وقائع الدخول إلى وزارة الثقافة من أبواب
خدم!!
حين
أتأمل أحوال المثقفين في بلادي ، خاصة هؤلاء المنبطحون ، الزاحفون علي بطونهم
سعيا نحو الساسة ، يعلنون ولاءهم لأولياء نعمتهم ، يدافعون عنهم - بغير حق غالبا -
بغية الحصول علي الرضا التام ، ومزيد من الغنائم والهبات، وهم - في سبيل هذا
– يمارسون كافة الأساليب الانتهازية لتحقيق ما يريدون !! انهم يتجردون من فضيلة
الجسارة التي هي سمة من سمات المثقف الحقيقي ، المؤمن بقدراته وإمكاناته ، ويركنون
إلى الخوف الذي هو سمة من سمات المثقف الانتهازي الذي يعلم أنه لا يملك شيئا يستطيع
الدفاع عنه ، ولا يملك الموهبة التي تعصمه من الوقوع في دائرة الاشتباه !
هؤلاء يدخلون الحياة الثقافية من أبواب الخدم
!!
أبواب الخدم التي رفض (بتهوفن ) " 1770- 1827الدخول منها ،
حين دعاه أحد البارونات الألمان ليعزف بعض المقطوعات الموسيقية لأستاذه ( هيدن)
الذي رشحه للقيام بهذه المهمة ، وكان النبلاء والبارونات في تلك الفترة ، ينظرون
الي الموسيقيين والفنانين باعتبارهم - وبلغتنا – عوالم !! ومن ثم لا ينبغي لهم
الدخول من أبواب السادة ! لكن ( بتهوفن ) رفض طلب الحارس ، و أصر علي الدخول من
الباب الواسع .. وفي القاعة عزف مقطوعة موسيقية من تأليفه هو ، وليس من تأليف
أستاذه ( هايدن ) كما كان مقررا . فعل هذا - برغم صغر سنه وحداثة تجربته وعدم معرفة
الناس له- احتراما للفنان المثقف في داخله ، احتراما لنفسه ، ولم يتجرد من فضيلة
الجسارة ، ولم يفكر في النتائج والتبعات التي يمكن أن يجرها عليه موقفه ، فكر
كانسان مثقف ، مستقل ، علي الآخرين أن يتقبلوه هكذا لما يريد هو ، لا كما يريدون .
هذا السلوك يقوي ويدعم الحياة الثقافية ، كما قويت بالمثقفين في عصر النهضة – القرن
الثامن عشر – ونري الحياة الثقافية في مصر الآن ضعفت وهزلت ، وما كان لها أن تضعف
ويصيبها الهزال والمرض ، لو أن المثقفين وقفوا وقفة جادة ، من أجل النهوض بها من
عثرتها ، لو أنهم قد تخلوا عن اللهاث والسعي للدخول إلى حظيرة وزارة الثقافة
.
ماذا فعل البارون مع (بتهوفن ) حين عرف موقفه ؟؟ قابله ، وأثني عليه ،
وقام من مكانه ، وصافحه قائلا : أحترم فيك كل هذا .. وأرجو أن تقبل صداقتي
!!
هذه الحكاية الواقعية الطريفة تكشف ، أن المثقف الملتزم ، المؤمن بدوره
، وفكره وعقله ، هو القادر علي إجبار الساسة والحكام علي احترامه والسعي إليه .
عليهم - جميعا - أن يندفعوا إلى ساحته ، لا أن يندفع هو إلى ساحتهم
.
الالتفاف حول الكعكة المسمومة ..
أثناء اندلاع الأزمة التي عرفت
باسم ( أزمة الروايات الثلاث) – يناير 2001والتي كان من نتائجها قيام وزير الثقافة
بإقالة رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة ، وتنحية وابعاد بعض المثقفين العاملين
بإدارة النشر - وكنت واحدا من الذين شملهم قرار الإبعاد وما زلت- اندهشت
لموقف الوزير الذي تغير فجأة ، فبعد وقوفه في خندق المثقفين الذين ساندوه عقب
أزمة رواية( وليمة لأعشاب البحر )- 2000- دفاعا عن نفس القضية التي طرحت
نفسها من جديد : قضية حرية الرأي والتعبير ، اندهشت لوقوفه في خندق خصوم الأمس ،
وبررت أن موقفه جاء لاعتبارات وظيفية .. سياسية .. أمنية .. إلى آخر ما يمكن
لك أن تذكره من مبررات ، ربما تكون حقيقية ، وربما لا تكون كذلك . لكن ما
أدهشني حقيقة ، هو موقف أمين عام المجلس الأعلى للثقافة- سأتناوله بعد قليل-
، وعدد من المثقفين الذين تطوعوا وانبروا يدافعون – مغالطة – عن الموقف الغامض
للوزير !! واخلاصهم في الدفاع وحماسهم في الهجوم علي الفئة التي نادت بضرورة إفساح
المجال أمام الكاتب للتعبير الحر ،جعلني أتابع مواقفهم غير الواضحة تجاه
قضايانا القومية ، وأتعجب لأنهم لم يشيروا- من قريب أو من بعيد -إليها في كتاباتهم
!
فكروا في تلك اللحظة الشيطانية في شيء واحد ، وهو الحصول علي المنح والعطايا
لأن كل شيء بمقابل !! وبالفعل تم توزيع الكعكة المسمومة عليه ، وأخذ كل واحد
منهم نصيبه منها : أصبح هذا مشرفا عاما علي المشروع القومي للترجمة ،وأصبح ذاك
رئيسا لتحرير مجلة أدبية أنشئت خصيصا لسيادته - بمقر متميز- في حين أن مجلة
(الثقافة الجديدة) التي شرفت بإدارة تحريرها لأكثر من عشر سنوات لم تتوقف فيها شهرا
واحدا ، كانت بلا مقر ، وبلا جهاز مالي أو أداري يتابع أعمالها ، وكل ما كانت تملكه
المجلة دولاب خشبي صغير، في غرفة صغيرة ، أو بالأحرى فرندة إدارة النشر بالهيئة
العامة لقصور الثقافة .وأسندت إلى آخر مهمة رئاسة تحرير هذه المجلة بعد الاتفاق علي
تغيير لائحتها ، والبحث عن مقر لائق !! وهكذا تتوالى العطايا والهبات للذين لا
يقولون (لا) ! وأقل هذه الهبات : التي حصل عليها المدافعون : رئاسة تحرير سلسلة
أدبية ، من السلاسل التي تصدرها هيئات الوزارة ، أو الحصول علي منح تفرغ ، لا
يستحقونها ، لأنهم - أصلا - علي المعاش ولا يعملون شيئا
..
هؤلاء المنبطحون يأكلون علي كل الموائد : السفر إلى الخارج – منح التفرغ
– لجان المجلس الأعلى للثقافة – الجوائز- المكافآت .. كتب مكتبة الأسرة كل عام ..
الخ ..كلهم معروفون بالاسم ،والحياة الثقافية تعرفهم ، ولا تجهل
أفعالهم .. هم - غالبا -لا يملكون الموهبة التي تساعدهم علي الدخول من الأبواب
الواسعة ، ففضلوا الدخول من الأبواب الضيقة .. أبواب الخدم
!!
تراجع فكر الاستنارة
..
أشرت من قبل إلى اندهاشي من موقف أمين عام
المجلس الأعلى للثقافة ، أثناء أزمة
( الروايات الثلاث) بسبب تخليه عن
موقفه المساند لفكر ( الاستنارة ) -علي حد تعبيره - فبعد إدانته للكُتاب والروايات
، ترك الساحة المشتعلة ، وآثر السلامة ، وذهب إلى أمريكا ، وعاد بعد هدوء العاصفة ،
ليعلن أن فكر الاستنارة كان رهينا بظروف معينة ، هذه الظروف تغيّرت ، والمناخ
لم يعد هو نفسه قبل احتضان الفكرة ولذلك لم يعد يتكلم عن نموذج المثقف التقليدي ،
الذي ينقلب إلى متعصب ديني ، ذلك النموذج الذي أدانه كثيرا من قبل ، في الوقت الذي
أرادوا منه هذه الادانه
!!
أدانه حين وقف في خندق
الوزارة ، أثناء تبنيها لهذا الفكر ، ثم تخلي عنه حين أرادت تهميش الفكر وزحزحته
لفترة ، كيف نصدقه حين كتب يقول :" إن المثقف التقليدي الذي ينقلب إلى متعصب ديني ،
ينطوي في داخله علي رغبة تدمير العالم المدني ، الذي لا يستجيب إلى نواهيه ، فضلا
عن انحيازه إلى تيارات النقل الجامدة ، وآلية تفكيره الذي يقصر الحق علي ما أنتهي
إليه ، والباطل علي ما أنتهي إليه المختلف عنه ، مقرنا الحق بالحقيقة التي ينجو من
يتبعها ، والباطل بضلالة المعصية ، المفضية إلى النار ، ويتعلم إيثار الاتباع علي
الابتداع
"
هذا الكلام النظري الجاف - علي الرغم من صحته إذا كان صادرا عن شخص آخر
مؤمن فعلا بهذه الفكرة- مجرد بالونات فارغة ، سريعا ما تنفجر بمجرد اصطدامها بتيار
هوائي خفيف ..
كيف نصدقه حين يتكلم عن فكر المثقف التقليدي ، وهو في
مجلسه الموقر ، يحتضن أنصار هذا الفكر ، ويقوي شوكتهم في مواجهة التيارات المستنيرة
التي رفض أصحابها الانضمام إلى لجان خلط الأوراق ، ولجان خلط الحق بالباطل ؟!
اللجان التي رشحت أسماء بعينها للحصول علي أكبر الجوائز ، واستبعدت أسماء أخري
تستحق ، وتدخله المعلن والخفي في أعمال اللجان ، يكشف أن أفرادها مختارون بعناية ،
حتى يستطيع التأثير عليهم لتلبية رغباته .. وهذا من الأمور التي لا تخفي علي أحد ،
ولا ينكرها إلا جاحد مستفيد
..
انه عصر ( الألياث
والحبابكة ) علي حد تعبير الشاعر ( حسن طلب) حين كتب عنهم - في نفس هذا المكان -
منذ سنوات قليلة . الألياث والحبابكة الذين استمرؤا الخطيئة ومارسوها بمتعة شاذة ،
لوثت صورة الحياة الثقافية التي ما عاد لها كبير ، وما عاد لها ضابط ولا رابط
!! فهاهم صبيان أمين المجلس الأعلى للثقافة ، صاروا يتجولون في ردهاته ولجانه ،
يعبثون بكل شيء ما شاء لهم العبث ، لدرجة أننا لم نكن نتخيل أن واحدا منهم يمكن أن
يحل محل الناقد الراحل الدكتور عبد القادر القط ليؤدي مهامه في اللجنة العليا
للتفرغ ، ويحصل علي توقيع أعضائها الآخرين علي محضر الجلسة ، الذي قام بصياغته ،
خشية الوشاية بهم عند الأمين
!!
ثقافة السمع .. وخطيئة المثقف
الانتهازي..
"لا يحرز الإنسان النبل والشرف ، ولا يستحق الإعجاب والإجلال
بالمثابرة علي محو ما فيه من الخصائص ، بل بتنميتها وتربيتها ، علي شرط أن لا تجور
علي مصالح الغير وحقوقهم”
كلما قرأت هذه الكلمات التي كتبها ( جون
ستيوارت ميل) ، وتأملت أحوال المثقفين ، وممارستهم ، شعرت بحزن عميق علي ما آلت
إليه حياتنا الثقافية الآن ، لقد أصيبت بالسكتة القلبية ، من جراء ما فعله هؤلاء
بها ، فالنبل والشرف لم يعدا – وحدهما- هما الوسيلة أو القيمة التي يحصل بها المثقف
علي إعجاب الآخرين به ، وإجلالهم له !! أرأيت معي كيف أن قتامة الواقع وتراجع القيم
النبيلة أمام القيم الصدئة المهترئة ، كل هذا يبعث إلى النفس الأسى ؟!وكواحد من
الذين رأوا عن قرب بعض ممارسات هؤلاء، أشهد أنهم ينبطحون انبطاحا مشينا يدعو إلى
الأسى عليهم ، وسوف أذكر الآن موقفا واحدا لبعضهم – وسأرجئ مواقفهم في
مناسبة أخري-
حين قام السفاح شارون وجنوده باقتحام المسجد الأقصى و قتل
عددا من الفلسطينيين الموجودين فيه ، وانتفض أبناء الشعب الفلسطيني بثورة الغضب ،
في ظل تلك الظروف ، اقترح عدد من أعضاء مجلس إدارة اتحاد الكتاب – مجلس فاروق شوشة
– إصدار بيان عن الاتحاد يدين الممارسات الصهيونية التي تواجه هذا الشعب ، فتم
تكليف السيد رئيس لجنة الحريات بكتابة البيان ، لكنه أختفي تماما ، لا نعرف أين ؟!
وحين قامت الدنيا ولم تقعد عقب أزمة ( الروايات الثلاث) ، وتم طرح الموضوع علي
أعضاء المجلس الموقر - وكنت واحدا من أعضائه- ظل مختفيا أيضا ،لأن الأوامر حذرته
بضرورة الابتعاد عن هذا النشاط ، الذي يحتضنه الغوغاء – هذه هي العبارة التي أطلقها
فاروق شوشة أمام الجمعية العمومية في آخر اجتماع له معها – لأنه مرشح لمنصب كبير ،
يتطلب قدرا من الكياسة والتعقل ، وهو أعلم الناس بمصلحته ! وبالفعل حصل علي
المنصب ، وبعدها بقليل – وبسبب صمته ونتيجة لطاعته العمياء وعدم وضوح مواقفه –
أسندت إليه مهمة الكتابة بشكل منتظم في اكبر صحيفة قومية في مصر !!
ولأنهم –
جميعا – ينتظرون العطايا فقد قاموا بصياغة بيان هزيل لا يعبر إلا عنهم
فقد ساندوا مساندة كبيرة إجراءات وزير الثقافة -الذي وعدهم قبلها بقليل بدعم نشاط
الاتحاد بمبلغ (250 ألف جنيه ) لم تصل حتى الآن!! - وأدانوا الكتاب أصحاب
الروايات ..وأصبح البيان دليل اتهام جديد صادر من جهة نقابية ، من
المفترض لها أن تقف في خندق المدافعين وليس العكس ، وشعرت - أيامها - أن اتحاد
الكتاب أصبح مؤسسة من مؤسسات وزارة الثقافة ، فقد استقلاله بوصفه نقابة مهنية !!
والأدهي - من كل هذا - أن معظم الأعضاء الذين شاركوا في
المناقشات ، وقاموا بإدانة الكتاب والروايات ، بما فيهم رئيس الاتحاد ونائبه ، لم
يقرؤوا تلك الروايات ، بدليل أنهم طالبوني بإحضارها إليهم لقراءتها !! إذن كيف
استطاعوا - بكل هذا الحماس - أن يقدموا دليل الإدانة
؟؟
إنها ثقافة السمع ، ثقافة
الكسالى الذين لا يريدون التعب ، ويفضلون استعمال آذانهم وإلغاء كل
الحواس الأخرى ، فهذه الحاسة لا تتطلب مجهودا ولا معاناة ، اعتمادا علي السمع وحده
، تكون المواقف ، وتكون الإجراءات .. أي هذر هذا ؟! وأي استخفاف بأمور الثقافة
والفكر في بلادنا ؟!
وقائع أخري من زمن الانبطاح :
هل كان الصياد الهندي ،
الفقير الذي تعرّض للعواصف ، وخطر أمواج البحر العاتية ، وهو لا يملك إلا مركبا
صغيرا جدا ، هل كان مخطئا حين واجه الخطر بقذف المجداف في المياه صائحا : لا أخاف
من شيء .. لا آمل في شيء ، لا أطمع في شيء.. أنا حر . لا أعتقد أنه كان مخطئا أبدا
، وأجد نفسي – الآن – أردد وراءه العبارة البليغة التي قالها الصياد ، ووضعها
الكاتب اليوناني ( نيقوس كازانتزاكيس) علي قبره ، إيمانا منه بقيمة الحرية
التي ينبغي علي المثقف أن يتحلي بها ، لا أن يصبح تابعا ذليلا ، فاقدا لارادته ،
فاقدا لضميره . إن المثقف الحر الملتزم يعمل خارج أبنية السلطة ، ويعبر عن رأيه
بوضوح دفاعا عن المبادئ الثقافية العليا .
ولا أعتقد أن طغيان
المثقف المنبطح وانتهازيته ، يجد تبريرا مقنعا لديك ، لأن سلوكه يُشعرك - كما
يشعرني - دوما بالألم ، فتكون الكتابة هي السبيل الوحيد للمواجهة ، ودفع الأذى عن
النفس ، نعم أيها الطغيان ، أعرف أني أتألم منك كثيرا ، لكنك ستموت ..
ولعلنا نتذكر ( رءوف علوان ) في رواية ( اللص والكلاب) لنجيب محفوظ ، تلك الشخصية
تعد نموذجا صارخا للمثقف الانتهازي ، فمنذ أن كان طالبا في الجامعة ، وهو يدفع (
سعيد مهران) - العامل بالمدينة الجامعية – إلى السرقة ، مبررا ذلك الفعل
الإجرامي ، بأنه الوسيلة الوحيدة أمامه، لاسترداد الحق الضائع !! ونتتبع مع الكاتب
، المراحل التي تطورت فيها انتهازيته ، حتى استطاع أن يكون رئيسا لتحرير إحدى الصحف
، ساعتها فقط ، أدرك أن ( سعيد مهران ) أصبح خطرا يطارده ، والتخلص منه ، خير وسيلة
للحفاظ علي المكاسب التي حصل عليها ، وهذا ما دفع ( مهران ) بعد أن أدرك - هو الآخر
- ذلك السلوك الانتهازي غير المسئول ، إلى المواجهة والانتقام ثأرا
لنفسه وللآخرين معا . .
ونتذكر - أيضا - ( سرحان
البحيري ) في رواية ( ميرامار ) ، الانتهازي الذي شارك في منظمات ما قبل الثورة
بدون إيمان حقيقي ، ثم استفاد من ظروف ما بعد الثورة ، ومن خلال عمله وكيلا لحسابات
شركة من شركات الثورة ، قام باختلاس أموالها ، أقام علاقات مع أبناء الطبقة التي
يكرهها تحقيقا للمنفعة الخاصة ، حتى نظرته للزواج ، نظرة انتهازية ، يقول : الزواج
مؤسسة .. شركة كالشركة التي أعمل وكيلا لحساباتها ، إذا لم يرفعني من ناحية الأسرة
درجة ، فما جدواه؟! لقد وضع نجيب محفوظ نهاية لهذا الشخصية تتوافق مع سلوكه وتكوينه
النفسي ، الانتحار .. " حين أدرك حدة التناقض بين ما يدعيه من ثورية ، وبين شروعه
بسرقة الثورة " .
ومثل الانتهازي كمثل عشب ( الحامول
) الذي يتسلق علي ساق نبات آخر يجاوره ، ويتحامل عليه ، مستمدا منه القوة ، والوجود
، وإذا لم يجد تلك الساق ، فسرعان ما يسقط ويموت ، لأنه لم يتعود الحياة معتمدا علي
نفسه ، انه بمثابة عشب صغير ، لا تقتلعه الرياح ، بل تدوسه الأقدام ، كما جاء في
الحكمة المصرية القديمة
.
أثناء أزمة الروايات الثلاث في يناير 2001 ، ثارت ثائرة معظم
المثقفين ، احتجاجا علي قرارات وزير الثقافة ، وكان من ضمن الثائرين واحد من رؤساء
تحرير إحدى السلاسل التي تُصدرها هيئة قصور الثقافة - صاحبة المشكلة - حيث انه أعلن
استقالته علي صفحات الصحف المصرية والعربية ، ولم يتقدم بها مكتوبة !! وكتب مقالا
تحدث فيه عن ( بؤس الثقافة ) ، واختتمه بتلك العبارة ( مسكين وزير الثقافة ، فهو
واقع بين مطرقة الدهماء ، وسندان الدولة ، ولذلك جعلوه يضع ابنه تحت رجليه ، تحسبا
لمجيء الطوفان ، غير مدركين أن الطوفان سيبتلع الجميع ..) والذي حدث بعد
أسبوع واحد ، أن اجتمعت اللجنة العليا للنشر بالهيئة استجابة لدعوة رئيسها الجديد ،
وكان رئيس التحرير هذا ، هو أول الحاضرين في الاجتماع .. لوح بمقاله ، ولوح
باستقالته الشفهية ، وتحدث بوجه آخر تماما ، وقام بنفسه بسحب كتاب الشاعر الأمريكي
( آلن جينسبرج) " عواء وقصائد أخري " والذي قام بترجمته أحمد عمر شاهين ، بعد أن تم
جمعة في المطبعة !! ، دون أن يُطلب منه ذلك ، استجابة للتوجهات الجديدة التي قبل
العمل في ضوئها ، حيث إن الديوان ممنوع في أمريكا ذاتها ، فكيف ينشر إذن في مصر ؟!
بعدها بقليل تم تكليفه بالإشراف علي المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة
، وتم تكليفه للمشاركة في لجان القراءة المتعددة في المجلس ، وهيئة قصور الثقافة ،
وقام بتغيير اسم السلسلة التي يرأس تحريرها ، مع أنها أصدرت أكثر من سبعين عنوانا ،
من قبل ، نراه يعتبر ما صدر منها بعد الأزمة بمثابة الكتاب الأول ، فيضع علية الرقم
(1) واختفت قائمة الكتب التي صدرت ، وكأنها أصبحت رجزا من عمل الشيطان !! ليس هذه
فقط ، بل أنه حصل هذا العام علي منحة تفرغ ، علي الرغم من تعدد المهام والمناصب
المكلف بها ، وعلي الرغم من المعاش الذي يحصل عليه بعد أحالته إلى التقاعد !! - تلك
نقطة سنشير إليها بعد قليل - والسؤال الآن : ما الذي يدفعه - هو وغيره - إلى هذا
السلوك ؟! وكيف ارتضي لنفسه أن يكون تابعا منصاعا لأوامر المتبوع ؟! علي الرغم من
أنه يعلم جيدا أنه لا يخادع إلا نفسه ، وأنه لا يستطيع خداع الآخرين كل الوقت .. لا
يهمنا هنا الشخص ذاته ، لكن ما يهمنا هو الحديث عن الظواهر السلبية التي أوجدها
المثقف الذي خلقة الإله بوجه واحد ، ولكنه يضع بنفسه بقيه الوجوه
!!
سلوك المثقف المتذلل ، المستسلم للطاعة العمياء ، والصمت المبالغ فيه ،
" فالمطيع الذليل الذي يحني ركبته استخذاء ، ذلك الذي يقضي عمره منكبا علي عبوديته
، معتزا بذله ، انه أشبه ما يكون بحمار سيده ، لا يعيش لشيء سوي العلف" ربما يكون
الفيلسوف الذي قال هذه العبارة قد مّر عليه نموذج المثقف الانتهازي ، الذي أفرط في
الخضوع ، وأفرط في الانبطاح ، وأفرط في الخوف من أن يكون حرا ، فلا يحصل علي العلف
!!
وأذكر أن واحدا من الجمهور كان قد سأل ( يوسف إدريس ) – في ندوة
من ندواته- أيهما أسبق من الآخر تلبية لحاجة الإنسان : الخبز أم الحرية ؟! فرد
قائلا : الحرية لأنها السبيل الوحيد أمامك للحصول علي الخبز .
استسلام
المثقف الانتهازي ، وتقديم الولاء ، انتظارا للحصول علي المنح ، يجعله عبدا مطيعا ،
لا يملك القدرة علي اتخاذ القرار الصائب ، ويجعله منكبا علي سيده الذي يملك سلطة
المنع والمنح ، ويسلك سلوك العبيد الذين فقدوا هويتهم ، ولم يعد الأمر يشغلهم ، إلا
بالقدر الذي يتيح لهم فرصة العيش في كنف السيد ، بعد أن ذابت ذواتهم الهشة في ذاته
.
العلاقة بين التابع والمتبوع يفهمها جيدا أمين عام المجلس الأعلى
للثقافة ، ويترجمها في إدارة شئون العمل الثقافي ، انطلاقا من فكرة القطيع التي
تقول لك : انك كلما اقتربت من السلطة ، كلما حققت هدفك في التربح السريع ، وكلما
ازداد انبطاحك ، كلما رضيت عنك ، وحصلت علي الهبات والعطايا ، فهاهو الإعلامي
الشاعر ، يكتب عن صديقة الروائي الذي لا يقل عنه انبطاحا ، مدافعا ويقول : ( لقد
نجا من ورم الذات ، ونرجسية كثير من المبدعين التي تصبح بالتوهم ، وخديعة النفس ،
ورياء الآخرين داء مستعصيا ، وحالا ميئوسا من علاجها ، كما نجا من التشوهات التي
تنتجها ظروف النشأة والتكوين والعجز عن التحقق ، فتصطبغ مرارتهم بصفرة الأحقاد و
دساستها ) .. انهم يعتبرون الكتابات الكاشفة لوقائع الفساد ، دليلا علي
( قلة الأدب وسوء التربية !!) .. في حين أننا نجد هذا الشاعر
الذي يتحدث عن رياء الآخرين ، ويتحدث عن المرارة المصطبغة بصفرة الأحقاد ، نراه
يحصل علي خمسة آلاف جنيه بموافقة أمين عام المجلس الأعلى للثقافة ، بعد أن كلفه
بكتابة مقدمة كتاب أصدره المجلس عن الشاعر البائس ( عبد الحميد الديب) لا تتعدي سبع
صفحات ، في حين أن صاحب الكتاب الأصلي ومؤلفه ، لم يحصل إلا علي ألف جنيه فقط لا
غير !! حين نذكر هذه الواقعة ، يقولون لك ( صفرة الأحقاد ) وكأن التصرف المخجل في
أموال الشعب ، بات متاحا ، للمسئولين الذين يعطون لأنفسهم الحق في المنح والمنع ،
والتصرف ، والتهذيب والإصلاح ، يفعلون هذا ، وتُكتب عنهم تقارير الأجهزة الرقابية ،
التي تشير إلى وقائع الفساد ، والحصول علي الأموال بدون وجه حق ، وفي مكتب وزير
الثقافة ، تقارير تثبت تورط بعض القيادات ، وحصولهم علي مكافآت باهظة ، في حين أن
شاعرا شابا فقيرا مثل ( طاهر البر نبالي ) لا يجد حماية ، أو اهتماما أو رعاية ،
وهم يعلمون جيدا ، انه في محنة مرضية خطيرة ، تهدد حياته ، بعد أن تليف جزء كبير من
الكبد ، ويحتاج إجراء عملية لزراعة كبد جديد ، بعد أن تكفل واحد من أسرته
بالتبرع بجزء من كبده لإنقاذه ، ما الذي فعلته تلك الأجهزة ، وهي تصرف ببذخ أحمق ،
هنا وهناك ؟! ما الذي فعلته لهذا الشاعر – وغيره – إلا الصمت التام ، وكأن شيئا لم
يكن .. أينتظرون موته ، وبعدها يقولون : كم كان صبورا .. كم كان متفائلا ؟! كم كان
شاعرا جميلا ؟! ويمصمصون شفاههم ، ويرددون : رحمه الله ؟! متي تستطيع الحياة
الثقافية حماية المثقف الفقير ، المثقف الذي لا ينضوي تحي لواء شلة ما ، أو يرتبط
معهم بمصلحة ما ؟! تصدق عليهم عبارة ( فتحي رضوان ) التي قالها انتقادا لتصرفات (
الملك فاروق ) الحمقاء : تقتير هنا وإسراف هناك
!!
لأمين المجلس الأعلى
للثقافة مقالة غريبة عجيبة كتبها تحت عنوان ( الإنسان الاتباعي ) - دعك من العبارات
الكثيرة التي جاءت فيها ، ولا يحكمها سياق منطقي ، يُساعدك علي الوصول إلى المعني
مثل قوله : " العلاقة بين مفهوم الزمن ومفهوم الإنسان علاقة عضوية في ثقافة الاتباع
، وسواء كنا نتحدث عن الزمن الدائري أو الزمن المنحدر ، فالنتيجة واحدة ، إذ لا
تعني حركة الدائرة سوي الجبر الذي ينتقل من العلة إلى المعلول الذي يلزم علته – كما
تلزمه – وجودا وعدما . أضف إلى ذلك أن الزمن المنحدر يشير إلى اللزوم نفسه الذي
يفرض جبر يته علي الفعل الإنساني في قدر مقدور ، إن الزمن في الحالين يُسقط نفسه
ميتافيزيقيا علي الإنسان الذي تنحدر حركته الفيزيقية جبرا علي مستوي السلب في
التاريخ المتعاقب ، وتثبت هذه الحركة علي نحو لا يعرف إلا الحركة الدائرية ولا
يفارق ثباتها ، كأنه حال من الجبر علي مستوي الإيجاب في العلم والمعرفة ، أو
الثقافة والأدب .. !! " لقد حاولت الوصول إلى مضمون المقال الذي يحتاج إلى مقال آخر
يشرحه ويفسره ، وبعد جهد خارق ، توصلت إلى أنه ينتقد النظرة التي تنطوي علي
سوء ظن بالإنسان من قِبل الذين يرونه يجنح إلى الشر ، وارتكاب المعاصي لخلل مرتبط
بتكوينه أصلا ، وينتقد – كذلك - الذين ينظرون إلى الإنسان باعتباره كائنا
مستعدا لتقبل تلك النظرة ، التي تري أنه لا سبيل أمام الأدنى إلا تصديق
الأعلى ، والمضي في أثره ، اتباعا وتقليدا ، فذلك هو قدر الأدنى المقدور في زمانه
المحتوم ، الذي لا يعني سوي الوصاية الدائمة علي فعله ، والتحديد المسبق لمسار
قدرته ، والتوجه القبلي لحركة عقله ، والنتيجة هي أن يغدو الإنسان سجينا
متعدد السجون ، حركته اتباع لما ليس اختياره ، وإبداعه تقليد لما ليس من صنعه
، ومعرفته نقل عن الأعلى منه في الوجود والرتبة .. والسؤال الآن : أليس
هذا هو نفس الشيء الذي يفعله في إدارته لشئون الثقافة ، من خلال مجلسه الموقر ؟
ألم يتعامل هو مع المثقفين الذين ارتضوا التعامل معه بالشروط التي يُمليها ، وتعكس
أسلوب القطيع ، وفكر العبودية ؟ تحقيقا لمصالحه ، ومصالحهم ، ومن أجل المحافظة علي
مكاسبه ومكاسبهم - سنشير فيما بعد إلى بعض الصور - إنها ازدواجية المثقف ، الذي
يفعل عكس ما يقول ، ويقول عكس ما يفعل .. يبرر لنفسه كل خطأ ، ويعتبر نفسه – أيضا -
صاحب الحقيقة المطلقة
!!
أيضا أثناء أزمة الروايات الثلاث ، وحين قرر عدد من المثقفين
مقاطعة أنشطة الوزارة ، وكان معرض القاهرة الدولي للكتاب علي الأبواب ، احتجاجا علي
موقف الوزير من قضية حرية التعبير ، أعلن في حوار أجراه الصديق الكاتب ( حلمي
النمنم) - نشرته المصور – انه يتحدي المبدعين الذين أعلنوا مقاطعة الوزارة أن
يقاطعوا مشروع التفرغ !! وهذا التحدي يكشف أن الأمور تسير تبعا لمعيار العلاقة التي
تربط المثقف بالوزارة ، وهل هي علاقة اتفاق ، أم علاقة اختلاف ؟! ما مدي إخلاصك
وعطائك ؟! تحصل عليه ثمنا لانبطاحك ، وصمتك ، وطاعتك العمياء !! وليس
لأنك تستحقه بالفعل . وإذا تمردت ، أو أعلنت عصيانك ، فلن تحصل علي شيء ،
وأدفع رأسك في الحائط ، لكي تريح وتستريح
!!
وبالفعل نري هذا المشروع الذي يُشرف عليه
، المجلس الأعلى للثقافة ، أصبح رافدا جديدا من الروافد التي تُدعم موقف الأمين في
تثبيت علاقته مع المثقفين الذين يسعون إليه سعيا للحصول علي حقوق غيرهم .. هناك
مجموعة من التجاوزات التي يعلمها الجميع ، الناجمة عن العشوائية التي يدار بها ،
والناتجة عن غياب المعايير ، والضوابط .. فمن ضمن التجاوزات التي تستحق المساءلة ،
وتستحق استجواب المسئول .. حصول غير المتفرغين – بالفعل – علي التفرغ !! فهل يعقل –
مثلا – أن يحصل ذلك المترجم الذي يعما رئيسا لتحرير سلسلة أدبية ، ومشرفا علي مشروع
الترجمة ، ومشاركا في لجان متعددة - أشرنا إليها من قبل - هل يُعقل أن يحصل علي
منحة تفرغ ، وهو أصلا في تفرغ ؟! – علي المعاش .. وأمين المجلس الأعلى للثقافة يعلم
جيدا حجم الأعمال والمهام التي يقوم بها ، وبمكافآت كبيرة ، متفرغ من ماذا ؟؟
ومتفرغ لماذا ؟؟ هذه الواقعة تُعد – بلغة القانون – تعسفا في استعمال الحق .
دعك من الكاتب الذي حصل علي منحة التفرغ لاسترضائه حين أعلن - منذ
عامين- عن نية الاعتصام داخل المجلس ، احتجاجا علي اللجان التي لم تمنحه جائزة
التفوق ، ودعك من الذين يحصلون علي منح التفرغ ليصرف عائدها في ( الجريون ) وغيره
من بارات القاهرة
..
ودعك من الأسماء الكثيرة من أصحاب المعاشات في الآداب والفنون ، الذين
لا يقدمون مشاريع محددة ، وهم متفرغون بالفعل ، هذه الأسماء لا تُذكر في الكشوف
المعلنة ، والمنشورة في الصحف ، فقط يمكنك أن تقرأ أسماء الكتاب الذين تقدموا
عن طريق الإدارة العامة لمنح التفرغ ، وهي أسماء قليلة جدا ، أما الفئات المستثناة
فتحصل علي معظم ميزانية التفرغ بدون وجه حق . من حقنا أن نتساءل : ماهي المعايير
التي علي أساسها يتم منح التفرغ من عدمه ؟ وما هو المقصود - أصلا -
بالمنحة ؟ وكيف نقوم بوقف مرتب المثقف الموظف الذي يحصل علي التفرغ ، ونسمح للمثقف
الذي كان موظفا وأحيل إلى التقاعد بالحصول علي معاشه فضلا عن مكافأة التفرغ ؟؟ وكيف
تتساوى القيمة المادية للمتفرغ الذي يعمل في الحكومة ، والمتفرغ الذي يعمل في
القطاع الخاص ، أو الذي لا يُفصح عن عمله أصلا ؟؟ وكيف تعمل لجان فحص الأعمال ، أو
لجان خلط الحق بالباطل!! ومن هم أعضاؤها ؟؟ إن من بين أعضائها من يحصلون علي منح
التفرغ ، وفي نفس الوقت يشاركون في أعمالها .. أي هذر هذا ، وأي فوضى ، وأي عبث
بأمور الثقافة في بلادنا
؟!!