|
كنت في شرم الشيخ
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1274 - 2005 / 8 / 2 - 07:47
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
استيقظت في السادسة صباحا ، ونظرت إلي شاشة جهاز المحمول ، فوجدت علامة الرسالة ، فتحتها ، كانت من أختي تقول فيها : " شادي بخير ، لا تقلق . طارق أيضا " . لم أفهم ماذا تقصد ؟ . في السابعة استمعت إلي نشرة الأخبار وعلمت بما جرى من تفجيرات في شرم الشيخ . شادي ابن أختي ، وأخي طارق ، يعملان في السياحة هناك . لكن ماذا حدث ؟ وكيف ؟ . اتصلت بأخي فقال لي بصوت مذهول : كان مشهدا مرعبا ، كنت واقفا غير بعيد عن مقهى ليالي الحلمية ، وشاهدت كيف تطايرت في الجو أشلاء أصدقائي ، وأياديهم ، وهياكل السيارات الحديدية ، وجذوع الأشجار التي اقتلعها الانفجار . اختلط في الهواء عاليا كل شئ ، في لحظة نارية مدوية . قبل أيام قليلة من التفجيرات كنت في الشرم بدعوة من أخي . ولم تكن تلك زيارتي الأولى لها . زرتها منذ عدة أعوام موفدا صحفيا من جريدة الاتحاد الإماراتية لتغطية مؤتمر شارك فيه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين حول الإرهاب ! وشاهدت الرئيس الروسي للمرة الأولى عن قرب في قاعة المؤتمر الصحفي وهو يتحدث بلسان ورأس ثقيلين مخمورين عن السلام . وكانت طائرة عسكرية قد نقلتنا من القاهرة إلي الشرم ، وعادت بنا عصر اليوم نفسه ، فلم أتمكن حينذاك من إلقاء نظرة على المدينة الصغيرة . المرة الثانية كانت منذ عامين، وقضيت هناك أسبوعا كاملا . وأحسست بنفسي غريبا في مدينة تفوح كل نسمة من أجوائها برائحة وسلطة الأوراق النقدية ، وزجاجات البيرة ، والعطور النسائية . مدينة صغيرة ، مثل نقطة متوهجة في الصحراء ، يشربون الماء فيها من زجاجات مغلقة ، ويتحركون داخل سيارات مكيفة ، ويدفعون لقاء فنجان القهوة خمسة دولارات . كانت المدينة مقسومة نصفين : الأول تلك الفنادق والقرى السياحية المنشأة على أعلى مستوى عالمي على امتداد شاطئ البحر ، وشارع شهير باسم " خليج نعمة " تمتد على جانبيه المقاهي الفاخرة . والنصف الثاني : حي متهالك يسمى " السوق القديمة " للفقراء ، والعمال ، والموظفين ومرشدي السياحة المصريين من الشباب الذين نزحوا إلي ذلك الصهد حلما بتكوين ثروة صغيرة تمكنهم من شراء شقة فالزواج . وكنا نتردد كل مساء على السوق القديمة، نجلس في مقاهيها الرخيصة ، ونلتقي بالأصدقاء المصريين ، ونرى أقدام العمال الصعايدة المشققة ، ونسمع سعالهم وهم يدخنون النرجيلة في صبر وصمت . نشتري العيش البلدي من الفرن الوحيد في الشرم الذي يخبزه . في السوق القديمة يمكنك أن تتصل بأهلك في القاهرة بأسعار رخيصة ، وتشتري الصحف من كشك واحد يبيعها في المدينة كلها ، والأهم من كل ذلك أن المصريين في ذلك الحي القديم كانوا في تجوالهم وقعودهم يشبهون نغمة ضائعة في الصحراء تبحث دون وعي عن الوتر الذي أطلقها من بعيد ، من القاهرة ، أو المنصورة ، أو غيرها ، نغمة مغتربة تحن لوترها ، وتلتصق بأنغام مشابهة في الجو ، لعلها معا تعزف اللحن الأصلي . وكنت في المساء أرجع في سيارة بعض الأصدقاء إلي مسكن أخي ، فأرى على الطريق عاملا واقفا بجلباب يشير بيديه للسيارات فلا يتوقف أحد ليقله . وفي الصباح أرى أولئك العمال وهم يشجرون الصحراء داخل القرى السياحية في درجة حرارة تزيد عن الخمسين ، بصبر من أجل خبزهم . فأفكر في قسوة هذه المدينة ، المكيفة ، الحارة ، الثرية ، الفقيرة . الفنادق والقرى المبنية على امتداد الشاطئ عالم آخر . أُثرياء ممدون على كراسي البحر الطويلة المفرودة ، يأكلون أفضل أنواع الأسماك ، ويحظون بأحسن أنواع الابتسام ، والانحناء ، وإلي جوارهم نساء شبه عاريات ، يضحكن للشمس والبحر . هناك كثيرا ما ترى نساء تجاوزت الواحدة منهن الخمسين ، وبجوارها شاب في العشرين ، تنفق المرأة عليه ، ويمنحها كل ما لديه : شبابه ، أو ترى كهلا في الستين يتمشى على الشاطئ بجوار شابة في الثامنة عشرة . كل ما تريده ستجده شرط أن تكون محفظتك ممتلئة بالأوراق النقدية . هذه الأوراق الميتة تشتري كل شئ حي : النبات ، وموج البحر المتلاطم ، ولون السماء ، والحب . لم أشعر بكره للأموال قدر شعوري بذلك في شرم الشيخ . ومع ذلك كنت أفكر : فلتكن ثمة نقطة عامرة بالحياة في جنوب سيناء ، أية حياة ، لا يهم ، المهم أن يرسخ دوليا أن تلك أرضنا . ولكني لم أكن أشعر أن تلك " أرضنا " ، كنت أحس فقط أنني هبطت إلي بقعة معزولة عن مصر . المرة الأخيرة التي زرت فيها الشرم ، كانت قبل التفجيرات بأسبوع واحد . كان الجو حارا إلي درجة لا تطاق ، فلم أكن أغادر المسكن إلا لأركب سيارة مكيفة متجها بها إلي البحر ، أو أخرج بعد الثامنة مساء . وكانت المدينة تبدو ساكنة نسبيا ، ولا شئ من قريب أو بعيد يوحي بتلك التفجيرات . الشباب من المرشدين يحدثونك عن أنهم دفعوا مقدم شراء شقة ، أو أنهم جمعوا مبلغا للتقدم وخطوبة فتاة ، أو أنهم يخططون لشراء محل في شرم الشيخ وتحويله إلي دكان حلاقة ، أو مطعم . كان ثمة سحابة مستمرة من الأحلام ، كالدخان ، أو الوهم ، تعلو من أحاديث الجميع وتحوم فوق رؤوسهم كأنها هالة من السعادة الصغيرة . يتحدثون كثيرا ، ويعملون كثيرا مع السياح ، ويذهبون ويعودون بلا توقف من المطار ، وفي المساء يتسلون بلعب الورق في مسكن واحد منهم . ماذا حدث ؟ كيف حدث ؟ . التفجيرات ضربت فندق " غزالة جاردن " فلم يبق فيه حجر على حجر . كم كان عدد السياح النائمين بداخله ؟ . عادة الفنادق في الشرم تقع على البحر ، ولكن عليك أن تقطع ممرا طويلا قبل أن تصل إلي بوابتها ، أما فندق " غزالة جاردن " فكان هدفا سهلا ، لأنه يقع مباشرة على الشارع . التفجيرات ضربت أيضا شارع " خليج نعمة " السياحي ، الذي تمتد المقاهي على جانبيه ، ولا تعبره السيارات . ثم ضربت كذلك " مقهى ليالي الحلمية " الذي لا يجلس فيه سوى العمال المصريين الفقراء ، والشباب النازحون من أجل بقايا الدولارات التي يلقيها السياح بكرم كأنها فتات خبز . هذا الفتات يصنع حياة كاملة عندنا . كرر أخي في الهاتف مذهولا : " كان مشهدا مرعبا . سلمت على أصدقائي في مقهى ليالي الحلمية ، وودعتهم ، وابتعدت عنهم قليلا ، واستدرت أنظر إلي هناك لسبب ما ، وفجأة رأيت أشلاءهم ، والمناضد التي كنا نجلس حولها ، وأجزاء من السيارات المركونة قرب المقهى ، والأشجار، تتطاير في الهواء في جحيم دوى ملء الأفق . ما هذا ؟ ما الذي جرى ؟ " . كانت شرم الشيخ معروفة بأنها " مكان آمن للغاية " ، ويسهل التحكم في كل شبر بداخله . ولهذا اختارها الرؤساء لعقد المؤتمرات الدولية . فكيف تم ذلك ؟ وكيف لم تنتبه القيادات الأمنية قبل التفجيرات بأسبوع لتحذير إحدى الصحف الإسرائيلية لمواطنيها من التواجد في الشرم ؟ . لقد تبنى العملية المجرمة تنظيم يدعي " مجاهدي مصر " ، ولو أن هذا التنظيم هو المسئول حقا عن هذه العملية ، فما هو " الجهاد " فيما جرى ؟ وضد من ينشط أولئك " المجاهدون ؟ " وهل يمكن لأحد أن يدعي أن قتل المصريين والأجانب هو الرد على مجازر الإسرائيليين والأمريكيين ؟ وأن ضرب الاقتصاد المصري المنهك " جهاد " ؟ . أم أن إعلان ذلك التنظيم عن مسئوليته لمجرد صرف الأنظار عن المجرمين الحقيقيين الآخرين ؟ . تأتي تلك المذبحة استمرارا لمذبحة الأقصر الشهيرة في 17 نوفمبر 1997 التي روعت مصر في حينه وبلغ تنكيل المجرمين فيها بجثث السياح مبلغا لم تعرفه مجازر أخرى من قبل . وعلى أية حال فإن الفاعل الحقيقي وراء جريمة شرم الشيخ مازال مجهولا ، رغم الحديث عن مشاركة بعض مواطني باكستان ، ومن ثم ليس أمامنا – مؤقتا – سوى محاولة فهم ظروف الجريمة ، ودواعي ذلك الإرهاب . والفهم لا يبرر شيئا في كل الأحوال ، لكنه ضروري . في هذا السياق تسترعى الانتباه التصريحات التي أدلى بها " كين ليفنجستون " عمدة لندن الشهير ب " كين الأحمر " . وهو يساري من حزب العمال ، فصله الحزب لتعاطفه مع القضايا العربية ، وخاصة قضية فلسطين . و " كين الأحمر " هو الذي عارض في حينه الغزو الإسرائيلي للبنان ، وندد بمذابح صبرا وشاتيلا ، وتمكن من إقناع حزب العمال البريطاني عام 1982 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ، ثم دعا أكثر من مرة إلي ضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية " متكاملة وليست مجزأة كما تريدها إسرائيل " ، وهو الذي اتهم إسرائيل بممارسة " التطهير العرقي " بحق الفلسطينيين ، وهاجم شارون ، ووصفه بأنه " مجرم حرب ، وأن مكانه الحقيقي هو السجن ، وليس الجلوس في غرفة مكتبه " ، كما شارك " العمدة الأحمر " في كل مظاهرات الشعب البريطاني ضد الحرب على العراق ، وضد سياسات جورج بوش وطوني بلير ، مصرحا بان إسرائيل هي التي تمتلك أسلحة دمار شامل وليس العراق ، ثم هاجم مؤخرا الرئيس بوش ووصفه بأنه " أكبر خطر على وجه الأرض بسياسته التي ستقودنا إلي الدمار الشامل " وطالب بمحاكمة بوش باعتباره مجرم حرب . العمدة الأحمر ، صرح عقب تفجيرات لندن بأن " سياسات الحكومات الغربية تتحمل جزءا من المسئولية عما حدث " . وأضاف : " إنني لا أدين فقط الانتحاريين الذين نفذوا هجمات لندن ، بل أندد أيضا بالحكومات التي ترتكب المجازر بشكل عشوائي .. ولو أننا نفذنا ما وعدنا به العرب ، أي أن نتركهم أحرارا ولا نتدخل في شئونهم لما ظهرت هذه المشاكل الآن " . لقد رأى العمدة الأحمر جذور الإرهاب : السياسة الأمريكية ، البريطانية ، الإسرائيلية التي أشاعت العنف في المنطقة والعالم باعتباره المنطق الوحيد للتعامل ، لا حوار ، ولا ديمقراطية ، ولا تفاهم ، ولا حتى أنصاف حلول . فقط المدافع ، ومعتقلات جوانتانامو ، وأبو غريب ، والتنكيل بالنساء ، وهدم البيوت ، وتجريف الأراضي ، وبناء الأسوار . فهل نستغرب إذا نما الجنون والخسة على فروع تلك الشجرة من الإرهاب المنظم ؟ . قال لي أخي : " لقد عم السكون مدينة شرم الشيخ . سكون واجم . وتشهد المدينة ما يشبه حالة الإجلاء العام . طائرات تهبط فقط لترتفع بمواطنيها عائدة بهم سريعا إلي بلدانهم . الفنادق خالية ، والمقاهي ، والأعمال توقفت ، ولم يبق سوى الصمت ، وخلال يومين فقط خلا تماما فندق " سونيستا بيتش " الضخم ، ولم تعد يسمع في أرجائه سوى وقع خطوات الراحلين . وعاد ستون ألف سائح إيطالي إلي بلدهم . أما العمال المصريون ، الفقراء ، والمرشدون ، فإنهم يجتمعون دون أن يتبادلوا الأحاديث ، يدخنون النرجيلة بصمت ، ويحنون كالنغمات الضائعة إلي الأوتار التي أطلقتها بعيدا .
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هذه الرواية - نادي القتال
-
الفساد جملة واحدة مستمرة
-
الليبراليون العرب .. من يخدعون ؟
-
أدباء مصريون من أجل التغيير .. موقف أم وجود ؟
-
الرقابة والثقافة في مصر
-
مسيحيون من أجل القرآن
-
حديقة - قصة قصيرة
-
المستشار محمد بك نور .. الذي برأ طه حسين
-
أيام واحات صنع الله إبراهيم
-
التمويل الأجنبي عمالة صريحة
-
جذور للكتابـة
-
المادة 76 في حياة مصر الثقافية
-
معرض القاهرة والكتب
-
طول لسان رياض النوايسة
-
في وداع كاتب شريف
-
كلمة سحرية تتحدى الزمن
-
-- قصة قصيرة - بط أبيض صغير
-
من تثقيف العسكر .. إلي عسكرة المثقف
-
كعك أمريكي لسكان الفالوجة
-
ياسر عرفات .. تغريبة أخيرة
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|