أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صبري المقدسي - الهرطقات عبر العصور















المزيد.....



الهرطقات عبر العصور


صبري المقدسي

الحوار المتمدن-العدد: 4499 - 2014 / 7 / 1 - 12:03
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    




الهرطقات عبر العصور
الأب: جيروم بيرترام
ترجمة: صبري المقدسي
2013










مؤسسة الحقيقة الكاثوليكية - منشورات الكرسي الرسولي



مقدمة المترجم
يشرح الكتاب عن الإيمان وتعاليم الكنيسة وعقائدها بحسب الكتاب المقدس وبموجب روح المجمع الفاتيكاني الثاني والتعليم المسيحي الجديد للكنيسة الكاثوليكية، ويعرض أيضا دور الكنيسة في العالم والحياة البشرية الثمينة، بالاضافة الى عرض بعض الهرطقات المهمة عبر التاريخ والأساليب التي إتبعتها في محاربة الكنيسة والأجوبة الكنسية الشافية التي طرحت في المجامع الكنسية التاريخية لغرض إسكاتها وتحجيم دورها السيء الصيت. والغرض من هذا العمل ليس إلا توجيه الناس ولاسيما المؤمنين منهم توجيها روحيا صحيحا بحسب روح الإيمان الكاثوليكي وخاصة حول المواضيع المهمة التي تدور في عالمنا المعاصر.










ما هي الهرطقة؟
الهرطقة، فكرة خاطئة أو تغيير في عقيدة أو منظومة معتقدات مستقرة، تدور حول الله وحول علاقتنا ببعضنا البعض، بحيث تنشر تعاليمها بطريقة تحاول فيها تقويض إيمان الكنيسة وذلك بإدخال معتقدات جديدة عليها أو إنكار أجزاء أساسية منها، مما يجعلها غير متوافقة مع المعتقد الأساسي، وغرضها الوحيد في ذلك كله إبعاد المؤمنين عن الكنيسة الأم.
تشتق كلمة "الهرطقة" في الأصل من مصطلح في اللغة اليونانية" α-;-ρ-;-ε-;-σ-;-ι-;-ς-;- إيرِسيس" وبالانكليزية " Heresy " وتعني الإختيار والانتقاء، ويستخدم هذا الإسلوب في تعاليم الكنيسة كثيرا كأن نقول: "أقبل هذه النقطة، ولا أقبل تلك"، ويُستخدم أيضا بين أعضاء الكنيسة كأن نقول:" أقبل هذه المجموعة من الناس، ولا أقبل تلك المجموعة".
وتتعلق الهرطقة في الغالب بالإنشقاق والإنشقاق الكنسي بصورة خاصة، إذ عندما يبدأ قائد فرقة دينية عادة ببث التعاليم الخاطئة والفاسدة من عندياته مناديا بقوله: من لا يتبع طريقتي ليس مسيحيا صادقا أو صحيحا. ويبدأ على هذا الأساس، بإنشاء وقيادة "جماعة دينية جديدة". والهرطوقي الحقيقي من الطرف الآخر، هو من ينبغي أن يكون مُعمّداً، وأن يختار الطريق الخاطىء وينكر الإيمان الصحيح، ويتشبث به بعناد، ويعمل من أعمال عقله، ويحمل فكرة عالية عن نفسه وعقيدته، ويصرُ على نشرها بين الناس بشدة وإصرار، وإن كانت ضد العقيدة الكنسية الجامعة، ويكون غرضه الوحيد بأن يجعل من نفسه قائدا للجماعة التي يختارها وللكنيسة التي يصنعها من أفكاره الخاصة. وأما الذين يتبعونه فهم يُسمون في طبيعة الحال بالهراطقة، فيما عدا الذين يولدون في أحضان تلك الهرطقات أو المؤسسات الدينية المنشقة، إذ لا يمكن إدانتهم، ولا القول فيهم أنهم هراطقة، بل يجب تشجيعهم وحثهم على البحث عن الحقيقة.


هل تعنينا مسألة الهرطقة في شىء؟
الفكرة الشائعة بين الناس أن الهرطقة لا تعنينا بشىء، وأن العمل على محاربتها يُصنف من الأعمال الغير الحميدة والبعيدة عن روح المحبة والغفران التي بشر بهما السيد المسيح ورسله. وقد إجتمع العالم المعاصر حول الأفكار الفكرية والثقافية والفلسفية التنويرية التى سيطرت على أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، فى القرن الثامن عشر، والتي أكدت على الحكم بالتعصب والعنصرية على كل الذين يحاولون إستئصال الأفكار والهرطقات، وتقييد الحريات الفكرية. وترجع الجذور الحقيقية لهذه الفكرة الى ما قبل ثلاثة قرون والتي أكدت فيها على أن القرارات اللاهوتية التي صدرت بحق الهراطقة من قبلُ، كانت نابعة من مبدأ عنصري مُجحف وغير أخلاقي، نتج عن عقول ومشاعر غير مُنصفة وبعيدة عن العقل السويّ. فالقول بأن فلان هو على صح وفلان على خطأ يُعد أمراً سخيفا للغاية يشبه كثيرا القول، فلان على خطأ لأنه يحب أكل الرمان، وعلى صح إذا أحب التوت.
فالأفكار الدينية من وجهة النظر العامة هي أفكار شخصية، ويجب تحملها بودٍ وإحسان طالما هي نفسها لا تقع في خانة التعصب والإجرام. لأن الجانب الأهم في المسالة يعتمد على نصوص الدين ذاته، إذ يوجد في كل دين من النصوص ما يُبرّر التعصب ويقف ضد التسامح. ولعل تلك الأفكار العصرية بحسب البعض هي من أهم ما أتى به عصر التنوير في القرن الثامن عشر وخاصة من قبل المؤرخين والفلاسفة الذين تجرءوا على تصنيف أنفسهم بالتنويريين، وهم الذين قادوا الثورة في فرنسا وإنتهى بهم القول بالسماح لكل المذاهب والأديان وإعطاء الحرية لأتباعها بالإعتقاد بما يشاؤون. ولكن ما طبقوه على أرض الواقع في المرحلة اللاحقة كان مغايرا لما نادوا به، إذ تزايدت المحاولات والممارسات القمعية والارهابية ضد الكنيسة وأتباعها. وظهرت على الساحة دعوات صريحة للقضاء على الدين. فقامت جماعات من المحسوبين على الثورة ومن المتنورين، بذبح الكهنة وتدمير الكنائس والإيقونات في جميع أنحاء فرنسا، ومُنعت كذلك المهرجانات الدينية والأعياد، وبلغت فيهم الجرأة على إعلان "ديانة العقل" لتكون الخطوة الراديكالية الأخيرة ضد الديانة.
ولعل تلك الاسباب كانت السبب في ظهور مصطلح "الإرهاب" الذي استخدم أثناء الثورة الفرنسية في حق زعيم الثورة (المحامي ماكسمليان روبسبير) الشاب الدموي الذي قتل آلاف من الفرنسيين بالتعاون مع رفاقه السفاحين المحسوبين على التيار التقدمي المتنوّر.
ولكن المصطلح "الإرهاب" يستخدم اليوم بشكل أوسع وخاصة في حق ذوي الأفكار الدينية الاسلامية التي تقودهم أفكارهم الى القتل العشوائي، فمنذ الحادي عشر من سبتمبر (2001)، الحدث الأهم في تاريخنا المعاصر الذي خلق صدمة كبيرة للجميع وبالأخص المسلمين، لأن من قاموا به كانوا جميعهم من المسلمين، ومن الذين يحملون الأفكار الجهادية ضد الغرب، مما جعل العالم يضطر الى أن يعير أهمية أكبر للمفاهيم الدينية التي أصبحت تعني الكثيرين. والنصيحة التي يقدمها الغرب المسيحي للمسلمين للخروج من هذه الأزمة، أن يسلك المسلمين الطريق الذى سلكته الكنيسة الكاثوليكية تحت ضغوط عصر التنوير.
إننا نعلم بوجود معلمين متدينين تتضمن تعاليمهم رسائل تشددية عنصرية يدعون من خلالها الى القتل وسفك الدماء، وبطريقة بطولية من أجل الله والدين، علماً أن جميع المسلمين الذين أعرفهم يتفقون جملة وتفصيلا على أن هؤلاء المتعصبين يقودون الناس الى خارج الطريق المستقيم للديانة الاسلامية، بل ويعتبرونهم زنادقة ومنشقين. وقد يتصوّر المعلمون المسلمون المتعصبون من الطرف الآخر، بأن أصدقائي المسلمين المعتدلين هم أنفسهم الزنادقة والمنشقون. فعلى المسلمين إذا أن يتعاملوا مع زنادقتهم، كما أن علينا نحن المسيحيين مهمة التعامل مع خاصتنا من الهراطقة. فإن لم يكن هناك اليوم من إرهابيين مسيحيين يقتلون ويسفكون الدماء بإسم الدين المسيحي، هذا لا يعني أننا بعيدون عن مشاهدة هذه المناظر المقشعرة والمقززة في العالم المسيحي: فما يقوم به جيش الرب المسيحي في أوغندا مثلا، من القتل وزرع الهلع والخوف في نفوس الناس للإطاحة بالنظام الأوغندي، ولغرض إقامة النظام الثيوقراطي (الحكم الديني) على أساس الكتاب المقدس، يذكرنا بشىء واحد ومهم، ألا وهو أن الإرهاب من الممكن أن ينمو في رحم الكنيسة، وأن تغذيه الأفكار الملتوية والفاسدة كما هو الحال بين بعض المسلمين المتطرفين.
ولابد من الإشارة على أنه من أكثر المبادىء الفكرية هرطقة، والتي نودي بها إلى اليوم من قبل بعض الفئات هي عقيدة (التفوق العرقي أو النقاء العرقي) التي نتجت نوعا ما عن أفكار وتعاليم النظرية التطورية الداروينية القائلة بأن الأنواع جميعها من دون إستثناء ومن ضمنها النوع البشري، قد تطورت بطريقة تسمى (البقاء للأصلح) والتي أجاز البعض تفسيرها على أساس أن البعض من الأجناس والأصناف البشرية قد تطورت بصورة أسمى من الآخرين. ولذلك فإنه من واجب الجانب الأسمى في الانسانية بحسب رأي هؤلاء، أن يسرعوا في القضاء على الأدنى مرتبة، كما حدث في الحرب العالمية الثانية في عهد النازي الألماني (أدولف هتلر) والذي نصب أفرانه البشرية لحرق الملايين من اليهود والغجر. وكذلك ما حدث في بعض البلدان المعروفة بمدنيتها وتطورها مثل جمهورية صربيا، إذ حاول المتطرفون الصرب تطهير صربيا من العرق الألباني وبطريقة القتل الجماعي المنظم، وذلك لمنعهم من النمو والإزدياد. وكذلك ما حدث في جنوب أفريقيا في أيام الحكم العنصري السيء الصيت والمجحف بحق العنصر الأسود لصالح العنصر الأبيض، بحجة أن العنصر الأبيض يتفوق على العنصر الأسود، ولهذا يجب عليه السيطرة على المراكز الأولية والحساسة في الدولة.
الضمير
اتفق العالم على رفض العنصرية والإرهاب، ولكن العالم ليس فيه الأرضية العلمية والموضوعية للقيام بذلك، فكل ما يقوم به العالم ببساطة شديدة مبنيُّ على المشاعر الطبيعية وعلى التصريحات التي تؤكد على أن الإرهاب خطأ، ويجب إستئصاله مهما كان الثمن. والعنصرية، خطأ. وأكل لحوم البشر، خطأ. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا الناس يفكرون هكذا؟، ولماذا يتصرفون هكذا؟ والجواب سهل وبسيط جداً، يُجيبه الكاردينال الأمريكي نيومن: "كل مخلوق بشري في طبيعته، صاحب ضمير". والضمير يُفسر فقط عن طريق اللاهوت وبمصطلحات لاهوتية.
إذ أن اللاهوت الكاثوليكي وحده يستطيع أن يفسر ببساطة ووضوح، لماذا العنصرية؟ ولماذا الإرهاب؟ ولماذا كل هذه الأمور البشعة والشنيعة، خطأ فضيع وفاضح؟. ولكن المشكلة تكمن في أن الآخرين يعتمدون على الحدس والغريزة في تفسيرهم للوضع العام، بعكس التحليلات اللاهوتية التي تعتمد على عمل الضمير ومعرفة مكنوناته وخفاياه الداخلية(الكاردينال نيومن). ولذلك يستخدم العالم المعاصر كل الوسائل الممكنة والغير الممكنة ومن ضمنها العنف والقوة للقيام بمحاربة تلك الأخطاء أو الهرطقات الفكرية واللاهوتية التي تسبب في نشوء العنصريات والإرهاب الدولي. فالضمير قوة عظيمة يتكل عليها الناس، ومن دون التحقيق فيما إذا كان هناك أرضية صلبة لأعمالهم أو لتصرفاتهم. لأن الضمير الموجود في الإنسان، ناموس حفره الله في قلبه، وهو المركز الأشدّ عمقاً وسرية فيه، يوعز إلى الإنسان في الوقت المناسب أن يفعل الخير ويتجنب الشر. وهذا الوعي الإنساني هو بمثابة مسؤولية الإنسان تجاه نفسه وتجاه حياته، فلا تتحكم فيه الغرائز، بل الرغبة في أن يهب ذاته لشخص آخر. وبتعبير آخر، أن الضمير يجعل الإنسان على أن يكون شخصاً يحكمه العقل، وأن لا توجهه النزعات الغريزية، فينمو وينضج داخل نسيج العلاقات الإنسانية التي تربط الشخص بالآخرين.
وقد جاء هذا التفسير من اللاهوت الكاثوليكي الذي هو مجموعة مواد وبيانات أخلاقية يتغذى ويستقي مادته من الكتاب المقدس، ومن تعاليم يسوع المسيح والشرائع الطبيعية وتقليد الآباء والرسل وتعاليم الكنيسة والمجامع، وتعاليم الباباوات المكتوب والمُذاع، والذي يخص عقائد إيمانية أو حقائق أدبية، ويتضمن كذلك الأفعال والتصرفات الإنسانية بالاضافة إلى الجانب الروحي الذي يساعد على كمال أفعالنا وواجباتنا تجاه بعضنا البعض.
وفي هذه الحالة لا يوجد جهة في العالم تدعّي أن يكون لها مثل هذا النظام المتماسك والموجه تجاه القضايا الانسانية وآلامها المتعددة. مع أن الأنظمة اللاهوتية الأخرى في العالم، تتضمن بعض الأمور والقوانين الأخلاقية المتماسكة والتي تخاطب البشرية وحاجتها الروحية والأخلاقية، ولكنها لا ترى الأمور بعينون صادقة ودقيقة كما يراها اللاهوت الكاثوليكي.
علما أن ما يتعارض مع اللاهوت الكاثوليكي وطروحاته إعتبرته الكنيسة هرطقة. نأتي الآن الى دراسة وتحليل البعض من تلك الهرطقات. وقد يعتقد البعض أنها قد أختفت أو تلاشت، ولكنها لا تزال تعشعش هنا وهناك ومنها:

الفصل الأول
الهرطقات ضد طبيعة الله
اللاهوت ببساطة شديدة، هو محاولة فهم الله كما هو معلن في الكتاب المقدس، ولكن الهرطقة هي التحدث عن الله بطريقة خاطئة. ومن الأخطاء الواضحة جدا، التفكير بوجود آلهة متعددة. ولكن المشكلة الكبرى التي تواجهنا تكمن في الخلط الشنيع بين هذا المفهوم ومفهوم الثالوث الأقدس، وكذلك في فشلنا لفهم الثالوث الأقدس في الله الواحد، لأن المنطق البشري يبدو أنه ينفر من الفكرة "فكرة التعدد في الوحدانية" إذ لا يمكن فهمها من دون الإيمان والبصيرة الروحية. وقد إتخذت الكنيسة مدة ثلاثة قرون أولى من تاريخها مع جهود حكماء ولاهوتيون عظام للوصول الى هذه النتيجة التي من الصعب أن نصل اليها في رحلة العمر كله. فالصيغة المقدسة، الله واحد في ثلاثة أقانيم، تُميّز الديانة المسيحية عن باقي الديانات الأخرى، وهي عقيدة مقدسة. وقد عملت الكنيسة بجهد شديد منذ نشأتها للدفاع عن إيمانها في هذا السر العظيم الذي أظهره السيد المسيح جلياً في حياته وأعماله وأقواله، وعلى ضوء قيامته من بين الأموات، وبعد أن درَست الكنيسة كل البدائل الأخرى.
فالمعضلة الأولى للكنيسة تجسدت في البدع والهرطقات التي إتهمت المسيحية بالشرك في الله، وفي الإعتقاد القائل بوجود آلهة وإلآهات وآشباه آلهة وأنصاف آلهة من كل الأنواع والأشكال، والتي تحمل جميعها الصور والأشكال مع تأليه الأهواء البشرية، كالمحدودية في القدرات والقابليات، والحسد والمكر والنميمة وما شابه ذلك. هكذا كان الحال مع أجدادنا في القرون الأولى لنشوء المسيحية، وهكذا هي الحال اليوم، إذ لا نستخدم التعابير نفسها كما في بدايات المسيحية، وخاصة في مسألة إستخدام التعبير "الهرطقة" سواء بحق الذين كانوا قبل مجىء المسيحية أو بحق المنحرفين عن الإيمان بعد المسيحية أو بحق المسيحيين المولودين في أحضان الفرق الهرطقية.

الغنوصية
إن الفكرة التي إدّعت بوجود قوّتين كونيتين، إحداهما خلقت العالم الروحي وتسيطر عليه وتنظمه وتسمى بالقوة الخيّرة، والأخرى التي خلقت العالم المادي وتسيطر عليه وتنظمه، وتسمى بالقوة الشريرة، هي الفكرة أو التشكيلة من الأفكار الفلسفية التي دعيت في الكنيسة بالهرطقة الغنوصية.
واشتهرت تلك الفكرة في أفريقيا في القرن الرابع الميلادي بإسم المانوية، وظهرت على السطح ثانية في دول البلقان في القرن الثاني عشر، وانتشرت في جنوب فرنسا بعد ذلك مكوّنة هرطقات جديدة وغريبة تدعى بالبوغوميلية والكاثارية"المطهرين"، الذين بشروا بأن العالم شرير والجسد رديء، وينبغي أن يتخلص الناس من العالم ومن الجسد. ولذلك رفضوا أن يحاربوا في الحروب الصليبية، وإمتنعوا كذلك عن الزواج، وكانت عقائدهم غير مسيحية في جملتها. وتعود كل تلك الأفكار الى الفكرة القائلة بالثنوية، والتي تعني وجود الهين منذ البدء.
وترى المانوية الشىء نفسه إذ تعتبر أن الجسد، وكل ما هو مادي، شرير جدا، ولا يليق أن يكون من صنع الله الحقيقي. وبالغ المانويون بالزهد والتشاؤم من الحياة، وبلغ تزهدهم حدا دفعهم الى الإمتناع حتى عن الزواج. ويقول العلامة ترتليانوس في صدد رده على هذه الفرقة وهو من آباء الكنيسة الأوائل:"نحن لا نمنع الزواج ولكن نمتنع عنه فقط". وأما أتباع تلك الفرقة فكانوا يجدون الزواج، شرا ونجاسة، وكانوا يعيبون على المتزوجين ويعتبرونهم من الخاسرين. وإمتنع أتباع تلك الفرقة أيضا عن تناول أنواع عديدة من الأطعمة، ساعين قدر المستطاع للإبتعاد عن دنس المادة. فإمتناع المتنورين من أتباع تلك الفرقة عن الجنس والزواج لم يأتي بسبب تثمينهم للزواج وتقديسه بإعتباره سرّا مقدسا كما يفعل المسيحيون الحقيقيون بل لكونه شر مستطير. وكذلك الأمر بالنسبة الى إمتناعهم في أكل اللحوم الحيوانية، إذ لم يكن من منطلق إحترامهم للثروة الحيوانية بل من منطلق كرههم للحيوانات بإعتبارها نجسة.
وتعتبر المانوية في الحقيقة من إحدى الفرق الهرطقية التي إدعت بإمتلاكها الحقيقة الكاملة عن الله، وبعدم وجود تلك المعرفة الخاصة لدى الناس العاديين. وقد نشأت تلك الفكرة من حين الى آخر عبر التاريخ بإعتبار أن الأسرار الإلهية الحقيقية قد سُلمت ليد نخبة صغيرة من العارفين المُبصرين والحكماء المتنورين الكاملين، وانتقلت من جيل الى جيل، في حين أن المؤمنين العاديين، ومن ضمنهم الكثير من الكهنة والرهبان الذين يحكمهم الجهل المُطبق فلا يستطيعون الإطلاع عليها.
ودعيت تلك الأفكار الهرطقية المنحرفة عادة بالغنوصية والكلمة مشتقة من اللغة اليونانية وتعني بالعرفانية"المعرفة". ويُسمون أنفسهم بالعارفين المُبصرين، لأن أتباع تلك الفرقة يَدّعون بمعرفة أمور لم يعرفها غيرهم من المؤمنين العاديين. والغريب في الأمر إننا عندما نتطلع على أسرار "الغنوصية" نجدها في الحقيقة، مُجرّد أفكار تافهة لا تستحق أن تلقى إلا في أكياس القمامة، ولعل الأسوأ ما فيها هو أن المسيح أو بالأحرى "مسيحهم" قد ضلل أتباعه من الرسل والتلاميذ بإرسالهم للتبشير بنوع من الحقيقة تختلف عن الحقيقة السرية التي أعلنها لمختاريه وهم "النخبة من المتنورين والمبصرين".
ومن المدهش جدا أن الكثير من المنظمات الفرنسية المدنية التي تعمل ضد الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا تتحمس جدا في ترويج أفكار تلك الهرطقات القديمة لغرض جذب السياح ومحاربة وتخريب الكنيسة من الداخل، وتعتبر تلك المنظمات عملها بطوليا وجبارا في هذا المجال. والأعجب من ذلك، أن التعدي والتهجم على الجنس والأمور الخلاعية في فرنسا نفسها ممنوع، وغير لائق بحجة أنها ضد الحرية الشخصية.
ولكن ليس هناك أسرار في تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي تواجه دائما المشقات والصعوبات التي لا يمكن أن توقفها في مسيرتها الخلاصية. وقد حذرنا الرب يسوع المسيح وجود مثل هؤلاء المعلمين الكذبة الذين يتكلمون بإسمه كما جاء في انجيل مرقس: "أحذروا من الأنبياء الكذبة". (مرقس 13 : 5 – 6 )



الآريوسية
تنتشر اليوم العديد من التيارات الدينية التي تؤمن بوحدانية الله بصورة أسرع من التيارات الفلسفية القديمة والتي تؤمن بالشرك في الله أو بالتيارات الثنوية كالزرادشتية (وجود إله الخير وإله الشر) أو المانوية(وجود إله النور وإله الظلمة). ولكن مع ذلك فإن مسألة وحدانية الله تواجه صعوبات كثيرة في تاريخ الخلاص أكثر من ذي قبل، إذ أصبحت المسألة مشوهة في الكثير من تلك التيارات العقائدية.
ففي القرن الرابع الميلادي واجهت الكنيسة مجموعة من الهرطقات التي إجتمعت معا تحت مسمى واحد يدعى بالآريوسية. والمدعو آريوس نفسه بدأ حياته موحداً متطرفاً، إذ أراد أن يؤكد على وحدانية الله المطلقة، وأن يحصر صفات الألوهة بشخص أو أقنوم الله الآب وحده. ومن تعاليمه أن المسيح لا يمكن أن يكون الله في الطبيعة، ولكنه كائن مخلوق مثل الملائكة بل أسمى من الملائكة، إذ كان هناك وقت لم يكن موجوداً. لأن الله الآب بحسب آريوس ذو جوهر متعالي وأرفع من الابن الذي بالرغم من كونه إلهًا يبقى في درجة أقل منه في المجد والسلطان. وبما أن العقل لا يمكن أن يقر بمبدأين وأساسين، فالابن إذًا بالرغم من أنه موجود قبل كل الخليقة، وقبل كل الأزمنة فهو إذا ليس أزليا، إلا أنه يرتبط بالآب الذي كان قبله وأخذ منه كيانه. ويبدأ العالم بحسب فلسفة آريوس بخلق الابن، والابن هو المولود الأول، فهو إذاً مهندس الخليقة. والأمر الأكثر غرابة في هذا التعليم، أن الإبن يمكن أن يتحوّل ويتغيّر كما يتحول ويتغير البشر، لأن طبيعته قابلة للتغير.
وهكذا إستمرت النقاشات المشهورة جدا لعشرات السنين، سواء على المستوى الشعبي أو في غرف المدارس أو من على المنابر الكنسية، الى أن أخذت الأمبراطورية الرومانية موقفا صارما وحازما، فأمرت المتخاصمين بتشكيل مجامع كنسية تاريخية، لغرض نزع الفتيل وفك الإشتباكات الدموية بين الأطراف المتنازعة. وكانت النتيجة نجاح الصوت الشعبي المؤمن، وذلك بسبب حب الناس الفائق لشخص يسوع المسيح الذي آمنوا به إلها حقيقيا، وكذلك بسبب إيمانهم العميق بعمل الروح القدس، وبكونه إلها حقيقيا يعمل في حياتهم الروحية. فالضجة التي أحدثتها هذه القضية في القرن الرابع الميلادي، دليل قوي على أنّ الكنيسة، حتى ذلك الوقت، لـم تكن تشك في لاهوت المسيح. وإلاّ لتمّ تجاهل تعليم آريوس على أساس أنه أمر عادي. لقد صيغت العقائد التي كان يؤمن بها المؤمنون أثناء هذا الجدل، بما في ذلك إيمانهم بأنّ المسيح هو الله. وقد دعي المجمع لغرض إيجاد حل (كنسي) لهذه المسألة في مجمع عام سمي بمجمع نيقية (عام 325م). وبعد ثلاثة أشهر من التفكير المتروي المُجهد، أكد المجمع ألوهية المسيح. وتـمّ طرد آريوس والكاهنين الآخرين اللذين ناصراه على أساس أنهم هراطقة.
وإشتهرت تلك الفترة الزمنية من تاريخ الكنيسة بوجود لاهوتيين عظام ومفكرون يُشار لهم بالبنان مثل القديس أثناسيوس والقديس باسيليوس والقديس غريغوريوس الذين ساعدوا في صياغة الإيمان "إيمان الشعب" والكلمات المعروفة التي جاءت من تلك الصياغة الشاملة والمقبولة من الشعب والكنيسة والتي تختصر في: أن سر الآب اللامنظور هو مصدر كل شئ، وسر الابن المُتجسد هو ظهور الآب ومصدر خلاصنا، وسر الروح القدس المُحيي هو رباط الشركة مع الله وعامل تقديسنا في الكنيسة وعربون قيامتنا. وختم الجميع تحت هذه الصيغة: هذا هو إيماننا، هذا هو إيمان الكنيسة، هذا هو الإيمان الذي نعلنه بإفتخار في المسيح يسوع ربنا: إله من إله ونور من نور، إله حق من إله حق، مساو للآب في الجوهر وبالروح القدس، الرب المُحي والمُعطي للحياة، والذي يُسجد له ويُمجد.
وجدير بالاشارة أن العبارة مساو للآب في الجوهر هي عبارة يونانية أصبحت رسميا ومنذ ذلك اليوم، الأساس الأهم للإيمان الحقيقي الذي يثبت إلوهية الإبن وإلوهية الروح القدس من دون أدنى شك. وإستطاع المسيحيون بعد ذلك عبادة الله الواحد في ثلاثة أقانيم ببهجة وسعادة حقيقية.
ولم تضحمل في الحقيقة الآريوسية بعد المجامع الكنسية في تلك الفترة الزمنية، إذ بقيت تعشعش في جماعات دينية منفصلة لقرنين من الزمان بعد تحريمها، ولكنها تلاشت من الوجود تقريبا بعد الإحتلال الإسلامي سواء في شمال أفريقيا حيث نشأت وترعرت أو في اسبانيا بعد الدخول الإسلامي فيها، ولم يعد لها بعد ذلك مجال للوجود أو البقاء.
الأحادية أو الواحدية
الفكرة التي تقول بأن الله الآب وحده هو الله، وبأن يسوع المسيح والروح القدس ليسا كذلك، هي الفكرة التي تسمى بالأحادية أو الواحدية التي ظهرت للوجود وللمرة الثانية في أوروبا في القرن السابع عشر. وترتكز الفكرة في مبادئها على وحدة المطلق الذي هو الوجود بذاته ومن ذاته ولذاته. وتتصور الفكرة على عدم عقلانية وجود الثنائية المانوية أو الكثرة "الثالوث" في صعيد الوجود المطلق. إذ أن هناك مسافةٌ تفصل بين الإنسان والطبيعة، وبين الخالق والمخلوق، وبين الجسد والروح، مما يعني أن هناك ثنائيّة أساسيّة في الكون، وأن الكون متنوِّع ومتعدِّد وغير مُتجانس، فيه المطلق وفيه النسبي، فيه الثابت وفيه المتحوِّل، قد يَتصارعان ويتَقابلان ويتفاعلان ولكنهما مختلفان.
وقد جاءت الواحدية أو الأحادية بعد الانشقاق البروتستني إلذي فتح الباب على مصراعيه للاجتهادات والانشقاقات الكنسية. وأنكر المنشقون كل المجامع الكنسية ونتائجها العقائدية عبر القرون. وبلغ تعصب تلك الحركات مبلغا كبيرا نتج عنه ما يسمى بحركة الاستنارة أو التنوير التي كانت تعتبر التيار الفكري الأساسي للدعوة إلى تحرير الإنسان من الغيبيات بهدف ترشيده، ولتحطيم سلطان العقيدة، وللسماح بقيام الجدل كأمر بديل للدين أو أساساً له. وتطورت الأفكار التنويرية تدريجيا لظهور ما يُسمى بالإلحاد، والذي شكل تحديّا جديّا كبيرا واجهته المسيحية ولا تزال تعاني من تبعاته بقوة وصرامة. ولا شك في أن هذا الفكر، وكذلك التحولات الاجتماعية التي أدَّت إليه ونجمت عنه في الوقت نفسه، قد تركا أعمق الأثر في وجدان المؤمنين، أزمة أعمق بكثير من أزمة الجدل بين الكاثوليكية والبروتستنتية في العصور الوسطى. ولما لم يكن لعامة الناس، القدر الكاف من الوسائل الثقافية في فحص وتدقيق الحقائق، كانت النتيجة المتوقعة، وقوع الناس في المطبات التي أدت الى نشوء تيار الربانيين الذين آمنوا بوجود خالق واحد، خلق العالم وكل ما فيه من أفلاك كونية وكائنات حية، ولكن الله بحسب هؤلاء، ترك العالم لمصيره من دون أن يتدخل فيه البتة. وكانت تلك الخطوة الأولى نحو الإلحاد نوعا ما، إذ استغنى أتباع التيار عن فكرة الله، وإعتمدوا فقط على العالم كظاهرة تفسر ذاتها بذاتها، ومن دون الحاجة لوجود إله يفسر وجوده.
وعلى أية حال، يبدو أنه من النادر جدا إثبات وجود الملحدين الحقيقيين في العالم، فمعظم الذين يدعون الإلحاد هم مؤمنون بوجود قوة مطلقة في الكون. ولكن عندما ندرس المادية الديالكتيكية وهي من التيارات الإلحادية القوية، فإننا نتعامل حقيقة مع الإلحاد الحقيقي، فالنظرية المادية تبدو أن لها رؤيةً شاملةً للكون والإنسان والحياة، وتستبعد وجود الخالق، وكذلك تستبعد حقَّه وتدبيرَه في أيِّ تشريع أو نِظام، وترى أنَّ القوانين المادية هي فاعلة ومؤثرة ومتحكمة في الكون والحياة والإنسان، فلا حاجة لأيِّ مؤثر خارج المادة، والكون بآلياته الموجودة مُكتفٍ وان الفكر هو نتاج المادة، والمادة ليست نتاج الفكر.
وعندما نقترب من هذه المبادىء الإلحادية وخاصة المبادىء المادية الديالكتيكية، فإننا نقف حيارى تجاه أفكارها التي تلغي المسيحية، وتلغي كذلك الأسس التي بنيت عليها، ولكننا مع ذلك لا نسميها اليوم بالهرطقة.
الحلولية أو وحدة الوجود
هناك العديد من الديانات والفلسفات التي تحمل المبادىء الأحادية أو الواحدية والتي تقول بتأليه الكون أو بما يسمى بوحدة الوجود Pantheism”" ولا يميّز أتباع هذا الرأي بين الله والكون بل يعتبرونهما شيئاً واحداً. وبإختصار شديد فإن الله يحلُ في كل شيء، وكل شيء هو الله. وبما أن كل شيء هو الله، فأنتم أيضاً الله. ويتحدث أتباع العصر الجديد أحياناً عن الله بإستخدام عبارات شخصية، ولذلك يفهم معظمهم الله وكأنه في النهاية غير شخصي. وغالباً ما يشار إلى الله وكأنه قوة أو طاقة.
ظهر المبدأ في القرن التاسع عشر لغرض الربط بين التوحيد والواحدية، ويتصور المبدأ بأن الله موجود في كل مكان في الكون المادي، وهو جزء منه وخالقه وطاقته. بينما تعتبر الأحادية أو الواحدية أن الله مماثل للكون كله، فإذاً الله والطبيعة والكون المادي شيء واحد. ويشمل المفهوم كل شىء من الطبيعة والبشر والحيوانات والنباتات. فالشجرة هي الله، والصخرة هي الله، والحيوانات هي الله، والسماء هي الله، والشمس هي الله، وكل واحد منا هو الله. ولذلك فالمسيح يسوع بحسب هذا المفهوم هو الله، ولكن ليس أكثر مني ومنك أو من أي كائن حيّ آخر.
يبدو أن الغالبية من الناس اليوم يمارسون نوعا من أنواع الحركات العصرية الجديدة، ويُعد مفهوم الحلولية من أكثر الفرق قبولا وإنتشارا في الغرب. وبالرغم من كل التجاوزات التي تبديها حركات العصر الجديد من الإهانات والتعدي الفاضح للديانات وخاصة المسيحية، إلا أننا يجب كمسيحيين أن نتعامل مع الحالة بتفهم ومحبة صادقة، وأن لا نلقي الإتهامات جزافا بل أن ننظر الى هذه الفرقة كديانة جديدة، وأن نتعامل معها على هذا الأساس.
ويطلق الكتاب المقدس تحذيرات شديدة اللهجة لأولئك الذين يخلطون الله مع خلقه، ويعلمنا الكتاب على أنه بالرغم من أن البشرية خُلقت على صورة الله، فلا يمكن للبشر أبداً أن يكونوا الله. وما تشترك فيه كل تلك الأفكار المغلوطة عن الله هو لغرض جعل الخلاص عن طريق المسيح يسوع من دون معنى، ولإفراغه من معانيه العقائدية، كما سوف نرى في الفصل الثالث.

الفصل الثاني
الهرطقات ضد طبيعة المسيح
عندما نتكلم عن الله في الثالوث الأقدس فإننا نعود ثانية للنظر الى شخص يسوع المسيح كقوله لرسله: "من تفكرون إني أنا" (انجيل متى 16: 15 ). وقد إحتاج المؤمنون الأوائل ثلاثة قرون لتطوير الصيغة العقائدية التي ختمها الجميع قي مجمع نيقية سنة 325 م قائلين: هذا هو إيماننا، هذا هو إيمان الكنيسة، هذا هو الإيمان الذي نعلنه بافتخار في المسيح يسوع ربنا. وقد دارت النقاشات في المجمع حول الله والثالوث، وإحتاج المؤمنون أيضا قرنا آخر من الزمان للوصول الى الفهم الصحيح حول طبيعة المسيح. علما أن الكنيسة عانت من الهرطقات التي طعنت في طبيعة المسيح اكثر بكثير من الهرطقات الأخرى.
ليس المسيح انسانا حقيقيا
شهدت العهود المسيحية الأولى وفي عهد الرسول يوحنا الحبيب بالأخص، وجود فرقة من الهراطقة، تدور تعاليمها حول شخصية يسوع المسيح، والتي كانت تركز في مجملها حول أن الرب يسوع لم يصير انسانا بالفعل، وانه لم يتالّم على الصليب، فكُل ما هنالك أنّه ظهر للعالم بأن له طبيعة بشرية. وتتبين آثار تلك الهرطقة في انجيل يوحنا نفسه والذي يؤكد ما يبطل قول هؤلاء في مقولته المشهورة: "يسوع المسيح الذي جاء بالجسد" (يو 4 : 2 – 3 ) وكان أتباع تلك الفرقة يُدعون بالدوسينيين، والكلمة مشتقة من اللغة اليونانية" dokein" ويسمون بالمظهرية أو المظهرانيين. ويبدو أن الفكرة مقتبسة من الديانات البدائية القديمة، والتي كانت تعتقد بمجى أحد الآلهة الى الأرض مُدّعيا أنه جزء من الجنس البشري، ولكنه ليس كذلك. وفي تلك القصص كان الإله "جوبيتر" يقوم بهذه المُهمّة على أمل اللقاء بالمرأة المطلوبة. وكذلك اليهود إذ كانوا يعتقدون بأن الملاك قد يأتي الى العالم بهيئة بشرية وبشكل شبح، كما جاء في سفر طوبيا.
ولذلك كان من السهل على البعض فهم مجىء المسيح الى العالم بهيئة تنكرية أو بهيئة ملاك كما في بعض المعتقدات الهرطقية. وقد إضمحلت تلك العقيدة ولكن آثارها لا تزال كامنة في قلوب وأفكار البعض من المؤمنين الذين يجدون من الصعوبة بمكان القبول بأن المسيح انسان حقيقي كواحد منا، ولكنهم يعتقدون أنه إله كامل وبطبيعة إلهية صرفة. ويشهد التلميذ الحبيب يوحنا البشير الذي عاش مع المسيح عن قرب على أنَّ المسيح "حل فيه ملء اللاهوت حلولا جسديا" (كولوسي 2 : 8 ) وأنَّ الله قد جاء الى العالم كإنسان، أخذ طبيعتنا البشرية، وعلى أنَّ يسوع هو الله المتجسِّد عندما يقول: عمَّا سمعناهُ ورأيناهُ بعيوننا، وشاهدناهُ، ولمسناهُ بايدينا )1يوحنا 1 : 1 .( فيوحنا البشير رأى يسوع وتكلَّم معه، ولَمسه، وعرف أنه ليس مجرّد روح فقط . ويؤكِد يوحنا في أول جملة في انجيله: "في البدء كان الكلمة، والكلمة صار بشرا وعاش بيننا " (يوحنا 1 : 14" . وبعبارة أخرى أنَّه (أي يسوع المسيح ) إله وإنسان في نفس الوقت، دخل في تاريخ البشرية وعاش بيننا.
ويتهجم البشير يوحنا في رسالته ضد القائلين أن المسيح يسوع ليس إنسانا حقيقيا. ويؤكد الإنجيلي على بطلان تلك العقيدة الفاسدة، وبإعتبارها قمة في التمرد والعداء للمسيح، لأنه لو لم يكن يسوع واحد منا، مما يعني أن يسوع، كان يتنكر في حياته معنا، ويتنكر في أكله وشربه، ويتنكر في آلامه وموته، وبالتالي يتنكر في محبته لنا.
ليس المسيح إلها حقيقيا
أن الفكرة القائلة بأن يسوع المسيح لم يكن أكثر من إنسان عادي، هي من الأفكار الغريبة والنادرة جدا في تاريخ الكنيسة، والفرقة التي كانت تتبنى تلك المبادىء سُميّت بالأبيونية المشتقة من اللغة العبرانية والتي تعني"الفقراء". فالغريب في أمر تلك الفرقة أن النقاشات اللاهوتية في العهود الأولى للمسيحية كانت في معظمها تدور حول ألوهية يسوع وطبيعته البشرية. ولكن يبدو أن البعض من الآريوسيين ولغرض تسهيل وتبسيط الإيمان المسيحي، نادوا بإعتبار المسيح مُجرّد إنسان عادي، ولكن الشعب المؤمن بفطرته الإيمانية رفض مثل تلك الطروحات الهرطقية المغلوطة. الى أن جاءت بعض التيارات الفكرية المعاصرة والتي نظرت الى يسوع على أنه كان معلما يهوديا مسالما، بإعتبار أن الخطوط العريضة للصور التي يظهر فيها يسوع المسيح في الأناجيل لا يمكن الوثوق بها. فالإضافات الكثيرة في الأناجيل (بحسب رأي تلك الفرقة) نتجت في معظمها من خيال التلاميذ وأتباعهم بإعتبار ذكرياتهم كانت مشوشة ومغشوشة، وما أضافوه الى الأناجيل إنما كان من منطلق محبتهم لشخص معلمهم يسوع، وعواطفهم الجياشة تجاهه. لذلك فإذا أردنا إكتشاف شخصية يسوع المسيح، فما علينا إلا تجريد العهد الجديد من تلك الإضافات الغير الضرورية، وحينئذ فقط نستطيع رؤية شخصية يسوع التاريخية وبإعتباره مُجرّد معلم يهودي مسالم، لا أكثر ولا أقل.
ففي الحقيقة لم يترك هؤلاء النقاد شيئا من انجيل يوحنا "الإنجيل الرابع" إذ إستبعدوا حتى أن يكون كاتبه شاهدا للعيان. وكذلك الأمر بالنسبة الى الأناجيل الأخرى التي جردوها من معظم القصص والأقوال. ولكن لسوء حظ هؤلاء النقاد إن معلوماتنا عن بيئة العهد الجديد، أي عن الإيطار التاريخي والثقافي للقرن الميلادي الأول، قد تطوّرت بشكل ملحوظ منذ بضعة عقود من السنين، وذلك على أثر الكثير من الاكتشافات الاثريّة التي تؤكد على صحة مجموعة كبيرة من التفاصيل الواردة في الأناجيل والتي تؤيّدها أيضا المنحوتات القديمة والكتابات المنقوشة التي تثبت أصالة وعراقة الأناجيل والتي ترجعها الى عهد الرسل الذين كانوا شهود عيان للمسيح. وفي الوقت نفسه تثبت عدم وجود أية وثيقة تاريخية تجعل من يسوع مُجرّد معلم يهودي صالح. لأنه لو كان يسوع كما يدعون، فلمذا إذا أراد أعداءه قتله وتعذيب أتباعه؟ فالذين إدعوا بأن يسوع ما هو إلا"معلم يهودي صالح" هي إذاً فكرة هرطقية نبعت من أفكار الذين فقدوا إيمانهم المسيحي، وليس غرضهم إلا تبريرا لوضعيتهم الجديدة خارج الإيمان. ففي تفسيراتهم وتأويلاتهم يقتربون من مفاهيم العصرانية، والتي سوف نتاولها في الفصل الخامس.
النسطورية
ظهرت في القرن الخامس الميلادي هرطقتين جديدتين هما"النسطورية والمونوفيزية" والتي كانت تعتقد ضد ما تعتقد به الفرق الهرطقية الأخرى مثل الأبيونية والدوسيتية، وعلى العكس منهما تماما. وكان نسطوريوس رئيسا للأساقفة في القسطنطينية، جذب الإنتباه إليه عندما رفض دعوة مريم العذراء " أم لله " وباليونانيةTheotokos) ثيوتوكوس) وفضل بدعوتها " أم المسيح " وباليونانية Christotokos) خريستوكوس)، مما يعني بحسب رؤيته اللاهوتية أن مريم كانت أما لطبيعة يسوع البشرية فقط، وليس أما للأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس وهو (الكلمة - لوغوس).
فالنسطورية إذا هي العقيدة القائلة بأن يسوع المسيح مكوّن من جوهرين يعبر عنهما بالطبيعتين وهما: جوهر إلهي"الكلمة"، وجوهر إنساني أو بشري "يسوع" المولود بشريا من مريم البتول. ولذلك لا يمكن القول بوجود إتحاد بين الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص يسوع المسيح، بل مُجرّد صلة بين إنسان والألوهة، أي أنه كان يرى أن المسيح انساناً حمل طبيعة إلهية أو هو لوغوس مقترناً بطبيعة إنسانية، وبالتالي لا يجوز إطلاق أسم والدة الإله على مريم العذراء، لأنها لم تلد إلها بل إنساناً فقط، حلت عليه كلمة الله أثناء العماد وفارقته عند الصليب. فيكون هذا المذهب بذلك مخالفاً للمسيحية التقليدية القائلة بوجود أقنوم الكلمة المُتجسد الواحد ذو الطبيعتين الإلهية والبشرية.
وكان رأي الكاثوليك في الموضوع أن الفكرة ليست خاطئة طالما بقيت في إيطار الإعتقاد السائد في كون يسوع شخص واحد في طبيعتين بشرية وإلهية، ولكن نسطوريوس وقع في وضع لا يُحسد عليه بسبب سوء الفهم العميق بينه وبين أتباعه، إذ فُسرت خطاباته من قبل أتباعه بأن هناك شخص واحد هو يسوع ابن مريم وهو شخص بشري مثلنا تماما، وهناك أيضا شخص ثاني وهو "الكلمة" الذي عاش فيه وتكلم من خلاله. ويبدو أن ما يقوله يشبه كثيرا القول أن يسوع كان مُجرّد نبي، تكلم الله من خلاله للبشر.
لقد حوربت النسطورية بقسوة شديدة في مجمع أفسس سنة 431 م مما أدى الى انشقاق قسم كبير من المسيحيين في الشرق الأوسط عن الكنيسة الأم، وقد تم ذلك لأغراض سياسية صرفة، وقام أتباع نسطوريوس بتأسيس ما سمي بالكنيسة النسطورية التي لم يكن لنسطوريوس يد في تأسيسها، وإن كانت تؤِمن بمبادئه. ويؤكد أتباع نسطوريوس بأن الصيغة التي استعملها نسطورس في وصف التجسد، لم تكن صيغة هرطُقية، ولم تكن مخالفة للآباء الرسل، بل العكس فانه كان يعطي العبارات الصحيحة والمناسبة لذلك، ولكن لعدم دراستها دراسة وافية، أدى الى الحكم عليها كهرطقة.
ولكن بعد موت بطريرك الأسكندرية القديس كيرلس مباشرة بعد مجمع أفسس، وجد أتباعه فرصتهم الذهبية في الهجوم على أتباع نسطوريوس، ووقعوا أثناء محاربتهم للنسطورية في هرطقة جديدة دعيت بالمونوفيزية أو مذهب الطبيعة الواحدة الذي يقول بأن الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية إنصهرتا في يسوع المسيح بشكل جعل منهما طبيعة واحدة في شخصه أي لم يبقى يسوع إنسانا حقيقيا ولا إلها حقيقيا بل شخصا واحدا بينهما. وعلى إثر ذلك عقد مجمع خلقيدونية سنة 451 م وبمساعدة من البابا الكاثوليكي "ليو الأول" فإستخلص الجميع الصيغة التاريخية التي تؤكد على أن يسوع المسيح "إله حقيقي وإنسان حقيقي في شخص واحد وبطبيعتين". ولم تسلَم الكنيسة من بذور الفتنة والانشقاق، إذ على أثر المجمع إنشقت الفرقة التي تقول بالطبيعة الواحدة مشكلة طائفة مستقلة تحت أسم "المونوفيزية" وكان للأسباب السياسية دورها الواضح في ذلك أيضا. ولأن معظم المونوفيزيين عاشوا في مصر، ولذلك سموا بالأقباط في حين أن أتباع الكنيسة الأرثوذوكسية سموا بالملكيين أي أتباع الملك أو كنيسة الملك لبقاءهم متحدين مع الملك (الأمبراطور).
وشعر المسيحيون بفرح شديد من قرارات مجمع خلقيدونية سوى بعض الهرطقات الصغيرة التي كانت تناقش في موضوع طبيعة المسيح، والتي إندمجت فيما بعد مع الكنيسة الملكية تحت صيغة مشتركة تتمثل في وجود إرادة واحدة للمسيح في طبيعتين.
ولعل العرقلة الكبيرة في الألفية الأولى للمسيحية تتمثل في هرطقة محاربة إكرام الأيقونات والتي كانت جزءا من الهرطقة الأقدم والتي سميت بالدوسيتية. وقد بدأت الدوسيتية بمنع كل انواع التمثيل والتصوير للمسيح وللقديسين، ولذلك قام أتباع تلك الفرقة بتحطيم الإيقونات والصور والتماثيل للمسيح وللقديسين، وقرروا كذلك قتل كل من يحتفظ بها. ولكن إنتصار الأيمان الصحيح للكنيسة في الجدالات والنقاشات شكل متنفسا كبيرا للمؤمنين الذين إعتبروا الصور والإيقونات، تمثل لهم عونا كبيرا أثناء الصلوات. فإن تمثل الرب يسوع المسيح ووالدة الإله والقدّيسين تعد بحد ذاتها ظاهرة إنسانية يذكر المؤمنون من خلالها نعم الله عليهم، وهي كذلك بمنزلة كتاب للعامة تمدّ إليهم أسرار الله وإحساناته وحضوره، وتحرض على اقتفاء سير القدّيسين.
وكان للأقباط المصريين مقاومة أشد من النساطرة تجاه الضغوطات التي مثلها الإسلام ضدهم، ولكن بسبب إنشقاقهم من الكنيسة في الغرب جعلهم ضعفاء نوعا ما تجاه الضغوطات بمرور الزمن. وأما بالنسبة الى النسطورية فقد واجهت كل أنواع الصعوبات والمشقات، ولكنها لم تستطع مقاومة الديانة الإسلامية ذات النظرة المشابهة لها تجاه المسيح، الذي تعتبره نبيا تكلم من خلاله الله. وقد يكون هذ السبب المباشر في قبول الكثير من النساطرة للديانة الإسلامية الجديدة.




الفصل الثالث
الهرطقات ضد الخلاص
إذا ما سالنا عن السبب الذي يجعلنا دقيقين جداً في تقيمنا لموضوع طبيعة الله أو لشخص يسوع المسيح؟ فالجواب في طبيعة الحال هو لأن الموضوع يؤثر على خلاصنا لدرجة أننا لو توصلنا الى فهم الله والمسيح بصورة خاطئة، فإننا في هذه الحالة سوف نخسر آمالنا في السعادة سواء في هذا العالم أو في العالم الآتي.
وهذا يعني أننا نخلص فقط في المسيح يسوع الذي هو علاج الله الوحيد لخطيئة الإنسان، إذ أننا بواسطته وحده يمكننا أن نعرف محبّة الله وخطّته الخلاصية لحياتنا، وهو الوحيد الذي به ننال الحياة الأبدية لأننا به نشترك في البنوة لله، بالرغم من أننا بشر، ومع ذلك نصير آلهة ليس مثل الأله الحقيقي بل بحسب نعمة الذي دعانا وشاركنا في إنسانيتنا وعذاباتنا (القديس اثناسيوس مقالة في التجسد). فالرابط الحقيقي مع الله الخالق نجده من خلال يسوع المسيح ابن الله المتحد مع الله الآب، والذي جاء ليشترك معنا في طبيعتنا البشرية كإنسان حقيقي، ولو لم يكن إنسانا حقيقيا فحينئذ سوف لا يكون لنا علاقة مباشرة معه، ولو لم يكن إلها حقيقيا، فحينئذ نكون في طبيعتنا البشرية بعيدين عن الله.
البيلاجية
إذا لم يكن لدينا الرابط الحقيقي من خلال إنسانية يسوع فنحن إذا نستطيع الإتكال على أنفسنا والمحاولة بجهودنا الخاصة للتحرر من قيود الحياة. تقودنا هذه الفكرة مباشرة الى هرطقة أكثر شهرة من كل الهرطقات وتسمى "البيلاجية".
ليس من المؤكد ما إذا علّم هذه الفكرة "بيلاجيوس" نفسه أم غيره، إلا أن الفكرة تختصر ببساطة شديدة على أن يسوع المسيح أعطانا أمثلة بسيطة، وكان هو نفسه الرمز والقدوة لكي نتصرف مثله ونقتدي به، ولكن المسألة تتوقف علينا نحن فيما إذا إنتهجنا نهجا يقودنا للإنتصار على الشر في حياتنا وبقوانا الخاصة، ولكي نكون مؤهلين للحصول على الأبدية. فالبيلاجية تقصد بأنك لا تحتاج الى يسوع لتفعل ذلك، بل تستطيع النجاح من دون يسوع جملة وتفصيلا. ونستنتج من ذلك أن الإقتداء بتصرفات ومثال أي معلم ديني آخر قد يقوم بالعمل نفسه تقريبا. علما أن البيلاجية تستند في هذه الحالة على الكبرياء البشري، وتدل على أننا في الأصل أقوياء: أي نحن نستطيع بناء ذواتنا بقدراتنا الخاصة.
فالأسرار الكنسيَّة بحسب هذا المفهوم تصبح من دون أي داع لوجودها، بل تفيد فقط في الإحتفالات الشعبية وللظهور أمام الناس بأننا متدينون صالحون، ولكن ليس لها في ذاتها مفعول أو فائدة تذكر. وإنطلاقا من هذا المفهوم تفقد الكنيسة أيضا أهميتها، وتصبح مجرّد ناد إجتماعي يجتمع فيها الناس ليهنئوا بعضهم بعضا. وكذلك الأمر بالنسبة الى الخلاص والفداء، إذ تتعطل مفاعيلها وتبقى مفاهيم جامدة ومن دون معنى تذكر. وقد وقعت إتجاهات كثيرة في اللاهوت المعاصر في هذه المطبات والمغالطات، ومن دون أن يطلعوا على مفاهيم البيلاجية في طبيعة الحال.
والغريب في أمر البيلاجية أنها لا تنجح مطلقا. فإذا أردنا أن نجعل من أنفسنا كاملين بجهودنا الذاتية ومستخدمين الأناجيل كإرشادات أخلاقية فقط، فإننا سوف نفشل بالتأكيد. أنا شخصيا على يقين من ذلك، لأنني حاولت بنفسي وفشلت. وإننا بالتأكيد سوف نفشل وإن إستأصلنا كل الأمور الغير المرغوب فيها من حياتنا، وأبعدنا كل العناصر الإجتماعية الغير المقبولة من شخصياتنا، فإننا مع ذلك سوف نكون أناسا يملاؤنا الكبرياء، وهذه في طبيعة الحال من أشد أنواع الخطايا خطورة. والأسوأ في أمر البيلاجية الجديدة هو أنها لا تستطيع تمييز خطورة الكبرياء وتقدير سيئاتها الكثيرة. ومن المدهش، أن البيلاجيين يتصورون الكبرياء أمر جيّد ومقبول، ولهذا فهم لا يملكون حتى روح الدعابة والنكتة في حياتهم الجافة.
تنكر البيلاجية بأننا نحتاج الى عون إلهي نسميه النعمة، وتنكر أيضا أن الله يأخذ المبادرة ويعطينا النعمة. ولكننا وبحسب روح المسيحية الحقيقية نعلم أننا من دون عمل الله سوف نبقى متأرجحين في عالم ملييء بالحياة القاسية والقصيرة. لأن الله أخذ المبادرة وجاء في شخص إبنه إلينا لينقذنا من عالم خربناه ودمرناه بأيدينا.
وتركز الكنيسة على تلك المبادرة في وثائق تعليمية خاصة كما في وثيقة الحبل بلا دنس أصلي، ووثيقة الولادة البتولية ليسوع. ويصعب على الناس فهم الفكرتين لأنهم يخلطون كثيرا بينهما، ففي الحبل بلا دنس أصلي، نعني أن الله إختار مريم "قبل أن يبدأ الخلق" وجعلها إنموذجا صالحا وغير مدنس للبشرية جمعاء، لكي ما تكون حرّة في إختيارها لدور أم لله، وتلك كانت مبادرة الله، إذ لم تكن مريم مختارة لأنها كانت صالحة، ولكنها كانت صالحة لكونها كانت مختارة. والأمر الثاني، الولادة البتولية، أي من دون أب بشري. وتركز الكنيسة أيضا في هذه المبادرة على الله: إذ أن يسوع ولد "ليس من الجسد ولا من إرادة إنسان بل من الله" (يو 1:13). وتعتبر الكنيسة الذين ينكرون مفهوم الحبل بلا دنس أصلي، والمفهوم الولادة البتولية، هراطقة، لأنهم بهذا يرفضون الإيمان، ويرفضون كل مفاهيم النعمة ومبادرات الله وحب الله لنا في نعمته.
القدرية
يعد مفهوم نكران النعمة وقيمتها الخلاصية من أكثر المفاهيم الهرطقية الأخرى خطورة. ويتمثل هذا المفهوم بما يسمى بالقدرية، والذي يتجلى على الأغلب في الكنيسة الكالفينية والجانسينية. وقد إطلعا كالفين وجانسين وهما من المؤسسين لهاتين الكنيستين، وبصورة شاملة وعميقة على أعمال القديس أوغسطينوس الذي كان له رد فعل قوي ضد بيلاجيوس وفكرته القدرية. وقد فتح بيلاجيوس الباب على مصراعيه أمام كل أنواع التفاسير الإيمانية الخاطئة وخاصة في مسألة حكم القدر المُحدّد من الله مسبقا قبل أن نولد، مما يعني أن الله يُحدد قبل أن نولد فيما إذا نذهب للسماء أو للجحيم. ومهما فعلناه فنحن لا نستطيع أن نغيّر من الأمر شيئاً. وهذا يدل بالتأكيد دلالة واضحة على نكران محبة الله ورحمته العظيمة: ففيما إذا كان مقدر لنا أن نذهب للسماء، برغبتنا وعدم رغبتنا، إلا أننا ليس بالضرورة أن نحب إلها يفرض علينا إرادته ويسيّرنا من دون إختيارنا ومن دون إرادتنا الخاصة. وبالاضافة الى ذلك، كيف لنا أن نحب إلها، قرر مسبقا بأننا سوف نتعذب في الأبدية، ومن دون سبب سوى أنه لا يريد لنا الخلاص. والمُرعب والمثير في مسألة القدرية المزدوجة، هو أنها تعاليم شخص كالفيني متعجرف، جعل من شخص مثل "ويسلي" يصرخ قائلا: "ما تقول عنه الله، أنا أدعوه الشيطان".
وتنكر الكلفينية التي تمارس في هولندا وجنوب افريقيا والأماكن الأخرى، كل أنواع الأسرار المسيحية والإحتفالات الدينية، وتعتبرها غير لازمة وغير ضرورية. لأنه لما كانت النعمة أمرا إعتباطيا فما من داع لمعمودية الأطفال، ولذلك فالذين يمنعون معمودية الأطفال يدعون بالمعمدانيين. وتعتبر المعمودية من وجهة نظرهم، مثل العشاء الأخير، إذ تدل على الوعي الحقيقي على أننا نخبة من المختارين الذين حصلوا على الخلاص.
الجانسينية
تتميز الجانسينية التي مورست في فرنسا بأنها لم تلغي ممارسات الأسرار والإحتفالات الدينية العلنية، ولكن مع ذلك أفرغتها من معانيها الحقيقية. فالجانسينية والكلفينية كلاتاهما استخدمتا لغة النعمة ولكن بصورة مشوهة: هناك مقولة معروفة وعامة وهي أن"النعمة لا تقاوم" . فإذا كنا مختارين للحصول على النعمة فلا يمكن أن نفقدها مهما فعلناه ونفعله في حياتنا. ففي هذا المعنى وفي تلك الأجواء، من الممكن أن تحدث أمورا فضيعة ومُرعبة، كنتيجة طبيعية لهذه المغالطات الفضيعة. ولكن المفاهيم ساهمت في حقيقة الأمر في ضبط المشاعر لأتباع تلك الفرقة، بالرغم من إعطاء القيمة الزائدة للكبرياء، إذ كان يقال عن الجانسييين بأنهم "كالملائكة في طهارتهم وكالشياطين في كبريائهم". ففي حقيقة الأمر، أن القليل من الذين لهم الخلفية الكلفينية يتبعون المفاهيم القدرية المزدوجة. ومن سخرية القدر أن النتيجة العادية لهؤلاء ترجع ثانية الى البيلاجية، لأن المجتمعات الجانسينية تعلم أتباعها كيفية تنظيم حياتهم وتصرفاتهم بحسب تعليماتهم القاسية.
وجدير بالاشارة أنه من الممكن مقاومة النعمة الإلهية، ويعطي يسوع تعليمات في الأنجيل حول هذا الموضوع في أكثر من مقطع انجيلي، ويُعد إيهودا الأسخريوطي مثال مهم على ذلك. وكذلك مريم العذراء التي قبلت الدعوة الإلهية والتي كان لها مطلق الحرية في الإختيار، ولكن الإختيار تم كما قالت في انجيل لوقا "أنا خادمةُ الربِّ: فاليكنْ لي كما تقولُ" (لوقا 1 :38). وكانت مشاركتها في عملية الفداء ضرورية وجزء مهم في العقائد الكاثوليكية، وكل واحد منا عليه أن يتمم العمل نفسه في الطاعة لنعمة الله المجانية والمهداة لنا جميعا ومن دون مقابل.
الصوفية
عمل الطاعة يجب ان لا يقدم مرة واحدة في الحياة فقط، بل بالأحرى كل يوم. ويعد هذا المفهوم المسيحي عكس ما تقوله الصوفية المسيحية والتي تعد فكرة هرطقية مرفوضة بكل معنى الكلمة. وقد جاءت الفكرة الهرطقية كجزء من رد الفعل ضد الجانسينية، ومن تعاليمها المغلوطة: أنك تحتاج الى تقديم الطاعة لإرادة الله مرة واحدة فقط في الحياة، ولا تبالي بعد ذلك لأي شىء على الإطلاق. ولكن المسيحية تؤكد على العكس من هذا المفهوم تماما، إذ تؤكد على أننا طالما كنا أحياء فيجب علينا تجديد حبنا وطاعتنا لله، كما يذكر القديس بولس في رسالته الى أهل فيليبي: "واَعملوا لخلاصِكم بِخوفٍ ورعدةٍ، لأن الله يعمل فيكم ليجعلكم راغبين وقادرين على إرضائهِ. ولا أدّعي أني فزت بذلك أو بلغت الكمال، بل أسعى لعَلي أفوز بِما لأجله فاز بي المسيح يسوع" (فيليبي 2 : 13 ، 3: 12 ).









الفصل الرابع
الهرطقات ضد طبيعة الكنيسة
لم تترك الهرطقات في حربها ضد الكنيسة أي جانب من جوانب المسيحية إلا وأقامت حجة مخالفة تحارب فيها الكنيسة. وما سوف نبحثه في هذا الفصل هو حرب الهرطقات ضد طبيعة الكنيسة، ولذلك سعت الكنيسة في عقائدها الإكليسيولوجيا الكاثوليكية، على تجميع أجزاءها المنشقة عنها لترجع صفتها العالمية الشمولية، وتحت إدارة أسقف واحد يكون مركز ملء الكنيسة ومصدره. ومن هذا يدلّ ضمناً على مفهوم الكنيسة من خلال "الأجزاء" و"الكلّ". ويسعى اللاهوت الكاثوليكي أيضا للتأكيد على إمكانية تحرك الأجزاء المختلفة لتجتمع في نظام إنضباطي واحد هو الكلّ، ومن خلال هذا الكلّ يجب أن تتحّد الأجزاء بالكنيسة الأم.
وحدة الكنيسة
جاء في التعليم العقائدي القديم في طبيعة الكنيسة الكاثوليكية وهو أنها واحدة: "أؤمن بكنيسة واحدة، مقدسة، رسولية، كاثوليكية". ومن المدهش جداً أن هذه المقولة التاريخية يرفضها البعض، إذ أنهم كثيرا ما يرددون بوجود الكنائس الأخرى، ويفضلون إستخدام صيغة الجمع عندما يتكلمون عن الكنيسة، وكأن الرب يسوع، كان ينوي أن يكون هناك كنائس منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض، بحيث تعلم تعاليم مختلفة، وتمارس اخلاقيات مختلفة. ولكن الأمور ليست كذلك كما يُعلم المجمع الفاتيكاني الثاني في وثيقته التاريخية (نور الأمم Lumen Gentium) والذي وضع الخطوط العريضة ليس فقط في كيفيّة تعامل الكنيسة مع العالم اليوم بل وضع خطوطا عريضة واضحة للعاملين فيها، ابتداء من الأساقفة إذ أعطاهم السلطة الإستقلاليّة الموحّدة في قارّاتهم وأبرشيّاتهم، وكذلك في أوليّة السلطة البابوية كما أعاد تفسيرها دستور المجمع.
فالمجمع يعلم بأنها إرادة الله لكي يكون هناك كنيسة واحدة، الجسد الواحد في المسيح يسوع. وفي هذا المعنى، فإن الكنيسة لا تعني صيغة الجمع على الإطلاق. ولعل المرة الوحيدة التي يأتي مصطلح الكنيسة في صيغة الجمع هي عندما نتكلم عن البنايات الكنسية أو عندما نتكلم عادة عن الكنائس المحلية أو الخورنات أو الأيبارشيات. إذ هناك آلاف الكنائس بل عشرات الآلاف، ضمن الكنيسة الكاثوليكية وحدها.
نسمع الكثير عن أسماء كنائس، ومسميّات من هنا وهناك، وكل واحدة من تلك الكنائس تدّعي بالأصالة على أنها كنيسة المسيح الحقيقية. ويقع المسيحي المؤمن البسيط في دوامة الكثرة والتشرذم في ما يسمى بجسد المسيح الواحد والمنقسم الى أجزاء كثيرة. فالكنائس مثل أرونديل وبرينغتون، وكنيسة إرادة الأم، وكنيسة أودشتون، وعدد كبير من الكنائس المحلية والتي تعتبر صحيحة في عقائدها نوعا ما، مع أنها ليست في شركة مع الكنيسة الأم (الكاثوليكية) أو مع بعضها البعض. وهناك أيضا الكنائس الأرثوذكسية الشرقية التي تجتمع في وحدة مع بعضها البعض، ولكن بصورة شكلية على الأقل. مع أنها تعتبر نفسها شبيهة بالكنائس في أيام العهود الأولى من المسيحية، مثل "كنيسة القسطنطينية، وكنيسة تسالونيقي، وكنيسة كورنثية". بالإضافة الى تجمعات أخرى كثيرة، تدعو نفسها كنائس، ولكنها في الحقيقة ليست كنائس بالمعنى الحقيقي للكنيسة، إذ يدعوها المجمع الفاتيكاني الثاني، "أجساما كنائسية".
ولكن مع كل هذا الكم الهائل من الكنائس والمؤسسات الكنسية الغير المرتبطة بالكنيسة الأم، إلا أن ما لا تقبله الكنيسة الكاثوليكية، ولا تسمح به، وجود كنائس وطنية، مرتبطة بالأنظمة والحكومات الى درجة تتدخل الحكومة في التنظيم والتعيين حتى للأساقفة والكهنة. ويبدو أن الكنائس الأورثوذكسية قد تبنت مثل هذا النمط من الكنائس القومية، والتي تُمجد أوطانها وقومياتها أكثر مما تجسد المعنى الحقيقي للمسيحية، ولكنها في الواقع لا يربطها فيما بينها رابط عميق، كما هو الحال في، كنيسة اليونان، وكنيسة أرمينيا، وكنيسة روسيا، وكنيسة جورجيا وغيرها. وتلعب السياسة دوراً قويا في مثل تلك الكنائس، والتي تختلف وتتباين في نظرتها السياسية، وتؤثر حتى على القرارات العقائدية لتلك الكنائس.
فالوحدة بحسب الإرادة الإلهية إذا تعني، أن نحاول من أجل المصالحة مع الكنائس المنفصلة حتى النفس الأخير، وأن نحث على الحوار مع الأجسام الكنائسية الأخرى بصدق وجديّة ومن دون تعب ولا كلل. ولقد أحرزت الكنيسة في هذه الفترة الزمنية، توحيداً مقبولاً، مع الكثير من الكنائس التي كانت قد انفصلت عنها لسبب أو لآخر، وذلك بالحوار معها ومن دون اللجؤ إلى انعقاد مجامع مسكونيّة خاصّة، وذلك بدءأً بالكنائس الّتي تحمل في طيّاتها كلمة “الكاثوليك” مثل الرّوم الكاثوليك، السّريان الكاثوليك، الأقباط الكاثوليك، والآشوريين الكاثوليك..الخ. فهذا يعني أن الوحدة الدّاخليّة في العقائد الإيمانية قد نجحت مع هذه الفئآت، وما بقي في الواقع هو لغة الطقوس التي تفصلهم عن بعضهم عن البعض. وسعى المجمع كذلك إلى تعميق دور الكنائس المحلية والمجالس الأسقفية على مستوى البلدان والقارات. وقد لا نتخيل تحقيق ذلك في الوقت الراهن، ولكن لا يمكن التخلي عن السعي للوحدة الحقيقية.
الكنيسة والدولة
الوحدة تعني ان الكنيسة هي واحدة وتجتمع حول البابا الذي هو الضامن الأكيد للوحدة والإيمان. وحالما يفقد المؤمنون هذا التواصل مع البابا يجدون أنفسهم بعيدين عن الوحدة وقريبين من الخضوع لجهات أخرى كسلطة الدولة. ففي الشرق مثلا أسلمت الكنيسة قديما زمام أمورها للأباطرة الذين ازداد تدخلهم في الشؤون الكنسية، فهم لم يتدخلوا في سياسة الكنيسة الخارجية فحسب، بل حتى في نظمها وسياستها الداخلية حتى غدا إلإمبراطور يمثل نوعًا من "القيصرية البابوية" أي كان يجمع بين السلطتين السياسية والدينية.
وكذلك الأمر في الغرب، إذ كانت الكنيسة تذلل نفسها في مجاملاتها مع الملوك والأمراء والنبلاء. فقد غلب على علاقة الكنيسة مع الدولة عموما الخضوع التام، بحيث أن النخبة الدينية خضعت للسلطة الزمنية وسايرتها في أمور كثيرة، ووصلت الأمور في بعض الأحيان الى التحالف معها، كما ظهر ذلك في نمط القيصرية البابوية المعروف أو في نمط الدين القومي، مما يعني حرفيا خضوع الكنيسة للدولة، وإعتبار الدولة أسمى من الكنيسة.
وأما في عالمنا المعاصر، فالكنيسة تأخذ مسارا مختلفا عن السابق، إذ تجد نفسها مُجبرة على إتخاذ دور التبعية للتأثيرات الدنيوية المعاصرة في بعض الأحيان، والتي تفرض نفسها بقوة على فعاليات الكنيسة. وتؤثر المواقف الكنسية الجديدة حتى على قراراتها العقائدية وخاصة عندما تتواطأ الكنيسة بتبعيتها في مجاملة الأحزاب الحاكمة والمجالس والجمعيات التشريعية وفي محاكات الصحافة والإعلام، ناهيك عن الإنبهار بالجاه والشهرة الإعلامية.
والجدير بالاشارة على أنه ليس هناك مشكلة مُحددة في إعتراف الدولة بالكنيسة أو في أن تلعب الكنيسة دورها المهم في الدولة، ولكن المشكلة تبرز عندما تحاول الدولة السيطرة على الكنيسة، وعندما تتدخل الدولة في ترشيح وتعين المطارنة والأساقفة، بالاضافة الى فرض وجود وانتشار الهرطقات كأمر واقع لا يمكن الإعتراض عليه بحجة حماية القانون المدني.
ففي هذه الحالة تربط الكنيسة مصيرها بمصير الدولة الوطنية، فعندما تضعف الدولة، تضعف معها الكنائس التي تلتف حولها، وعندما يعي الناس كيفية إتخاذ القرارات الشخصية بحرية في الأمور الدينية، تجد تلك الكنائس نفسها في موقف لا تحسد عليه، إذ تقع في حيّرة من أمرها لخسارتها قدسيتها وقراراتها المستقلة. والغريب في الأمر أنه بالرغم من وضع تلك الكنائس المؤسف فإنها تتجرأ وتتجاسر أكثر من غيرها بإمتلاكها للحقيقة. ولا بد من التذكير أنه لمجرد تشرذمها وإنشقاقها الى مئات الآلاف من الكنائس، فهذا بحد ذاته يُعد دليلا قويّا على فقدانها لمصداقيتها، إذ أن كل فئة من تلك الفئات الكنسية تقرر لنفسها، وتعلم تعاليم مختلفة عن غيرها وتعبد عبادات خاصة بها. ولا بد من الإشارة على وجود بعض الممارسات الأخلاقية الرائعة في البعض من تلك الكنائس، ولكنها بدأت وللأسف الشديد تخلط التعاليم المسيحية مع التقاليد الروحية العالمية والزمنية. ويبدو أن ما بقي فيما بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية من الروابط والعوامل المشتركة قليل جدا، ولكن مع ذلك فالكنيسة الأم يجب أن تبقي أبوابها للحوار مفتوحة.
ومن الملفت للنظر أن أعداداً كثيرة من الكنائس البروتستنتية تجتمع اليوم في وحدة شكلية وغريبة نوعا ما وتحت مسمى واحد وهو "الكنيسة الإنجيلية" والتي تمارس نوعا من السيطرة الإدارية الضعيفة على تلك المجموعة، وتفرض مجموعة من التعليمات والقوانين الضرورية في إدارتها. وترى الكنيسة الكاثوليكية بأن تلك الخطوة تعد إيجابية ويجب تشجيعها والإعلاء من شأنها، بإعتبار الكنائس الإنجيلية كنائس مسيحية لا شك في عقائدها العامة. ويبدو أن سيطرتها الإدارية مع ذلك تعد أفضل بكثير من السيطرة الإقصائية القديمة. وتبدو كذلك تعاليمها الإنجيلية صحيحة تقريبا فيما عدا الأمور التي ترفضها أو تنكرها من الأسرار، بالاضافة الى مفهوم الكنيسة الذي ترفضه وشفاعة القديسين. ولكن الغريب في أمر تلك الكنائس وغيرها من الكنائس البروتستنتية الأخرى، هوسها الكبير في موضوع نهاية العالم، والأمور الغريبة المتعلقة بزمن وكيفية حدوث ذلك.
ومن الملفت للنظر، أن ما تتفق حوله معظم تلك الكنائس هو نبذ سلطة البابا، وقد يتعاملون معه بأدب في حضوره، ولكنهم ينعتونه بأشد النعوت ويتهمونه بأشد الإتهامات في كنائسهم وصحافتهم، مما يدل دلالة صريحة وواضحة وهي أن وجود كنائسهم ومستقبلها يتعلق في هذا الرفض، إذ لو إعترفوا به كخليفة للقديس بطرس، فلا يكون هناك من داع لوجودهم. ومع رفضهم لسلطة البابا، يرفضون أيضا العقائد الأساسية للكنيسة الكاثوليكية. ولكن مع ذلك هناك الكنائس التي تحتفظ بالدرجات الأسقفية والكهنوتية، كالكنيسة الأسقفية الإنكليكانية والتي لا تستطيع القيام بذلك من دون الإشارة الى الكنيسة الكاثوليكية وإرثها الروحي والتقليدي القديم. ولعل من أغرب الأمور في تلك الكنائس هو إدعاءها الفارغ في إمتلاكها لخميرة الرسامات الكهنوتية والأسقفية الشرعية. ولكن معظم الطوائف الأخرى لا تهتم حقيقة بالكهنوت ولا بالدرجات الكهنوتية أو الأسقفية على الإطلاق. فإن كانوا لا يؤمنون بالكهنوت، فمن باب أولى لا يؤمنون برئاسة الكهنوت، بل ويرون بأن الكنيسة، جسد واحد، ولها رأس واحد هو يسوع المسيح، ولذلك بحسب رأيهم لا توجد رئاسة كهنوت من البشر، لأن رئاسة المسيح للكنيسة لا تسمح بوجود رئاسات بشرية. فالعمل الكهنوتي عندهم مُجرّد وظيفة، أرادها الله، لا أكثر ولا أقل.
وبالرغم من رفض معظم الكنائس البروتستانية لدرجات الكهنوت الموجودة في الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية وسائر الكنائس الرسولية، وبالرغم من تشديدهم المطلق على كهنوت المؤمنين المُشترك، هناك الكثير من تلك الكنائس تقوم برسامة خدام للقيام بالكرازة وخدمة العبادة. وقد يكون لهم خداما للكلمة بحيث تعطي درجات مختلفة، وتحت مسميات متعددة، ولكن من دون أن تعطي لها صيغة مقدسة. ولعل من الأمور الغريبة التي تقوم بها تلك الكنائس هي المعموديات المثيرة للإنتباه في الأنهر، ووضع الأيدي وإخراج الأرواح الشريرة والإحتفال بالعشاء الأخير بصورة جماعية وإجتماعية ولكن من دون الإيمان بالحصول على النعم الإلهية.
الدوناتية
الهرطقة الدوناتية هي السبب الرئيسي في رفض السلطة الكاثوليكية في القرن الرابع الميلادي، والتي فتحت الباب واسعاً للفرق الهرطقية الأخرى لتحذو حذوها. وكان الدوناتيون جماعة مسيحية أفريقية قامت بمحاولة جديّة لإعادة الكنيسة الى سلطة الشعب ولتحرير الكنيسة من سلطة الرومان الحاكمين، ولاسيما بعد الإضطهادات الوحشية الشرسة التي مُورست ضدهم من قبل الرومان. وتزعم هذه الحركة الأسقف الأفريقي (دونات) والذي إعترض علي تعيين أسقف لكنيسة قرطاجة من قبل بابا الكنيسة الكاثوليكية، وجاء الرفض بحجة أن من إختاروا ذلك الأسقف سنة 311 م كانوا خونة للمسيحية ومشكوك في عقيدتهم بعد أن تورطوا في تسليم الكتب الدينية والأواني المقدسة الخاصة بكنيسة قرطاجة إلي السلطة الإمبراطورية، وإذ آزرت الكنيسة والسلطات الرومانية هذا الأسقف الجديد، إستطاع الأسقف دونات بمساعدة البربر أن يُحوّل الخلاف الديني إلي ثورة دينية وإجتماعية ضد الرومان وضد الكنيسة الكاثوليكية. وقد رفض الدوناتيون سلطة الأسقف الجديد ورفضوا أيضا صلاحيته في رسامة الكهنة أو إحتفاله للقداديس والأسرار الأخرى. وتؤكد الدوناتية على أن الخطايا التي يرتكبها الكهنة تلغي درجاتهم الكهنوتية المقدسة، وتجعلهم غير مؤهلين للخدمة الكهنوتية.
تبدو الفكرة لأول وهلة جذابة نوعا ما وخاصة في تلك الفترة الزمنية التي شهدت فيها الكنيسة تبوء عدد كبير من الشخصيات للمناصب الكنسية بغية الثراء والسيطرة السياسية. وكلما كانت تنتشر قصص عن البابوات والأساقفة والقسس والشمامسة الخطاة، تتدخل المشاعر التمردية الدوناتية وتزداد أتباعها وشهرتها. وكان الشعب المؤمن يشعر بحزن شديد عندما يقوم بعض الكهنة المعروفين بخطاياهم الكثيرة، يحتفلون علنا بالأسرار الكنسية. ولذلك قررت الدوناتية عدم الإيمان بخدمة هؤلاء الكهنة على إعتبار أن رسامتهم باطلة وغير صحيحة قانونياً. وكان الدوناتيون يستشهدون بآية من إنجيل يوحنا لتأكيد عقيدتهم: "نحن نعلم أن الله لا يسمع للخطاة" (يو 9: 31). ولسوء حظهم أنهم فشلوا في الإستشهاد الصحيح، لأن الآية جاءت في الإنجيل من على شفاه الفريسيين، وليست من على شفاه المسيح. والحقيقة التي تقرها الأناجيل أن الرب قد جاء ليقول لنا بأن الله يسمع للخطاة، وإلا لما كان هناك أمل لنا جميعا لأننا كلنا خطأة. ففي الواقع، عندما يصل الناس الى هذه المرحلة يشكون في جميع الأسرار لأن مانحيها قد يكونون خطأة. ولهذا كان من الطبيعي أن يصل الدوناتيين الى تلك المرحلة في إلغاء الأسرار المقدسة جملة وتفصيلا، لأنها الأسرار كلها مرتبطة ببعضها البعض. لأنه لو كانت الخطيئة الشخصية المعلنة تجعل من السر المقدس باطل وغير صحيح، فهذا يعني بطلان جميع الأسرار، إذ من يقدر أن يعرف أن القسيس الذي يحتفل بالقداس أو الذبيحة الإلهية ليس بخاطىء في السر؟ وإن كان الرجل قديسا كالأب المعروف بقداسته "بادري بيو"؟، ومن يقدر أيضا أن يحكم على الأسقف الذي رسم ذلك القسيس، أنه لم يكن خاطئا كبيرا في السر؟ أو بالاحرى من يقدر أن يحكم بأن الأسقف الذي منح الرسامة لذلك الأسقف، أنه لم يكن خاطئا كبيرا؟ فلو كان خط الرسامات المقدسة يبطل بسبب الخطيئة سواء كانت علنية أو غير علنية، فلا يمكن إذاً القول بالتاكيد بوجود أي رسامة صحيحة في تاريخ الكنيسة، وبالتالي فإن الأسرار الأخرى تكون أيضا باطلة وغير صحيحة. ولا بد من الإشارة بأن الكاهن يوهب في الرسامة، المحبة الراعوية التي هي نبع خدمته وروحها والحافز على التضحية بالذات في سبيلها. فبمقدار حب الكاهن للمسيح يكون حبه للكنيسة ولابنائها. فالاسرار جميعها بحسب هذه الطروحات المغلوطة لا يبقى لها أية فعالية ولا تمنح النعمة المطلوبة. أي ما معناه حتى الكنيسة تفقد بحسب هذه الفكرة، كل أساسياتها وصلاحياتها.
ولكن لو وقفت الدوناتية حول الأسرار ومفاعيلها لكانت الأمور هينة، ولكنها تجاوزت في أحكامها ضد الأباطرة والملوك. إذ لو قلنا أن الصلاحيات تبطل بسبب الخطيئة، فماذا نقول إذاً لصلاحيات وسلطات الملك الخاطىء؟ ففي الإيمان المسيحي لا سلطة سواء في السماء أو على الأرض الاّ من الله. فالسلطات القائمة هو "الله" الذي وضعها. فمن يقاوم السلطة، يقاوم النظام الذي أراده الله. ومن يعادي سلطة الملك أو الحاكم بسبب خطاياه الشخصية، فهو إذا ينكر صلاحياته أيضا في أن يمنحها لنوابه وموظفيه، مما يعطي لهؤلاء الرافضين والثوريين، الفرصة أو العذر لعدم الوفاء بالواجب اللازم في دفع الضرائب.
كان من الممكن أن تتغاضي الكنيسة عن تلك الهرطقة، لولا أن المعتقد انتشر بين البربر والفقراء الذين أحالوا الاختلاف الديني إلي ثورة اجتماعية، مما أدى ذلك الى غضب الأباطرة الرومان علي الدونايتين، فأصدروا المراسيم المتعاقبة بزيادة الضرائب الفادحة، وتحريم حق التصرف في الممتلكات، وتحريم دخول الدونايتين إلي داخل الكنائس الكاثوليكية.
ولعبت الأسباب السياسية ومسألة الضرائب دورا كبيرا في محاربة بعض الأفكار الهرطقية من قبل الدولة الرومانية قديما، وخاصة الهرطقة التي تبنت النهج الدوناتي الرافض في دفع الضرائب للملوك والأمراء الرومان، إذ كان الرومان يرون أن تلك الهرطقات تقوض ليس فقط سلطة البابا في روما، بل أيضا سلطة الأمبراطور والأباطرة الرومان ومعهما المجتمع المدني بأكمله.
وبعد أن وصلت الأمور الى أشدها مع الرومان لم يجد الدوناتيون المتشددون من وسيلة أخرى سوى العزلة عن الكنيسة والمجتمع وتكوين كنائسهم ومجتمعاتهم الخاصة بهم، حيث عاشوا بالفقر والإكتفاء الذاتي بعيدا عن باقي المجتمعات البشرية. وأما الجماعات الغير المتطرفة منهم فإنهم مع رفضهم للسلطة البابوية في روما إلا أنهم إستطاعوا أن يتكيفوا مع الوضع الجديد والعيش في المجتمع بصمت، ممارسين نشاطهم الديني بحذر شديد من الجماعات الكاثوليكية.
وفي الوقع يعطي الكثير من الدارسين والمثقفين من الكاثوليك وغيرهم العذر للبعض من التيارات المناهضة للسلطة البابوية، إذ كان هناك في الحقيقة باباوات واساقفة وكرادلة وشمامسة، إستغلوا مناصبهم الدينية لغرض الثراء المادي والسلطة الزمنية. ويتبين للمُدققين في حياة هؤلاء بأنهم كانوا يعيشون حياة ترف بعيدين كل البعد عن الإنموذج الروحي الذي وكلوا لإتمامه. لأن العقيدة المسيحية تعلم على أن من يتلقى نعمة التقديس والدعوة والسلطة للقيام بالرسالة الخلاصية الموكولة اليه، وذلك بالعبادة الالهية وتوزيع نعمة الأسرار ورعاية الجماعة المؤمنة بروح المحبة والعدالة، والمصالحة والاخوّة، والوحدة والتضامن. ولذلك على الكاهن أن لا يشوّه رسالته بالتعدي على من هو مؤتمن عليهم، بل أن يكون منصرفاً للمحافظة على هويته بانعاش حياته الروحية وتعميقها بالفضائل الانسانية والخلقية.
السيدة العذراء والقديسين
لم تكتفي الهرطقات برفض الرئاسات الكنسية على الأرض، بل رفضت أيضا الرئاسات السماوية، كالقديسين وشفاعة مريم العذراء. ولعله من الغريب جدا إيجاد السبب الحقيقي في وجود كل هذه المعارضات الشديدة ضد تبجيل وإكرام السيدة البتول والقديسين في القرن السادس عشر الميلادي. وخبرتنا الروحية تثبت على أننا كلما إقتربنا أكثر من السيدة البتول، كلما تجذبنا أكثر قربا نحو ابنها يسوع. وكلما أبعدناها عن حياتنا الروحية فقدنا التركيز على يسوع أيضا. ونلاحظ اليوم الأمر نفسه، إذ معظم الذين ينتقدون الكنيسة الكاثوليكية يشرعون بالتهجم على معنى العبادات المقدمة للقديسين وبشكل خاص التبجيل والإكرام لمريم العذراء. فالعبادة لمريم العذراء بحسب مفهومنا الكاثوليكي هي أعظم وسيلة لحفظ البر والقداسة، وهي ليست من نوع العبادة المقدمة لله أو ليسوع المسيح.
انه من الشائع جدا على البروتستانت رفضهم في إعطاء أية مكانة للسيدة العذراء في الخلاص، إذ لا يسخرون فقط من عقيدة الحبل بلا دنس أصلي والحبل البتولي، بل ويؤكدون على أن السيدة العذراء أنجبت عددا من الأطفال، وعلى أنها لا تحمل أية صفة خصوصية على الإطلاق في تاريخ الخلاص.
ويبدو مما سبق أن نكران تبجيل وإحترام السيدة والقديسين يعني رفض كونها جزءا من الكنيسة، مما يعني أن الكنيسة لا تستمر بعد الموت. ولكن إذا قبلنا بصلوات المسيحيين بعضهم للبعض، فلماذا إذا يقف الموت حائلا بيننا وبين القديسين؟ ولمذا لا نستطيع أن نطلب منهم إسعافنا والتخفيف عنا؟. نحن نؤمن على أن الذين ماتوا في المسيح يسوع يحيون معه "لأنه الله ليس إله أموات بل إله أحياء" (مت 22: 32 ). وللسيدة البتول وللقديسين في مفهومنا الكاثوليكي مكانة خاصة لأنهم يتوسطون لنا كونهم أعضاء في الكنيسة، ويرتبطون معنا في محبة متبادلة، إذ كيف يرفضون محبتنا، إن كانوا هم أنفسهم متنعمين ومغمورين في محبة الله.
الأسرار
كانت الأسرار دائما، الأرض الخصبة للكثير من الهرطقات بدءا بالكاثارية التي من ضمن تعاليمها الغريبة أن الزواج شهوة جسدية وخطيئة مميتة. ومع أن نشوء العديد من الهرطقات كان الفرصة السانحة لنمو وتطور التعاليم المسيحية التي ساعدتنا في توضيح فهمنا للدور الجوهري الذي تلعبه الأسرار المقدسة في مفهوم الخلاص، إلا أن سر القربان المقدس"الأفخارستية" إعتبر منذ القرون المسيحية الأولى من أكثر الأسرار عرضة لسوء الفهم حوله.
ولذلك تسابقت الهرطقات في رفض ونكران قيمة الأسرار الروحية، فمنهم من رفض البعض منها أو معظمها. وتعد الهرطقة الثنوية"الإيمان بوجود قوتين كونيتين" من أكثر تلك الهرطقات تطرفا ومغالطة، إذ كانت تعتمد في تفسيراتها على القراءات العميقة للفيلسوف اليوناني أفلاطون. مع أن الأفلاطونية لا تذهب بعيدا مثل المانوية في مسألة وجود إلهين أو قوتين في الكون.
فلما كانت المادة مبدئيا شىء شرير، لذلك فإن الله لا يتعامل معها، وأما الروح فقد إرتكبت خطيئة في السماء، وعوقبت بالسجن في الجسد، ومع ذلك فلها قيمة أبدية وأزلية. ونستطيع القول وبمفردات سهلة جدا أن الأفلاطونية تضع كل الموجودات في خانة أو أخرى: فمن جهة الله والملائكة والأرواح السماوية، ومن جهة أخرى، العالم المادي وكل المتعلقات به.
ولا يخفى على أحد مدى الحماقة والجنون التي تحتوي تلك الأفكار من أول وهلة، للمطلعين عليها، ولكن يبدو أن الشعور الداخلي لهؤلاء الفلاسفة يؤكد شيئا واحداً، وهو عدم أهمية العالم المادي، مما يعني أن الخبز والخمر والماء والزيت بإعتبارها أشياء مادية فلا يمكن ان تتحول الى أشياء مقدسة، وأن إستخدامها في الأسرار لا يمكن أن تكون إلا بصورة رمزية.
فالبحوثات الرئيسية التي قام بها القديس توما الأكويني والمعاصرين له مزقوا ذلك النسيج الرافض لقيمة المادة بدءاً بإستخدام الفرضية التوراتية القائلة: "خلق الله كل شىء حسنا"، إذ أننا نرى من خلال الكتاب المقدس، كيف أن الله يستخدم الماديات كوسائل مقدسة، فالأشياء الجامدة لها ضرورتها في الوجود حيث أنها تستحدم من قبل الكائنات الحية في ديمومة وجودها، كالشموع والماء المقدس والرماد المقدس والزيتون، والتي من الممكن إعتبارها وسائل مقدسة ووسائل ضاهرية للإتصال والتواصل مع الله. وعلى رأس كل تلك الأمور المادية يأتي في طبيعة الحال، الخبز والخمر في الأفخارستيا وتحولهما الى جسد ودم المسيح. وعلى أن من ينكر ذلك، ينكر المسيحية نفسها. وتتعلق المسألة إذا بكلام الله، إذ عندما يتكلم الله فهو يخلق، وما يخلق يكون حسنا، ولذلك عندما يتكلم الله في القداس الإلهي، فالخبز والخمر يُخلق ثانية بالقوة الخلاقة نفسها التي خلق الله المادة في بدء الخليقة. وشكل ذلك تطورا روحيا عميقا في فهم الأسرار المقدسة في القرن الثالث عشر والذي أثر في نشوء الإحتفالات الدينية المفرحة والمبهجة، سواء في تقديم بركة القربان المقدس أو الأشكال الأخرى من العبادات الخاصة بالأسرار المقدسة.
وشرعت الهرطقات الجديدة التي ظهرت في القرن السادس عشر برفض الأسرار المقدسة، ولعل السبب في ذلك هو عدم إطلاعها العميق على دراسات وأبحاث القديس توما الأكويني، والنتيجة كانت في طبيعة الحال، سقوطها في أحضان الثنوية الأفلاطونية كغيرها من الهرطقات القديمة. ولذلك، قامت الكنيسة الكاثوليكية بدور توضيحي وتعليمي وإصلاحي تاريخي، تمثل في إقامة مجمع ترانت الإصلاحي. ونص المجمع على أهمية تقديم الإكرام وشعائر العبادة العامة والشخصية للقربان المقدس كطريقة من طرق العبادة لله. وأكد كذلك على أن المسيح نفسه يكون حاضراً في القربان المقدس، حضوراً حقيقياً وواقعياً وجوهرياً، بجسده ودمه ونفسه ولاهوته في حين يبقى شكلا الخبز والخمر.
وكان علينا ان ننتظر الى القرن العشرين لنرى تطوراً مهما آخر في التعليم حول الأفخارستيا والذي جاء كرد الفعل لبعض الكتاب الذين علموا بأن الأشياء المادية لا يمكن أن تكون مقدسة، وكنتيجة لتلك التعاليم، إنصرف عدد كبير من المؤمنين عن عبادة القربان المقدس، وعزلوا أنفسهم عن الكنيسة. وكانت رؤية المنتقدين أن الكنيسة هي شعب الله، وهذا يكفي لجعل الكنيسة بيتا مقدسا لله، أي من دون أن يكون الحاجة الى القربان في تقديس الكنيسة. ولذلك إضطر البابا يوحنا بولس الثاني بتصحيح المفهوم في رسالته المعنونة عام 2003 حول "الكنيسة من الأفخارستية" والذي أكد فيها على أن الكنيسة تعطي الحياة للأسرار، والأسرار تعطي الحياة للكنيسة أيضا. ويضيف قائلا أن الحقيقة التي نختبرها هي أن الإفخارستيا تحتوي على كنز الكنيسة الروحي بأجمعه. لذا توجه الكنيسة بصرها على الدوام نحو ربها الحاضر في سر المذبح، والذي نكتشف فيه ملء التعبير عن حبه العظيم. فالأفخارستية هي قمة جميع الأسرار والمفتاح الرئيسي لجميع الأسرار الأخرى، ولا يمكن وجودها إلا في الكنيسة، وتجعل منا جسدًا واحدًا على كثرتنا، إذ نشترك في الخبز الواحد، على مثال شركته الفريدة مع الآب، حسب ما جاء في صلاته الكهنوتية: "كما أنّك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، فليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، وليؤمن العالم أنك أحببتني". وتكمن في هذا المعنى، عقيدة الخلاص بحيث أن الخلاص يتحقق كليا في المناولة، أي عندما نتقبل كل واحد منا، جسد الرب ودمه، ونتحد معه من خلال المناولة، بحيث نقبله هو نفسه، وهو الذي تواضع وقدم ذاته من أجلنا، نتناول جسده الذي بذله من أجلنا على الصليب، ودمه الذي أهرقه من أجل كثيرين، لمغفرة الخطايا.
ويُعد من يرفض وجود مكان يًخصص للقربان المقدس في الكنيسة، من المنظور الكاثوليكي، هرطوقيا، إذ يُمثل المكان المذكور، سر حضور المسيح وهيكل الله المقدس. ولذلك علينا أن نشجع إكرام الإفخارستية والسجود أمام المسيح الحاضر في أجزاء الإفخارستية. وعلينا أيضا إكرام الأجزاء المقدسة المحفوظة بعد القداس. فوجود يسوع في بيت القربان يجب أن يجذب إليه القلوب المليئة بالمحبة التي تريد أن تبقى بقربه لتسمع خفقات قلبه: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب". ولذلك فمن يرفض قيمة القربان القدسية في توزيعه للمرضى خارج الكنيسة يهرطق أيضا في حق الإيمان الكنسي.
وبالاضافة الى كل ذلك فإننا نلتقي بالسيدة العذراء والقديسين من خلال التناول المقدس، إذ بما أننا نصبح أعضاء في جسد المسيح، فإننا بالتالي نصبح متحدين أيضا مع كل أعضاء هذا الجسد، سواء في هذا العالم أو في العالم الآتي.
ولا بد من الإشارة الى أن من إحدى الحجج التي قدمها البعض في رفضهم للأسرار سواء جزئيا أو كليا إنما هي صعوبة فهمها وإدراكها بالنسبة الى المؤمنين. ولذلك فضلوا علامات أو رموزا سهلة وملائمة لمتطلبات العصر، ولكن علينا ان ننتظر لنرى فيما إذا كانت تلك الهرطقات تستطيع مقاومة التغيرات والتجديدات في العالم.



الفصل الخامس
خلاصة كل الهرطقات
العصرانية
كل جزء من تعليم الكنيسة يتعلق ببعضه البعض، وكذلك بالنسبة الى الهرطقات التي تتداخل فيما بينها، إذ أن الخطأ نفسه قد يتكرر في أكثر من هرطقة ضد العقائد الكاثوليكية. ورغم ذلك فإن معظم الهرطقات قد تختار جزئية معينة من العقيدة وتدور حولها لكي تطعن بالكنيسة وعقائدها دون العقائد الأخرى، أو قد تنكر هرطقة ما عقيدة واحدة وتحتفظ بالعقائد الأخرى، وهكذا بالنسبة الى كل الهرطقات عبر تاريخ الكنيسة العريق. ولكن مع بروز عهد العصرانية والليبرالية، كان على الكنيسة أن تنتظر الى نهاية القرن التاسع عشر لترى عهدا جديدا من الأفكار والهرطقات التي حاولت تقويض الكنيسة وإلغاء تعاليمها بطرق أخرى. وكان الكاردينال الأمريكي "نيومن" من أوائل الذين توقعوا حدوث ذلك، إذ أعلن مراراً وتكراراً أن من أهدافه الثابتة التي لا تتزعزع في حياته لمدة خمسين سنة من عمره، مقاومة ما يدعوه "الليبرالية في أمور الدين": التعليم الذي يقول بعدم وجود حقيقة إيجابية في الدين، وأن العقائد جميعها تتشابه، ولا يوجد هناك حقيقة أسمى من الأخرى.
فكل الهرطقات السابقة ومنها الآريوسية في القرن الرابع الميلادي والمونوفيزية في القرن الخامس والكاثارية والكلفينية والجانسينية وغيرها، إتفقت على أن الحقيقة مهمّة جداً، وقد تكون تلك الهرطقات كلها خاطئة في فهمها للعقيدة الصحيحة وفي طريقة طرحها أو عرضها للناس، ومع ذلك فإن غايتها الرئيسية كانت تدور حول البحث عن الحقيقة وإعلانها وتعليمها للناس. ولكن الليبراليون الذين يتكلم عنهم الكاردينال "نيومن" يرفضون الحقيقة ويرفضون حتى محاولة البحث عنها. وما سماه الكاردينال بالليبرالية تحوّل الى غطاء جديد في نهاية القرن الماضي، إذ غطت الليبرالية نفسها بلباس جديد، وأخذت على نفسها أسم "العصرانية"، والتي تعني أن الكنيسة عليها أن تكون مستعدة لتغيير تعاليمها وممارساتها على الدوام حتى تكون عصرية وملائمة للزمن الذي هي فيه. فالتيارات العصرانية كانت تزاحم الدين في الواقع، وتستهدف بتطويعه وتلقيحه بطعم العصر القائم تلقيحاً يُكيّفه وفق متطلبات الواقع، ولهذا فإن الأساس في الموضوع إذاً لا يتعلق فيما إذا كان هناك حقيقة أم لا؟ بل بالحري هل هناك تغيير وعصرانية أم لا؟.
رفض الفلسفة
كان هناك سببان رئيسيان في وصول الأمور الى هذا الحد، وأولهما يتعلق برفض المحتج المدعو"مارتن لوثر" للفلسفة كآداة لفهم اللاهوت، إذ رفض إستخدام الأسس العملية الكفوءة والصالحة للفلسفة والتي بنيت عبر القرون لخدمة اللاهوت. وقد كانت الفلسفة تلعب دور الخادم الحقيقي للعقائد في شرح مضامينها وإقامة الحجج والبراهين علي صحتها في نطاق قدرة العقل الإنساني الذي يعجز في نظر المسيحية على تفسير العقائد والأسرار المقدسة. فالفلسفة إذا كانت مجرّد أسلوب للإقناع العقلي بما سبق أن قبلناه بسلطة الإيمان. ولكن لوثر أصرّ في ثورته الدينية ضد الكنيسة على أن ما يحتاجه المرء هو فقط أن يفتح الكتاب المقدس لكي يصل الى الحقيقة، بحيث يكون الكتاب موجهه الوحيد من دون أية وساطات. وإفترض لوثر أيضا أن تعاليمه هي إثبات واضح وأكيد حول حقيقة الكتاب المقدس، ولكن فاته لاشعوريا أنه قد إستخدم في تعاليمه وبحوثاته، الكثير من الإستنتاجات الفلسفية واللاهوتية التي توصل اليها آباء الكنيسة عبر العصور، مثل عقيدة الثالوث الأقدس، العقيدة التي لا يمكن إستنتاجها من قراءتنا الأولى للكتاب المقدس، وقد قضت الكنيسة ثلاثة قرون أولى من عمرها لأثبات صحتها وقبولها من قبل جميع الأطراف.
وكانت مسألة الإيمان قضية أخرى في نظر "مارتن لوثر" فالمسألة عنده لا تحتاج الى أدلة وبراهين لأن الإيمان بالنسبة الى كثيرين هو ما يقال لهم ومن دون أن يسألوا عنه. ولكن الإيمان من دون أساسيات فلسفية ولاهوتية نظامية لا يترك مجالا للنقاش أو التوضيح. فالمسألة اللوثرية إذاً بدأت بهذه الصيغة: إما أن تؤمن بما يعلمونك أو تذهب بعيداً لتؤسس رعية أخرى، وتقوم بتعليم رعيتك الجديدة ما تعلمته. ولأنه لم يبقى قوة عسكرية تحمي الإيمان والمؤمنين من التشرذم والإنشقاق ولإبقاء الناس في رعية واحدة، أصبح الباب مفتوحا على مصراعيه لكل من يعارض لكي يؤسس رعية أو كنيسة مستقلة. وقد وصل الأمر بالنسبة الى الكثير من الكنائس البروتستانتية الى نتيجة غريبة، وهي أن الإنقسام ليس بحد ذاته سيئا بل هو المطلوب، والكنيسة بدورها سوف تكون في أفضل حال إذا ما لم تحاول إثبات نفسها كأنها تملك الحقيقة لوحدها دون الأديان والمذاهب الأخرى.
نقد الكتاب المقدس
السبب الثاني في ذلك كله يعود الى النقد الكتابي الشكاك. وقد بدأ ذلك في القرن الثامن عشر والذي (من الأفضل تسميته بعصر التشويش عوضا عن تسميته بعصر "التنوير" أليس كذلك؟). وقبل نهاية القرن التاسع عشر وصلنا الى فترة عزل "مسيح الإيمان"، وجعله شخصية خيالية، عوضا عن تصويره "يسوع المعلم اليهودي التاريخي المسالم" كما كان العصرانيون والتنويريون يصفونه سابقا. ولهذا رفضت تلك الحركات مقولة الرب يسوع لبيلاطس "جئت الى العالم لأشهد للحقيقة" (يو 18 :37 )، ولم يظهروا أبداً الرغبة في البحث عن الحقيقة، ولم يقبلوا حتى وجود شىء يدعى بالحقيقة. فالعصرانيون لم يؤسسوا أبداً طائفة، ولكنهم كانوا دائما يتكونون من عدد من المثقفين الذين يتبادلون الأفكار. وكانت أفكارهم في بعض الأحيان ساذجة حول ما سُمي "بالثقافة المعاصرة". وكان يتضمن هؤلاء العصرانيون من اللوثريين والأنكليكان والكاثوليك، ومن الذين وجدوا الأرضية المشتركة للإستهزاء من التعاليم التقليدية لجميع الأديان.
وقد أُدين العصرانيون بقوة من قبل البابا "بيوس العاشر" الذي تهجم على العصرانية وأعطاها صيغة جديدة إذ سماها"خلاصة كل الهرطقات"، وأجبر تهجمه القوي أتباعها ببساطة الى الإختفاء عن الأنظار. وقد وجدوا لهم فرصتهم الأخرى للظهور الى العلن في الستينات من القرن الماضي. وشعر العديد من مفكري الكتاب المقدس من البروتستانت في هذه الفترة، بأن الكتاب المقدس صحيح على العكس مما كان يقوله النقاد في القرن التاسع عشر. ومن الملاحظ جداً أن نمو وإنتشار الحركات الأنجيلية جعلت من البروتستانتية ترجع بقوة أكبر للنظرة التقليدية حول الكتاب المقدس. ولكن لسوء الحظ، فإن النظرة الشكوكية التي كانت تجد قبولا نوعا ما في الفترة الزمنية من سنة 1890 ظهرت ثانية في السبعينات من القرن الماضي، وإشتهرت مطبوعاتها وإستمرت في خلق الكثير من سوء الفهم بين الكهنة والعلمانيين على السواء.
ويبدو أن الركن الأساسي في تبني التعليم الكاثوليكي للنظرة العالمية المعاصرة، تظهر في عدد من الحركات المُخجلة لحقيقة الإيمان الكاثوليكي. والأمر الأكثر خجلا في ذلك هو تبني بعض الحركات البروتستانتية الألمانية في الثلاثينات من القرن الماضي، الأفكار العلمية العنصرية النازية، ومحاولة تطبيقها على أرض الواقع. ولكن ما نعتبره فقدانا لتوجه الرسالة الكاثوليكية وتعاليمها هو إلتحاق بعض الجماعات الكاثوليكية في أميركا الجنوبية في السبعينات من القرن الماضي، المد الماركسي الصاعد في تلك الفترة وتوجيه تركيزها التعليمي واللاهوتي سواء أثناء القداديس أو أثناء الأحتفالات الطقسية الأخرى من أجل إنجاح الثورة في ذلك الأتجاه. ولعل من المُعيب أيضا في العقود الأخيرة من الزمن هو تغيير إتجاه بعض الجماعات الكاثوليكية نحو الأعلام السيء وسلوكياته الفاسدة وتبنيهم بعض الأخلاقيات الرأسمالية البشعة.
ومن الملفت للنظر أن النظرة العصرانية عملت على حث الكنيسة بجهد وعلى دفعها نحو تغيير إتجاهها لكيما تتلائم تعاليمها مع أفكار العالم المعاصر، علما أن الإتجاه العصراني لم يكن لرفض الدين، إنما كان يحاول تطويع وإبقاء الدين بعد تلقيحه بطعم العصر القائم، تلقيحاً يُكيّفه وفق متطلبات العصر والواقع.
الموضة أو الزي
لعل المشكلة الرئيسية في محاولة البقاء دائما مع الزمن هي عدم إمكانية اللحاق بالعصر، ولربما أقصى جهد يبذله المرء لكي يكون عصريا، هو أن يبقى خمس سنوات خلف الزمن. نحن نعلم رسالة الكنيسة التي تختصر في مقولة الرب: "اذهبوا وإجلعوا لكم تلاميذ في كل العالم"( مت 28 :19 )، ولم يقل الرب إذهبوا وتبنوا كل ما في الأمم. بالتأكيد أن التعليم المسيحي، يجب أن يحسب حساب الزمن وتطوراته، وأن يعطي الأجوبة الصحيحة للمشاكل لكل طبقة وفي كل شعب. ولهذا يمكننا القول أن لاهوت التحرير ملائم للمسيحيين في إيقاض الشعور والضمير ومحاولة وضع الأمور في الإتجاه الصحيح في المجتمع. ولكن المشكلة تكمن فيما إذا سميناه بلاهوت التحرير أي أننا بهذا نغيّر اللاهوت لكيما يكون منسجما وملائما مع الأفكار الماركسية اللينينية، وحينئذ نتنازل من دورنا كمعلمي الشعوب، ونكون ببساطة عبيدا للموضة أو الأزياء. فالموضة تفترض التكرار والاجترار، وذلك لكونها تحتاج الى التعديل والتبديل والتغيير، لكي تحلو في عيون الناس.
ويبدو أن البابا بندكتوس السادس عشر قد وجه إنتباهنا وتركيزنا لهذه المشاكل، وشجع على أن يكون هناك لاهوتا ثرياً وصحيحا وموجها نحو غنى الأرث القديم، وذلك لإعطاء الأجوبة اللازمة للأسئلة العصرية الكثيرة والمُحرجة. لقد ولى العهد مع العصرانية في داخل الكنيسة، ولكن مع ذلك هناك بعض الجيوب الصامدة التي تحاول جاهدة من أجل البقاء.
ولهذا تؤكد الكنيسة الكاثوليكية على التعليم والتثقيف من دون أن تمنع التساؤل والإستفسار حول العقيدة الدينية، فالكنيسة تكمل واجبها في هذا الإتجاه، بالرغم من وجود بعض التقصير هنا وهناك. وقد رتبت الكنيسة "المختصر في التعليم المسيحي"، وهو مُعد خصيصا لكي يفهمه الشعب وبطريقة الأجوبة والإستفسارات، وموجه للطبقة المثقفة من الكاثوليك. وإذا ما أراد الناس التعمق أكثر، فهناك "الخلاصة اللاهوتية" للقديس توما الأكويني مع النقاشات التي تدور حوله، بحيث يعطي الأجوبة لكل سؤال من جانبين أثنين.
فصيغة التساؤل عادة هي الطريقة الكاثوليكية التقليدية المثلى لغرض تعلم العقيدة، ولكن إذا سألنا الأسئلة فما علينا إلا أن نكون حاضرين لسماع الأجوبة. وإذا ما لم نكن مقتنعين من الأجوبة المقدمة لنا في الخلاصة، حينئذ نكون أحرارا لدراسة أعمال اللاهوتيين الذين درسوا تلك الفقرة. إذ ليس هناك من أسرار في التعليم الكاثوليكي، ولكن حياة معظم الناس قصيرة جدا مقارنة بالبحوث والدراسات حول العقيدة، بحيث لا يمكننا بهذا العمر القصير الوصول الى أعماق الديانة وتعاليمها الثرية. ولكن من المفروض أن نكون متواضعين، إذ لو كنا من الطالبين في التعمق في موضوع الدين والعقيدة، أن نسأل المختصين، كما هو الأمر نفسه بالنسبة الى الطب وعلم التاريخ وعلم النفس وغيرها من العلوم الأخرى. والغريب في الأمر أن الهرطوقي عادة يكون كسولا ليعرف السبب الرئيسي وراء تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. والأغرب من ذلك أيضا أنه يتكبر في قبول تعاليم لاهوتية مؤسساتية منظمة، إذا ما تناقضت مع تعاليمه الخاصة.
الحقيقة
يخطأ الناس عادة في حياتهم، ويُعد هذا أمراً طبيعيا، إذ كل واحد منا قد يرتكب بعض الأخطاء البريئة وغير البريئة في حياته. وهذا الأمر وارد حتى في المجال العقائدي، لأن التطور في هذا المجال واسع لدرجة كبيرة، بحيث لا يمكن لأي شخص مهما كان مثقفا ومتبحرا أن يكون خبيرا في كل المجالات اللاهوتية. وينصح التعليم الكاثوليكي بتصحيح الأخطاء إذا ما أرتكبت، وبعدم تكرارها في المستقبل قدر المستطاع. ولكن الهرطوقي في معظم الأحيان يعتبر حالة إستثنائية، إذ يصعب عليه قبول التصحيح في قراراته وإختياراته، بل يصرّ على خطأه حتى ولو أكد له الكثيرون مدى عوجه وقلة علمه. فالاعتراف بالخطأ يخفف العقوبه، وهو دليل ندم أيضا، والندم طريق الى التوبه، والاقوياء وحدهم يقدرون حقيقة على الاعتراف بأخطائهم، لانهم قادرون على مواجهة الحقيقه. فعلى سبيل المثال، بالنسبة لي ككاتب، فإني أعترف بأنني قد أرتكبت بعض الأخطاء في بحثي هذا، وقد عرضته على بعض اللاهوتيين لكي يقوموا بتصحيح أخطائي قدر الإمكان، لأن مسألة وقوعي في الخطأ أمر جائز وممكن، والمهم في الأمر أنني أقر وأعترف بذلك. وإذا ما بقي من أخطاء فإنها سوف تنقح في الطبعة الثانية. فالمهم أن يكون العمل صحيحا ومرتبا، ولكنه في طبيعة الحال لا يمكن أن يكون عملا كاملا.
وإذا عدنا الى التعليم المسيحي فإننا من دون شك لا نستطيع فرض آراءنا الخاصة وتعاليمنا الشخصية عندما نقوم بتعليم الناس أو عندما ننقل لهم الحقيقة. فالحقيقة تعني أمراً من دون تغيير أو تبديل أي أنها لا تتغير من مكان الى آخر أو من وقت الى آخر، وهي ليست للمراوغة أو المساومة.
تبدو أن المسألة فطرية نوعا ما، إذ كلما نسأل أسئلة، نريد لها أجوبة حقيقية. ففي سبيل المثل، عندما نسأل شخصا ما عن كيفية الذهاب الى مدينة "كيب تاون"، فإننا نتوقع أن يدلنا بصورة صحيحة للمكان، ولكننا نغضب بالتأكيد إذا ما وجهنا بالإتجاه الخاطىء قائلا: "ان المسالة غير مهمة إذ ليس هناك ما يدعى بالحقيقة". وإذا كنا نأسف من أشخاص يوجهوننا توجيها خاطئا بالنسبة الى العناوين والطرق العامة، فكم بالحري من يوجهنا طريقا خاطئا للذهاب الى السماء، فهل يعقل أن نقول: "لا يهم أي طريق نسلك؟!".
وكذلك عندما يذكر شخص ما أكاذيب حول من نحبه ونحترمه، فإننا نغضب منه، أليس من حقنا نحن الكاثوليك أن نغضب من ذكر البعض، أكاذيب حول الرب يسوع المسيح، ونحن نحبه ونعبده. والشىء ذاته بالنسبة الى السيدة العذراء وشخص البابا نفسه. علما أنه ليس الغضب الجواب الصحيح، بقدر ما هو الأسف من الوضعية العامة. ولكن على أية حال نحن بشر، والبشر خطاؤون، ولكن يجب علينا مع ذلك أن نكون صبورين مع أمثال هؤلاء الناس.
فالحقيقة إذاً شخصانية، تهب الحياة، وتجعل من أتباعها مستعدين ليبذلوا حياتهم في سبيلها، وتكمن أهميتها في كونها تتعلق بشخص أحبنا ونحبه، وهي ليست كشفًاً عن أسرار عامة، ولا عبارة عن حفنة من العقائد البالية، بل تتعلق بشخص قال عن نفسه:"أنا الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6)، وأيضا قال عندما قُدم الى المحاكمة: "قد جئت الى العالم لأشهد للحقيقة". (يو 18 : 37 )


المحتويات
مقدمة المترجم
الفصل الأول
الهرطقات ضد طبيعة الله
الفصل الثاني
الهرطقات ضد طبيعة المسيح
الفصل الثالث
الهرطقات ضد خلاصنا
الفصل الرابع
الهرطقات ضد طبيعة الكنيسة
الفصل الخامس
خلاصة جميع الهرطقات



#صبري_المقدسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فهم حركة العصر الجديد
- حوار الاديان: دواء شافِ للإنسانية المُعَذَبة
- السياسة والإرهاب
- الدين والعلم بين الصراع والمصالحة
- الحرب والسلام
- المرأة في الدين والتشريعات المدنية
- الأخلاق
- الصوفية طريق لممارسة الحب الالهي الأصيل
- دور الاسطورة في حفظ الكلمة المقدسة
- هل نحن وحدنا في الكون الواسع واللامحدود
- روسيا تعود من جديد
- من يقود الحركة التنويرية في العالم الإسلامي اليوم؟!!
- متى تتحرر مجتمعاتنا من تصلب العقول والإنغلاق الفكري؟!!
- الديمقراطية انجح وسيلة لتحرير العقول
- 90 مليون تحية للشعب المصري
- لماذا لا يحق للأكراد، ما يحق للآخرين
- مفهوم الصليب والقيامة في المسيحية
- مريم العذراء الحواء الثانية
- بولس رسول الأمم
- انتشار المسيحية الكنيسة الشرقية - (آسيا )الحلقة الاولى


المزيد.....




- السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات ...
- علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
- ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
- مصادر مثالية للبروتين النباتي
- هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل ...
- الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
- سوريا وغاز قطر
- الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع ...
- مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو ...
- مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صبري المقدسي - الهرطقات عبر العصور