|
ذاكرةُ الثّلجِ ...!!!
محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 4513 - 2014 / 7 / 15 - 08:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ربّما هي المصادفات العمياء التي اخذت بيدي ، وقادتني في مهالك ما كان لي بعدها أن أنجوَ بجلدتي ، وأصلَ برَّ الأمان لولا تميمةُ الحظ . فالدروب التي عايشتْ خطوي ، وفي أجوائها تفصّدَ العرَقُ مني حُباباً . وتناثرت كشظايا لوح زجاجي أحلامُ طفولتي والشباب --;-- لم تكن كسواها من الدروب سويةً . فقد كانت امتداداً لليلٍ غابتْ فيه نجومه ، واختفى قمره ، فالنهايات سرابٌ. شربَ ليلُ الغربةِ كل الألوان ولم يترك في سماء مدينة أدخلها أول مرّةٍ سوى لون الرماد ، وضوءاً خافت كذبالة سراجٍ . اختفتِ العلامات التي تؤشر الى نفق يفضي دونما خسائر نحو قطار السلامة لأجد مكاني فيه على احدى عرباته . كلّ أمرٍ وكلّ عمل ومحاولةٍ تبقى في إطار تجربة تتعدد الاحتمالاتُ فيها ، وفرص النجاح لا تتعدى الحدسَ والتخمينَ ، تضعُ الواحدَ منّا أمام خيارٍ واحدٍ لا غيرَ ، المجازفة ولِعب الورقة الاخيرة . كان شيئاً من مناخ القبور يشيع في تلك الاجواء وفي تلك الليلة بالذات ، وطائر الموت يحلق في سمائي ناشراً جناحيه كنسر . كانت دروبا جرى تفخيخها بانتظار الضحية ! و فمَنْ سيكون !!!. إزاءَ صورةٍ كهذه ، وحالةٍ من عدم الوضوح واللا استقرارِ ، يظلُ السعيّ صوب تحقيق الحلم ، وتطمين الامنيات مجرد هرولةٍ في المجهول ، ومسعىً في سراب . فالبدايات هي ذاتها التي تَرسم النهايات ، وهي التي تؤشر درب الحظ ، وتحدد شكل الحصاد ونوع الغلّة . فإذا انحصرت البدايات بين عثرةٍ ، وكبوةٍ ، وانكسارٍ وتشظّي آمال . وهمومٍ لا تجدُ فرحاً يزاحمها فيما احتفظت به من مساحةٍ وبها تحصنتْ . أقول مصادفات عمياء لأنها تنظر باتجاه واحد ، وصوب هدف معين يجري التركيز فيه وحوله فهي --;-- لأنها عمياء فهي تكرهُ التغيير إذن . وتبدّل النماذج . فأنا انسان تجري الاختبارات عليه ، ذلك من وجهة نظرها ، وعلى الواحد منّا أن يثبّت قدرته على التشبث في البقاء ، اذا ما اراد ذلك . تلك هي قسمة ضَيزىَ. ولكن لماذا أنا بالذات ! دون غيري ! ولماذا كلّ هذا التركيز عليّ من غير فواصل ؟ فبعد انتهاء كل ماراثون تراني أعدو فيه حتى أواخره فمن المروءة والانصاف توفرّ فرصة لألتقاط الأنفاس واستردادها . ومن ثَمَّ تهيئةُ النفسِ واقناعها بأن تستعد للقادم من جولات ...! ولكن حتى هذا الادنى لم يتحقق لي بعد . تعود علاقتي بكل هذا ، وعلى وجه الدقّة والتحديد ، منذ هُجرّ أهل فلسطين قسراً عن أراضيهم وأهلي فيهم ، فتقاذفتنا الدروب في ليل المنفى والاحزان ، جعلتني الدمعات كمنديل العرس طرياً ، لا أجرح خدّاً . ابحث في المجهول عن شيء لا أعرف سره ولا حتى شكله !!! ما هو !!!أين أجده ! ومتى ما وجدته --;-- كيف سيكون شكله ؟ فليس من باب الغرابة في شيء اذا ما تنكبت الدرب لوحدي ، دون أن أسأل معونةً مِن أحد . كان من السهل على الاخرين جدا حيث تختلف المشارب والرؤى ، أن يتخلى في نصف الدرب عني . يستوي في ذلك الاهل والمعارف والاصدقاء والزوجة والحبيبة . ربما احمل روح العناد في داخلي والمقاومة والرفض . صعب قيادي لهذا فالمسير وسط رياح الثلج بلا هدف ليلا وأنت مُكرهٌ لا بَطَراً ، وليس من وجهة أمامك تخطو صوبها أو سقف به تحتمي ، أو جدار اليه تتكئ ، يرسم موقف كهذا في ذاكرتك ملمحاً لا يُنبئ عن خيرٍ ولا يفضي الى سعادةٍ . فمن حق أي انسان في الكون أن يكون له ملجأٌ ولو كانت مغارةٌ أو خيمة أو حتى بيتاً من صفيح . ان قسوةً كهذه ، وجدت طريقها نحو قلوب من هم من دمك ومن لحمك ، كانت المقاربة لا تقبل شراكة ، إما الحياة والبقاء على الارض وذلك يقتضي الابتعاد عنك ، وحتى التنكر لأبوتك لو تَطلّبَ الأمرُ ، او الذهاب في طريق العدم واللاعودة . إن ثمة مقايضة في مثل هكذا مواقف ، تفرض بقسوةٍ ظلها . نحن أمام عدالةٍ اجتماعيةٍ عرجاءَ ومشوهةً .. نُطلق أحكامنا دون وازعٍ من ضميرٍ أو محاججةٍ في الاسباب ، ونقسو في أحكامنا حدّ اللعنة . ندين كل شيء ولا ندين الانظمةَ والحكامَ والمجتمعَ . فمن الذي دفع بالعاهرة لتكون عاهراً ؟ ومَن هو المسؤول الذي تتوجب محاكمته في حالةٍ كهذه عن جريمةٍ كتلك ؟ أليست هي القوانين ! فالعاهر هي إنسانة مرهفة الحسّ ، تمتلك كمّاً من الخلق والعاطفة وحب الخير والرغبة في مساعدة الغير . صارت عاهرة لأنها لم تجد من يأخذ بيدها لتبقى في مجال الفضيلة انسانة لم يتدنس العِرضَ منها ، من هنا فهي تتنكب لعمل الخير والفضيلة وكل ما يشدّ الى الأنسانية برباط ، ولولاها ، تلك العاهرة الشريفة التي صادفتني على حدود التشيك - المانيا بعدما اُجبرت ومعي ولدي أحمد وهو ابن العاشرة على النزول من الباص دون أي مبرر يبيح ذلك الفعل اللا انساني واللا أخلاقي وكالدمى تحرّكنا مساءً ( 16 يناير 2008 م ) تحت حراسة الشرطة الالمانية صوب بناية خصصت لهم . نزلنا بأوامر منهم الى الطابق الثالث تحت الارض ، وهناك جردونا تماماً من كل ملابسنا كما خلق الله آدم أول الأمر . وضعونا في زنزانة لوحدنا ، هكذا تُعاملُ الطفولة في دولة عضو مؤسس للاتحاد الاوروبي تنادي بحقوق الانسان وتدّعي زيفاً وباطلاً احترام الديمقراطية وحرية الافراد ... وبهذه الطريقة اللا انسانية ترمي بالاطفال وراء القضبان لتزرع في نفوسهم وهم صغار الحقدَ والكراهيةَ والمقتَ الشديدَ لكل الذين أعطوا لأنفسهم الحق في اضطهاد الاخرين تحت ذرائع وحجج واهية . فتشوا الحقيبة والملابس يدوياً وبالاجهزة الكاشفة ، وكأن كل خيط فيها وكل زرار يخفي وراءه سرّاً عصيّاً على الكشف . مرّت اثنتان وسبعون ساعة ونحن عراة تماماً ، أخلي بعدها سبيلنا مخيّرين بالذهاب الى برلين او اية جهة اخرى نريدها .. رفضت كل شيء وقررت العودة الى التشيك قاصداً العاصمة براغ ، كان آخر حافلة قد تحركت منذ وقتٍ وما علينا سوى المبيت عند الحدود ... وعلى غفلة انفتحت ابواب السماء وبدأ نزول الثلج ليس بغزارةٍ ، وانما كجبال جرى تسييرها ودفعها نحو الارض ، في ليلة صبّت السماءُ فيها كل حقدها الأرعن فنزل الثلج جبالاً وكتلاً جاوز سمكهُ النصف متر على الارض . نزلتُ وليس في ذهني مكان أتجه اليه ، فالفضاء مزروع بالثلج وليس سوى منظر الثلج وهو يكبر ويزداد حجماً، سرتُ صوبَ نقطة ضوءٍ خافتٍ تلمعُ من بعيد وسط فضاء إتّسم بكل قسوةٍ . كانت نقطةُ الضوء بعيدةً ، لم نقوَ على السير وسط الثلوج ، خاصة وأنا أسحب ولدي أحمد وأجره معي بكل قوتي ... وفجأة وجدتني أمام إمرأةٍ تَشُقُ بصعوبةٍ مثلي طريقها في الثلج . إمرأة وفي مثل هذا الليل المشبوهِ !!! فما عساها تفعل وسط هذا الركام من البلوى ؟! إمرأة ... إنسانة . عاهر . عرفت ذلك فيما بعد ، ولا أدري من اين جاءت ؟ ومن الذي دفع بها ؟ ولولاها لكانت لنا قبور في الثلج . كانت العاهرة الشريفة تتكلم معي بلغة لا افهمها وهي تساعدني في حمل ولدي صوب نقطة الضوء التي اخذت تكبر وتتسع كلما اقتربنا منها . وبعد ساعة من المسير وصلنا . هناك رأيت وجهاً انسانياً تتجسد فيه طيبة اهل الارض جميعاً . فلولاها لكانت لنا في الثلج شواهد وقبور . ليست القيمة في ما ندّعيه ، بل القيمة فيما نعمله ، ونضعه على الارض قدّام الآخرين . - محمود كلّم - بودابست
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنْجزَ ما عليه وَرحلَ
-
عندما لا يستمعُ أحدٌ لندائِكَ سِرْ بمفردِك !!!
-
هان الرحيلُ حتى تساوى به النسيانُ !!!
-
عشيرة عرب السواعد
-
الطلاق !!!!!!!
-
عشيرة عرب القليطات / الخريشات
-
عشيرة عرب الهيب / المرادات
-
عشيرة عرب الحميرات
-
عشيرة عرب السويطات
-
عشيرة عرب الطوقية
-
عشيرة عرب المواسي
-
عشيرة عرب العرامشة
-
عشيرة عرب الجنادي
-
عشيرة عرب الحجيرات
-
عشيرة عرب السمنيّة
-
مجزرة عرب المواسي
-
مجزرة عرب السمنيّة
-
عشيرة عرب الصويلات
-
لا تَخْشَ قلباً لا يعرف النسيان!!!
-
رنا بشارة -;- زيتونة فلسطين منقوعةً بالدم !!!
المزيد.....
-
تطورات الحادث الجوي في واشنطن.. طائرة ركاب اصطدمت بمروحية عس
...
-
مصادر لـCNN: اصطدام مروحية عسكرية بطائرة ركاب بالقرب من واشن
...
-
فيديو استقبال محمد بن سلمان وأداء صلاة الميت على الأمير محمد
...
-
كيف تتم عملية تبادل الرهائن في غزة؟
-
اصطدام مروحية عسكرية أمريكية بطائرة ركاب تحمل 60 شخصا بالقرب
...
-
يكثر استهلاكه في المنطقة العربية.. الحليب الحيواني الأكثر فا
...
-
إسرائيل: 11 رهينة محتجزين في غزة سيتم الإفراج عنهم هذا الأسب
...
-
تصادم طائرة ركاب مع مروحية عسكرية قرب مطار ريغان بالعاصمة ال
...
-
عاجل | رويترز: طائرة ركاب تابعة لخطوط جوية أميركية اصطدمت بط
...
-
ترامب يستعد لإعلان قرار يهم طلاب الجامعات المتعاطفين مع حماس
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|