|
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 4ـ6
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1276 - 2005 / 8 / 4 - 10:47
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
حَمَدنا (لمركز الأمل السودانى) ، فى ما تقدَّم ، حملته للدفع باتجاه المصادقة على (الاتفاقيَّة الدوليَّة لمناهضة التعذيب) ، تلك الممارسة اللا إنسانيَّة المستبشعة والمذمومة فى كلِّ العقائد والثقافات بجامع الفطرة السليمة. وفى تقصِّينا لجوهر الموقف الاسلامى من (الاستبداد) و(القهر) اللذين يندرج (التعذيب) فى سياقهما توقفنا ، فى المقالة السابقة ، عند الوضعيَّة القرآنيَّة (للتكريم بالعقل والفطرة) ، أو (المسئوليَّة) المؤسَّسة على (حريَّة الاختيار) ، قبل أن ننفذ إلى الصورة المخصوصة التى وردت بشأن (التعذيب) نفسه فى هذا الخطاب. لكننا شدَّدنا على أن هذه الوضعيَّة لم تنسرب فى تاريخ (الفكر الاسلامى) بذات السلاسة التى هى عليها فى (النصِّ المقدَّس). (فالقرآن) لا ينطق بنفسه ، وفق التنبيه الثاقب لسيدنا على ، بل تنطق به ألسنة البشر الذين ليس نادراً ما يسبغون عليه من التأويل ما يخالط مصالح (دنيويَّة) بأعيانها. وفى هذا أحد أهمِّ وجوه الفارق بين (الدين) و(التديُّن) ، بين (الاسلام) وبين (تاريخ الدولة الاسلاميَّة)! لقد ظلَّ الخلاف ينشب دائماً ، فى تاريخ الفكر السياسى الاسلامى ، على تخوم العلاقة بين (إرادة الله) وإرادة (السلطان) ، وذلك فى خلفيَّة الاختلاف حول العلاقة بين (إرادة الله) و(إرادة البشر). ".. ولعل الحقبة الأمويَّة تكثف المخاضات الأولى لمفهوم الإيمان والعدل والظلم .. فى صراع مفتوح على السلطة يبحث باستمرار عن الغطاء الأيديولوجى للطاعة" (هـ. مناع ؛ "الانسان فى الثقافة الاسلاميَّة" ، "رواق عربى" ، ع/20). وفى إطار ذلك الصراع أجمع (المرجئة) ، أو ما يُعرف أحياناً (بالخطاب المفكر للحزب الأموى) ، على تأويل (آيات الوعيد) فى ما يتصل خصوصاً بظلم الحاكم ، باعتبارها تنطوى على استثناء مضمر (!) وهو ما يعدُّه مفكرون معاصرون ، بحق ، مسلكاً تبريرياً للظلم والفساد (ن. ح. أبو زيد ؛ الاتجاه العقلى فى التفسير ، ص 17). تيار (الارجاء) تأسَّس ، فى غالبه ، على نظريَّة (الجبر) لسلب الانسان نعمة (الاختيار) بردِّ ظلم الحاكم وفساده (لإرادة الله)! وربما كان بمستطاع أعجل نظر أن يرى انعكاساً بيِّناً لهذه النظريَّة فى السودان ، من خلال أطروحة د. حسن الترابى الساعية للمطابقة بين مطلوبات (النظام السياسى) ومطلوبات (الإيمان) ، من حيث وجوب (التوحيد) ، عنده ، فى كليهما ، لولا أن الله ".. يبتلى الناس .. فيشركون .. فى مجال (السياسة) كما .. فى كل مجالات الحياة .. فى العِلم وفى الاقتصاد" (خواطر فى الفقه السياسى لدولة إسلاميَّة معاصرة ، ص 6). فإذا كان معنى (الشرك) ، ببساطة ، أن يُعبدَ مع الله غيره: "إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار" (72 ؛ المائدة) ، فما هو معنى (الشرك) فى (السياسة) التى لا تعتبر (أصلاً) من (أصول الإيمان) الثلاثة التى تستوجب التوحيد: الألوهية والنبوة واليوم الآخر ، بل هى من (الفروع) التى تحتمل الاختلاف بمعايير الصواب والخطأ ، لا الإيمان والكفر (محمد عمارة ؛ الاسلام والسلطة الدينية ، ص 77)؟! غير أن تاريخ الفكر الاسلامى شهد أيضاً تياراً آخر يمثله مفكرون أحرار اشتغلوا على الاعلاء من شأن مفهوم (حريَّة الارادة الانسانيَّة) فى القرآن ، مقابل المغالاة فى تأويل (الجبر) كتبرير للظلم ، فاضحين الدوافع (السياسيَّة) الكامنة فى أساس نظريَّة (الارجاء) الملغومة! ولذلك لم يكن محض مصادفة أن يُغتال أبرز رموز هذا التيار من خلال صراعات الدولة الاسلاميَّة فى خواتيم القرن الأول ومطالع القرن الثانى الهجريَّين ، كمعبد الجهمى وغيلان الدمشقى والجعد بن درهم ، تماماً مثلما اغتيل محمود محمد طه فى السودان ، ولذات الأسباب، عام 1985م. لقد سأل سائل الحسن البصرى ، أحد أقوى أبكار المدافعين عن فكرة العدل المؤسَّس على المسئوليَّة وحريَّة الاختيار (21 ـ 110 هـ): "آخذ عطائى من بنى أميَّة أم أدعه حتى آخذه يوم القيامة"؟ فأجابه من فوره: "قم ويحك خذ عطاءك فإن القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة!" (هـ. مناع ؛ الامعان فى حقوق الانسان ـ مادة "الحسن البصرى"). وإذن فإن أنصع قراءة مفهوميَّة إسلاميَّة (للانسان) ، وبالتالى (حقوقه) ، ككائن معرفىٍّ عاقل ، قد وردت فى سياق الصراع الفكرى والسياسى حول منظومة المفاهيم القرآنيَّة (للتكريم) و(الاستخلاف) و(العقل) و(الاختيار) و(المسئوليَّة) و(العدل). (فالانسان = العاقل = الحر = المختار) لا يملك كائن من كان أن يسلبه شيئاً من هذه الخصائص أو يحط من قدرها. لقد انتبه كثير من مفكرى وكتاب (حقوق الانسان) الحداثيين إلى أن النصوص المرجعيَّة والمواقف الاخلاقيَّة فى الاسلام ، كما فى الأديان الكبرى كافة ، يُفترض أن تمثل مصدراً أساسياً للالهام بالعديد من هذه الحقوق. وأخذوا ، من ثمَّ ، على أنصار (المذهب الانسانى) بشتى تعبيراته أنهم "أهملوا المصدر الدينى .. الثرى والمهم وعميق الجذور فى الوجدان الجمعى لأغلبيَّة البشريَّة" ، وذلك ".. لمجرد وجود خلافات .. مع المؤسسات الدينيَّة المنتمية لأديان مختلفة .. (ف) تركوا الدين كليَّة لتفسيرات رجعيَّة ومحافظة ومعادية للتوسُّع فى إضفاء الكرامة على الكائن الانسانى وتأكيد استقلاليَّته وحريَّته وحقه فى المساواة" (محمد السيد سعيد؛ "قضيَّة الحوار مع الحركات ذات الاسناد الدينى" ، ضمن "رواق عربى" ، ع/9). وانتقد هؤلاء المفكرون والكتاب أيضاً ، بوجه خاص ، صائغى (الاعلان العالمى لحقوق الانسان لسنة 1948م) كونهم لم يلتفتوا ، مثلاً ، إلى حقيقة أن المادة التأسيسيَّة الأولى فيه ، والتى تنصُّ على أن (كلَّ البشر قد ولدوا أحراراً ومتساوين فى الكرامة والحقوق) ، تكاد تطابق ، مبنى ومعنى ، نص الاستنكار العُمَرى: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)؟! ، "وهو أمر يستحق التنويه والاحترام والتوثيق التاريخى وليس مجرَّد الالتفات والاهتمام" (المصدر نفسه). وعلى هذا ، فالشريعة الاسلاميَّة ، وإن عرفت نظام (الاعتراف/الاقرار) كدليل فى الاثبات ، إلا أنها ، على العكس مِمَّا يفهم الكثيرون من الداعين إليها للأسف ، سيَّجته بقدر من الأشراط، وكبحت استخداماته بقدر من القيود ، بحيث يستحيل على (الوالى) إغفالها أو تجاوزها دون أن يكون قد أغفل أو تجاوز أشراطاً فى أساس العقيدة نفسها!
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 5ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 3
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ - 2
-
التَّجَمُّعْ: هَلْ يَنسَدلُ السِّتارُ؟
-
وَسِيلَةٌ خَسِيسَةْ 1
-
مَحْجُوبٌ .. الذَّهَبِىْ!
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ3ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 2ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 1ـ2
-
جَنَازَةُ البَحْرْ!
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 2ـ2
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 1ـ2
-
الحَرَكَةْ: مِن الثَّوْرَةِ إلى .. الدَّوْلَةْ!
-
لَيْسُوا -رِجَالاً-؟!
-
اللُّغَةُ .. فِى صِرَاعِ الدَّيَكَةْ
-
للذِّكرَى .. نُعِيدُ السُّؤالْ: الحَرَكَةُ: حُكومَةٌ أَمْ ..
...
-
مِن الدَّوحَةِ إلى سَانْتِياغُو مَا لا يَحتاجُ لِزَرْقَاءِ ا
...
-
القُوَّاتُ الأَدَبِيَّةُ المُسَلَّحَةْ!
-
الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (2) إِتِّحَادُ الكُتَّا
...
-
الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (1) مَشْرُوعِيَّةُ الغَ
...
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|