|
الأهوار وموسيقى سمكة الشبوط..
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 4506 - 2014 / 7 / 8 - 08:21
المحور:
الادب والفن
الأهوار وموسيقى سمكة الشبوط.. نعيم عبد مهلهل
(( الشبوط المقدس ، كان في الأصل طائرا نبيلا...لكنه كان متغطرسا في أنحناءته للشمس ويؤديها على مضض ، فعاقبته الآلهة الشمس ليكون سمكة في عمق الماء ، ولكنها ابقت غروره في نفسه ، فصارت كل سمكة شبوط تتسلق الشلال تتحول تنيناً ))
أسطورة يابانية قديمة..!
تذكرت هذه الاسطورة وانا في مساء باريسي أزور معرضا للفن الياباني التشكيلي ، حين تأملت طويلا لوحة الفنان لواتانابي شيكو (1683-1755)، التي كانت بعنوان سمكة شبوط تسبح عكس الشلال . وقارنتها بمتعة قديمة لي من هذا الكائن الذي يعتقده اليابانيون خرافيا عندما قرأت عنه في اول كتاب مترجم عن الاساطير اليابانية في العراق وكان بعنوان ( اليابان بلاد الأطياف ). هذه اللوحة سرحت بي في خيال الذكريات ، وعادت بي الى طفولة ذلك المكان البعيد ، تلك الامكنة التي تغمرً شهواتها في الماء وغابات القصب والسمك الذي ينطً من باطن الماء ليهرب من شبكة أبي الذي يمارس متعة الصيد بزورقهِ الصغير، بعد أن يوصل جواميسه الى مكان قيلولتها ، ليجلب لنا غموس اليوم اسماكاً تشويها امي على حطب القصب اليابس او المطال الذي هو روث الجواميس مخلوطا بالتبن بعد أن يجفف تحت الشمس. أتذكر لذة شواء السمك في الشتاء ، الدفء الآتي من الجمر الذي يمنح اقدامنا العارية متعة تشبه امانينا في ارتداء الاحذية ، عندما كنا نراها في اقدام المعلم ورجال الشرطة وبعض الذين يزورون القرى لمرة واحدة في العام من اجل حقنا بأبر مؤلمة ومخيفة عرفت عندما كبرت انها للتطعيم ضد الكلوريا واخرى ضد البلهارزيا ، وكان أغلب الاولاد يهربون عند سماعهم خبر مجيء الفرق الجوالة يغيبون في غابات القصب الكثيفة بصحبة الجواميس ولا يعودون إلا بعد مغادرة الفرقة الجوالة اما الصبيات فيتعالى بكائن وذعرهن وهن يستسلمن لوجع الابرة وبوم بطوله لتحمل ألم الحمى الذي يصاحب عملية التطعيم. ومن بين الاسماك التي يصيدها أبي كان سمك الشبوك ، وهو السمكة الوحيدة الذي يحمل اسطورته معه ، عندما كانت أمي وسائر أهل الاهوار يعتقدون أن شرب اللبن اثناء تناول الشبوط المشوي يسبب ظهور ( البقع ) على الجلد ونسميه في العامية الجنوبية ( البهاك ).وكنت اتحدى تحذير أمي وأشرب اللبن عندما تشوي شبوطا لنا ، فلا اصاب بأي بهاك ، ولكن عندما تعلم امي أني شربت اللبن تتعصب كثيرا وترفع ثوبي لترى ظهري وبطني وتقول :الحمد لله ، ربما اللبن لم يكن رائبا بشكل جيد . أبقى الشبوط شكله الغريب واسطورته في قلبي ، وكنت ايام الحرب عندما تمنع الاجازات عن الجنود حين تشتعل الجبهات ، ونصابُ بالملل من الدجاج البرازيلي كل يوم ، واللحوم النحيفة التي ساد الأعتقاد بين الجنود انها لحوم كنغر . كنت أحن الى أمي وسمكها المشوي ، وأكثر ما اشتهيه هو سمك الشبوط ، فأتخيل رشاقته داخل الماء ، وحين يقترب من الضفاف بنحافته وموسيقى سباحته وسيره داخل الماء ، وكان يبدو بكبرياء غير تلك الحركة المسكينة الاخرى لأنواع السمك الاخرى. وفي الحرب اكتشفت ايضا أن طعم السمك يختلف من بيئة الى اخرى ، ففي المياه العذبة يكون طعم السمك باهتا مثل نشارة الخشب ، فيما يكون سمك المياه الاهوار المالحة طيبا ولذيذا ، وقد جربت هذا حين اقام لنا احد الجنود من سكنة مدينة التون كوبري الواقعة على نهر الزاب وليمة وكان عبارة عن سمكتي شبوط كبيريتين ، عندما عادت وحدتنا لتعيد تنظيمها يوم تضررت كثيرا في معارك حوض بنجوين وفقدت ثلاثة ارباع مراتبها ، فلم أستسيخ طعم الشبوط رغم لهفتي وشهيتي اليه بعد فراق دام لأكثر من ستين يوما. صورة سمكة الشبوط ، هي صورة المكان ، ومن بعض جماليته المفقودة في الدفاتر القديمة وشخابيط الصفوف الابتدائية ، فأتذكر الآن وانا اضع خيال التمني في تلك الايام ، عندما اجلس على نهر الراين ، وحيدا مع نظرتي وقد مرَ من هذا المكان قبل لحظات الروائي الالماني الشهير ( غونتر غراس ) بغليونه ومشيته الكهلة ونظرته العميقة ، وتمنيت أن اتناول الشبوط مع البصل لحظة متعة قراءة قصته الجميلة ( قبو البصل ) فأتذكر طعمه عندما نتاوله مع البصل والخبز الحار ، وتحذيرات امي بعدم شرب اللبن ، وكانت تخبئ قدر اللبن يوم يكون غدائنا سمكة شبوط مشوية. دائما كنا ناكله مشوياً ، فقط عندما ذهبت الى المدينة شاهدت اقاربنا يطبخوه مع صلصة الطمامة .ولكنه لن يكون لذيذا كما هو مشويا ، وعندما اشتهيه في ايام المهجر ،لم يكن متوفراً ضمن اسماك نهر الراين ، والسمك الحي أغلبه من اسماك الكارب ، ولكني اجد الشبوط مجمدا في السوبرماركت واغلبه مستوردا من اليابان ، وايضا اكتشفت هنا في أوربا أن الشبوط من بعض أسماك الزينة التي يحب الالمان اقتناءها وبألوان متعددة. غمرتني سعادة مبتسمة بشهية ذكريات قريتنا المسماة ( عُرف الديك ) لأن مساءها احمرا دوما في لحظة الغروب ، ويقال إن هذا بسبب الذهب المغمور في التلال القديمة التي يسكنها الجن ، وأن هذه الكنوز لن يقترب اي بشر ، وإن اقترب تذبحهُ الجن من الوريد الى الوريد. ووحدها قريتنا من بين كل قرى الكون من يصيح فيها الديك بصوته الموسيقي في لحظة احمرار السماء مساءً ، فسمُيتْ عرف الديك . سعادتي حين وجدت الشبوط صغيرا داخل اقفاص اسماك الزينة ، وقارنت نظرات عينيه المطرزة بنظرات بذلك الشبوط الفضي الذي كان يعيش في مياه الاهوار وربما انقرض الان. واظن أنه انقرض بسبب لعنة التجفيف والاصرار على تغيير البيئة وموجوداتها الازلية فلم يعد يغوص في مرح الطفولي في المياه الخضراء لذلك الاديم السرمدي حيث الفة الطير المهاجر وتكاثر السمك في مواسم الربيع ، وكنتُ اعتقد في صباي إن الشبوط يأتي مهاجرا من الامكنة البعيدة كما تأتي الطيور الاخرى ( البط ، الكراكي ، السنونو ، الحذاف ، دجاج الماء ) قادمة من سيبريا وكندا والمدن الاسكندنافية والبلطيق. أتأمل نظرة الشبوط السحرية وموسيقى سباحته الرشيقة داخل احواض الزجاج. تمضي معه أحاسيس الحزن والأسى على المكان الذي لم يبقْ منه سوى اطلال قرى الطين والقصب المهجورة. صدى غناء أبي وهو يقود زورقه في عمق الهور باحثاً عن اسماك الشبوط وهو يدرك شهيتي اليها كما شهيتي لقوام أنثى في أول لجوئي الى هذه البلاد عندما ذكرني نعاسها وايقاع مشيتها بالشبوط وهو يعوم هادئا ومطمئنا تحت ضوء القمر. لأن المعدان ناموا من تعب النهار الطويل .ولن يجد شبكة في انتظاره لتصيده........!
زولنكن 7 تموز 2015
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امرأة تكتب واللذة جنتها.....!
-
مونليزا المعدان......!
-
يوسف ( ع ) ، آية في الثكنة وليل الأهوار.....!
-
شيء من التصوف المندائي....!
-
النبي موسى ( ع ) ومعدان أهوار سيناء.!
-
أحلام ليل الفخاتي ....!
-
الاميرة السومرية الرسامة ( بتول آبي الفكيكي )
-
كالكسي ( 5 ) وآي فون( 5 ) وصريفة* .......!
-
أساطير الجفجير.....!
-
السنونو هذا الطائر الشيوعي .....!
-
طيري ياطياره طيري ...!
-
المِعدان يعشقونَ أيطاليا وصوفيا لورين...........!
-
( الموت بالخازوق فقراً ومنفى )
-
داعش لاتشبه مراكش ..ولا تشبه العش ..
-
فاجينتي مالا.. اللون الأحمر والعنبر ..!
-
الناصرية.. شهيدٌ من دير متي والزقورة وبطن الحوت..!
-
خوذة الله وخوذة العباس.وخوذة الجندي المنكسر ..!
-
الناصرية تبكي من أجل نينوى ..!
-
ملاكٌ على شكل قصيدةٍ ونهدْ.......!
-
النشيد التأريخي لمعدان باريس
المزيد.....
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|