورات والرؤى التي تديم سلطة الحاكم المستبد وتوصي " الرعية " بتحمل مظالم الحكام دون الثورة عليها أو محاولة تجاوزها ، وهذه المظالم يحاسب عليها الحكام من قبل الله فحسب دون المحاسبة عليها من قبل الناس أنفسهم ، وبالتالي هنالك التثبيت المستمر لذات المناهج والأساليب في ثلاثية "السياسة والمعرفة والمجتمع " ضمن اتجاهات ثابتة لم تتغير ، بالرغم من محاولات التحديث منذ ما سمي بعصر النهضة ، حيث استطاعت المجتمعات العربية أن تعرفها أي الحداثة عن طريق القوى الغازية والمحتلة ، ومرورا بتشكيل " الدولة القومية - الوطنية " التي اشتغلت على المعرفة الحزبية والنضالية بشكل إيديولوجي أكثر من المعرفة العلمية والإنسانية ، حيث تم " أسلمة " الغرب في النموذج الأول من خلال عبارة الإمام محمد عبده " وجدت هناك إسلاما بلا مسلمين ، بينما يحيا هنا مسلمون بلا إسلام " ومن خلال ما توصل إليه رفاعة الطهطاوي حول سر تخلفنا مرتبط بالابتعاد عن " الإسلام الصحيح " مبررا جميع مكتسبات الحداثة وقيمها المتعلقة بالحرية والمساواة والحقوق المدنية بترحيلها إلى الإسلام من حيث الأصول والمعارف ، ولا يختلف جمال الدين الأفغاني أيضا في إضافة الإسلام كشرط أساس للعلم والتقدم حيث يقول " إذ لا يمكن أن تأتي العلوم والمخترعات بالقران صريحة واضحة وهي في زمن التنزيل مجهولة من الخلق كامنة في الخفاء لم تخرج إلى حيز الوجود " (20) ، وهكذا يغيب عن نموذج النهضة جميع شروط التقدم المرتبطة بالحاضر والمستقبل على حد سواء ، تلك المعنية بالبحث والتحري والاكتشاف والتراكم المتواصل من ناحية ، وتلك المتعلقة بطبيعة الصراع الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي من ناحية أخرى ، ليضل خطاب الإصلاح معني بالاستفادة من التكنولوجيا والعلم الحديث دونما أية محاولات للاستفادة من قيم العلم المتعلقة بالثورة والقطيعة وإعادة البناء ، فالتجديد كما يقول نصر حامد أبو زيد كان " نفعيا " لا يمس الأصول والبناء ذاته بقدر ما هو معني بطلاء القديم وإعادة تكوينه بشكل دائم ومستمر (21) من خلال منهجية انتقائية تعمل على طمس الاختلافات ، فضلا عن نسيان التاريخ المنقسم على نفسه إلى فرق وتيارات مختلفة ومتعارضة مع بعضها البعض الآخر ، وخصوصا لدى الإمام محمد عبده ، الذي تراجع عن رؤيته حول مسألة " خلق القران " من اجل " تجنب الخلافات بين المذاهب الفقهية داعيا إلى التوحيد ودين السلف بعيدا عن الفرقة والافتراق " ، وهذه الدعوة سوف يستفاد كثيرا منها التيارات الأصولية السلفية التي سوف تغادر مشروع الإصلاح المعني بتقديم شروط العقل ضمن مستوى الإيمان وعدم تكفير الآخرين المخالفين في العقيدة ، لتصل إلى حدود القطع مع المجتمع والدولة بشكل عام ضمن نعوت واتهامات الجاهلية والانحراف عن الأصول الصحيحة للإسلام الأولي (22)
هناك في المقابل الوجه الثاني لنموذج النهضة ، الحداثي ، الليبرالي ، العلماني ، ذات الأشكال أو التيارات المتنوعة ، تلك التي حاولت أن تفصل بين منطق العلم ومنطق الدين من حيث الحقيقة والتطور والثبات والمستقبل ، دون العودة إلى نقد التراث والمعرفة التاريخية ، وهنا نشير إلى أصحاب النظرية التطورية الداروينية من مثل شبلي شميل وسلامة موسى وإسماعيل مظهر ، الذين لعبوا دورا كبيرا في إثراء المجادلات بينهم وبين أصحاب النظرية الإصلاحية الدينية ، حيث النزاع الشهير الذي أثاره فرح انطون بترجمته كتاب رينان " حياة يسوع " مع الإمام محمد عبده ، والذي يحسبه محمد أركون " استئناف مسرف السذاجة لثقافة يجهلون هم نشأتها التاريخية ووظيفتها الإيديولوجية " ( 23) وتلك التي حاولت أن تدرس التراث العربي الإسلامي ضمن صيغ وأساليب أدبية حديثة ، لا تخلو من النقد والفحص والجرأة وإضفاء العقلنة على ما هو خرافي وأسطوري ضمن مشروع ثقافي يؤسس من خلال مناهج التربية والتعليم ، وخصوصا مع أدباء وكتاب من طراز رفيع كطه حسين والعقاد وحسين هيكل وغيرهم، ولكنها في النهاية حملت هذه المجموعة صيغ التوفيق بين الحداثة والتراث ، الغرب والعاطفة الدينية للجماهير ، حيث التراجعات المتواصلة عن النقد والتحديث ، فضلا عن الخوف من المستقبل المجهول ، وكل ذلك لا يتحمله جيل الإصلاح والتنوير العربي وحدهم بل هنالك التقلبات المتتالية في طبيعة السياسة والسلطة وأثرها على المجتمع العربي بشكل عام من حيث زوال الحكومات المرتبطة بالغرب الاستعماري التي كانت اشد دعما وتوجيها لمشاريعهم وأفكارهم الإصلاحية والتوفيقية .
مع نموذج الدولة القومية – الوطنية سوف يتم العودة إلى الاستبداد الشرقي القديم ، متمثلا بفرض الصور الأحادية للتفكير والمعرفة ، إلغاء دور العقل في الإنتاج والإبداع من خلال انعدام الحريات المتعلقة بالصحافة والفكر والرأي ، هيمنة متواصلة للايدولوجيا الحزبية والنضالية على المعرفة العلمية ، غياب المشاريع التحديثية والنقدية للمعرفة التاريخية ، سيادة المفاهيم التوفيقية بين التراث والحداثة بشكل تلفيقي ، من خلال السعي إلى الحداثة المادية التكنولوجية دون محاولات تحديث المجتمع العربي ، وجود الأخير ضمن جماعات بشرية مندمجة في أوضاع يحكمها الفقر والجهل ، فضلا هيمنة ورقابة السلطة الحزبية لجميع الحركات والتجمعات والأفكار المغايرة لايدولوجيا " الحزب القائد " وهذا الأخير يملك وحده مفاتيح الحقيقة والمعرفة من حيث القدرة على توزيعها وإدارتها وفرضها على المجتمع بواسطة الأجهزة الإعلامية المتنوعة ، الموحدة في احتواء الجماهير بدءا بقادة وأعضاء الحزب المكلفين بنشر الفكر السياسي والحفاظ على الاستقامة الإيديولوجية ، ومرورا بأجهزة الشرطة والجيش والإعلام المهني المدرب بشكل متميز ، وكل هذه الأجهزة لم تستطع أن تحول الجماهير من الوعي الشعبي الأسطوري إلى الوعي العلمي المعرفي بسبب تأكيداتها المتواصلة على عبادة الفرد وتقديس البطل والرمز ، وكل ذلك ساهم في تثبيت الأنساق المعرفية التاريخية والأسطورية أكثر فأكثر، ونسيان ما تحقق من حداثة هامشية غير راسخة الجذور والبقاء مع ظهور الحركات الأصولية المتطرفة التي تقطع كما أسلفنا مع جميع قيم الحداثة ومكتسباتها المادية والمعنوية على حد سواء . (24)
المصادر : -
20 - برقاوي ، احمد / محاولة في قراءة عصر النهضة ( الإصلاح الديني والنزعة القومية ، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق ، الطبعة الثانية 1999 ، ص 62 .
21 - أبو زيد ، نصر حامد / النص السلطة الحقيقة ، ص 25
22 - أعراب ، مصطفى / الإسلام السياسي والحداثة / أفريقيا الشرق – المغرب ، لبنان – بيروت / الطبعة الأولى 2000 ، ص 31 ، ص 33، ص 39 ، ص 40
23 - يشير سلامة موسى في كتابة " حرية الفكر وأبطالها في التاريخ " إلى الإسلام بشكل مختصر ، حيث غياب الفنون والآداب والعلوم كالطب على وجه الخصوص ، مرجحا أسباب ذلك إلى النزعة البدوية المهيمنة على الفقهاء تارة والى الخلافة أو الدين الذي قيد المسلمين عن تحقيق التطور والانفتاح تارة أخرى . راجع كتاب " حرية الفكر وأبطالها في التاريخ / سلامة موسى للنشر والتوزيع / الطبعة الأولى 1935 ، ص 88 -89-90 . بالنسبة إلى أركون راجع كتاب " الفكر العربي / منشورات عويدات ، بيروت – باريس / الطبعة الثالثة 1985 ، ص 155-156 .
24 - لقد تم معايشة هذه الحالة في العراق وخصوصا في فترات الثمانينات حيث استخدم النظام البعثي الكثير من الأجهزة الحزبية وغير الحزبية من الأدباء والفنانين والكتاب والشعراء ضمن توليفة إعلامية واسعة النطاق تعمل على خداع الجماهير إبان الحرب العراقية الإيرانية لكسب الحماس والتأييد والإبقاء على المجتمع في حالة الغيبوبة الطويلة عن الوعي والمعرفة العلميتين .
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟