رام الله ـ فلسطين المحتلة
عيد بأي حال عدت يا
عيد بأمر مضى أم بأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء
دونهم فليت بيني وبينك بيدا فوقها
بي
انقضت أيام رمضان بخيرها
وجدها واجتهادها، ومسحة الحزن الشفيف التي ترافق الجائع والملهوف وغريب الدار على
امتداد الأيام القصيرة التي تحمل معاني المساواة بين البشر جميعاً، وضمنهم من زعموا
أنهم مختلفون، وأن فيهم من يحق له أن يقتل الآخرين أو يصادر حقهم في الوطن أو
الاختيار أو..الخ إنه حق التميز الذي يجعل بعضاً من الناس ستحق نصيباً أكبر، لأنه
ولد شمال مدار السرطان على حد تعبير السوداني المبدع الطيب صالح.
نحن في بلادنا هذه ننتمي إلى الأصناف الأقل
جودة من "الماركات" البشرية. وجيراننا ينتسبون إلى الحضارة الأوروبية الحداثية
الراقية، وعلى الرغم من اشتراكهم معنا في السامية التي اعتبرها أرنست رينان وصمة في
جبين الإنسانية، لأن الساميين هم من حثالة الكائنات، فإنهم تمكنوا من أخذ جرعات
العلاج الضرورية ليتخلصوا من أعراض السامية والتخلف ويلتحقوا بركب الحضارة البيضاء
العملاقة في إنجازاتها الممكنة التلخيص في مثل رائع واحد على الأقل: هو اجتثاث أحد
الأجناس المتخلفة من الوجود نهائياً في طول وعرض البلد العظيم المسمى اليوم
الولايات المتحدة الأمريكية. نحن أيضاً مثل أقاربنا " الهنود الحمر " نرهق المكان
بأجسادنا الكريهة، وهم لذلك قرروا أن يحجروا علينا في " كوارانتين " جماعي شمل كافة
الأرض الفلسطينية صباح يوم العيد الذي لم نستطع إلا تمني انقضاءه بأسرع ما يكون.
تلقينا عبر الهاتف " التهاني " من كل الأحبة الذين مضت أشهر طويلة لم نرهم خلالها
على الرغم من أنهم يبتعدون عنا مسافة ساعة أو بعض ساعة لو كانت الدنيا هي الدنيا
والزمان هو الزمان. لكن هيهات هيهات، فقد تغير الزمان والمكان أيما تغير منذ أن قرر
شارون وصحبه إعادة صياغة الأسماء والمسميات واللغة ودلالات الوجود والحضور والغياب
والعدم، المطلق والنسبي الذي لا بد من إلحاقه بمفاهيم فلسطين والعروبة على هذه
الأرض.
تلقيت المكالمات وأرسلتها
فنعمة التكنولوجيا متوافرة لحسن الحظ، وما دام الاحتلال لم يقطع عنا الكهرباء
والماء والاتصالات، فإن بإمكاننا أن نتصل بكل العالم الذي يبعد عنا ربع ساعة
فصاعداً، ونخبره أننا ما زلنا على قيد الحياة، وأننا سنحضر كعك العيد رغم كل شيء،
لأننا درجنا في هذه البلاد على تحضير الكعك بالعجوة والجوز قبل وجود الدولة بكثير،
قبل وجودها بآلاف السنين. طفل صغير تخلى عن ترف العيد وجاء منذ الصباح الباكر يطرق
بابي "ليبيعني" جريدة اليوم التي تركتها جانباً وغسلت وجهي لأجدها تصافحني بكل عام
وأنتم بخير، ليس من أصدقائي ولا أقاربي. ليس من دول ولا حكومات عربية أو قريبة أو
صديقة، فالإعلان الذي زغلل بصري كان من وزارة الدفاع، وصاحب التهنئة هو الحمامة
الغنية عن كل وصف شاؤول موفاز. وبسرعة بحثت عن إعلانات أخرى لأجد أمامي تهنئات أخرى
صادرة عن مركز بيرس للسلام، وبلدية القدس على لسان رئيسها إيهود أولمرت أحد معتدلي
الليكود من أنصار شارون. ترجو النصوص الله العلي القدير أن يمن بالسعادة والبهجة
على المواطنين المسلمين في كل أرجاء البلاد، وتدعو لهم بالاطمئنان، وأن يعمهم
السلام والأمن.
هذه الدعاوى
الباطلة حكماً هي ما ذكرني ب" فارس بلا جواد " وما جره على صاحب فكرته وبطله محمد
صبحي من تهم السامية واللاسامية وما أشبه. ولعل جريمة المسلسل بعد أن شاهدنا جانباً
كبيراً منه هي أنه يكشف جزءاً وإن صغيراً من الوجه البشع لهذه الحركة الصهيونية
التي تتقن فن الدعاية المموهة والمضللة والتي تحيل الأهداف التدميرية الاستبعادية
أهدافاً تحررية وإنسانوية من الطراز الأول. وهكذا فإن من يقرأ مباركات العيد قد
يسقط فريسة الوهم أن موفاز يعمل في منظمات الإخاء الديني اليهودي _ الإسلامي _
المسيحي، وربما لن يأتي بباله على الإطلاق أنه موفاز ما غيره الذي كان وما زال من
أشد المتحمسين قولا وعملاً لاقتلاع الفلسطينيين وقتلهم بالجملة والمفرق.
وأننا في الواقع قد احتفلنا بالعيد بدفن قتلانا في كل خربة وقرية ومخيم ومدينة من
أرض فلسطين التاريخية. وأحد نماذج السلام الذي ينشره هو وجنوده، العجوز التي تجاوزت
التسعين من عمرها والتي قتلها الجنود دون سبب واضح على أحد الحواجز شمال رام
الله يوم أمس الأول.
يجب علينا
ان نلتمس العذر لهم عندما يقتلون، فقتلهم لنا هو من باب الدفاع المحض عن النفس. وقد
لاحظ جورج بوش الخبير المعروف بالقيم وحقوق الإنسان أن معاناة الفلسطينيين إنما
تنجم في الأساس عن إرهابهم بالذات. ولا بد أن مئات الأطفال والعجائز الفلسطينيين
حتى تحت السنة أو فوق التسعين هم من عتاة المجرمين الخطرين على أمن الجندي
الإسرائيلي الأعزل والمسالم. وإن من يرغب في قول عكس ذلك بدليل أو دون دليل إنما
يتحامل على السامية _ التي تعني بالطبع اليهود فقط فالفلسطيني ليس سامياً كما ترى
دعايات حكماء صهيون الأموات منهم والأحياء_ وهكذا وقع " فارس بلا جواد" في المحظور
عندما مس وإن بشكل خفيف موضوعة الحركة الصهيونية ودورها في خلق ونشر أكاذيب لا أساس
واقعي لها. والحقيقة أننا بعد مشاهدة الجانب الأعظم من المسلسل لم نجد فيه ما يغضب
إلى ذلك الحد. وليس " فارس بلا جواد " في حاجة فيما لو أراد إلى العودة إلى كتاب "
البروتوكولات "، فالممارسة الفعلية للحركة الصهيونية قبل الدولة وبعدها هي خير
تعبير عن العنصرية الاستبعادية التي لا تتورع عن فعل أي شيء لتحقيق أطماعها بما في
ذلك وضع نفسها في خدمة المشروع الاستعماري العالمي وتغيير الولاء لمصلحة الطرف
الأقوى في النظام الاستعماري العالمي. وليس سراً أن ذلك لم يقتصر على بدايات هيرتسل
ووايزمان وجابوتنسكي، وبن غوريون المخضرم، بل يمتد ليشمل مرحلة الدولة التي حافظت
على عدائها للمنطقة العربية وأبنائها، وولائها للغرب الأوروبي والأمريكي. وعلى
الرغم من ادعائها السامية والانتساب تاريخياً لهذه المنطقة، فإنها في الواقع قد
اشتركت في العدوان الثلاثي على مصر الناصرية، وضربت مشاريع المياه العربية في
الستينات، ثم اعتدت على مصر وسوريا وبقية فلسطين سنة 67. وعلى الرغم من الجهود
المبكرة لعبد الناصر لإقناعهم بالاندماج في المنطقة والتوقف عن لعب دور المخلب في
يد الاستعمار الغربي، إلا أنه لم ينجح، وقد بقيت أصوات قليلة _مثل شاريت مطلع
الخمسينات_ غير مسموعة أمام السيل الجارف من أنصار تكرار التجربة الأوروبية مع
الأرض الأمريكية التي أبيد سكانها عن بكرة أبيهم. ولم تغير الدولة في السبعينات
والثمانينات ولا بعد أسلو من نفسها شيئا. والحقيقة أنها، على العكس، تمارس اليوم
العدوان السافر والمتغطرس والذي يهدد بتكريس الاحتلال إلى الأبد وسرقة كل ما تبقى
من فلسطين شيئا فشيئاً _ ولا نعرف في الحقيقة على وجه اليقين ما الذي يريده هؤلاء
القوم _. لا نقول ذلك اعتماداً على البروتوكولات التي غضبوا جميعاً لأن " فارس بلا
جواد " يذكر القارئ بها، وإنما نقوله اعتماداً على الممارسات الواقعية التي تثير
الرعب والفزع أكثر بمائة مرة مما تفعله "البروتوكولات".
صحيح أن المسلسل يلمح باقتدار إلى العديد من
النوايا الصهيونية التي اصبح منها ما هو حاضر بالفعل على تعبير مقدمته، ولكن حبذا
لو أن المسلسل قد نجح بطريقته الهادئة الجميلة، والبعيدة بدرجة كبيرة عن الحشو
والانفعال والمبالغة في التصنع _ وإن كان تجاوز الافتعال نهائياً في الأعمال الفنية
التاريخية التي تنتجها الشاشات العربية يبدو متعذراً حتى اللحظة_ نقول حبذا لو أنه
قد وظف الممارسات الصهيونية على الأرض حاضراً وماضياً، فهي تغني الموضوع وتعمقه،
وإن كانت ستجر على مبدعيه غضباً أكبر لدى مختلف الدوائر الاستعمارية، ومن غزل
بمغزلها ولبس من نسيجها.