|
النزعة الإنسانية عند سارويان
عطا درغام
الحوار المتمدن-العدد: 4498 - 2014 / 6 / 30 - 22:36
المحور:
الادب والفن
تتساوى شهرة ويليام سارويان مع شهرة الأدباء الأمريكيين أمثال ويليام فوكنر،وآرثر ميللر،وتينسي ويليامز ،وجون ستيانبك ولد ويليام سارويان في مدينة فرينسو بولاية كاليفورنيا من أبوين أرمينيين عام 1908،وتلقى قدرا ضئيلا من التعليم..وسعيا وراء الرزق تنقل بين الوظائف المختلفة حتى عام 1932،حيث استطاع أن يشق طريق ويفتح لنفسه مجالا في الحياة الأدبية في أمريكا،إذ صدرت له أول مجموعة قصص قصيرة (الشاب الجريء فوق العقلة الطائرة)ففتحت له أبواب واسعة في المجتمع الامريكى ،وتنوع إنتاجه مابين القصة القصيرة والمسرحية والرواية واشتهر بمسرحياته وقصصه التي تمجد قدرة الإنسان العادي على الحياة بكامل الغبطة والسرور فى عالم مرير،ومعظم كتاباته عن الفقراء والبؤساء حيث يمتدح فيهم حيويتهم ونقاءهم وتميل بعض كتاباته لأن تكون عاطفية أكثر من كونها موضوعية ولا سيما تصويره لحياة الأطفال والطبقة العاملة. واستطاع سارويان أن يقترب من الناس العاديين في المجتمع الامريكى ،فنراه يلقى الضوء على حياة الناس العاديين ،ويميل إلى التركيز على حرية صغار الناس،وعلى الأحاسيس العفوية للقلب النقي الناصع الذي يتمتع به صغار الناس كما في(قلب في الاراضى العالية)، ويرى الدكتور نبيل راغب أن هذه النزعة العفوية الارتجالية والتلقائية بالإضافة إلى اهتمامه الزائد بالفكرة مع إهمال الشكل الفني،كل هذه وقفت عقبة في سبيل نجاحه وانتشاه،مما جعله متخلفا خطوة أو خطوتين وراء هيمنجواى وفوكنر وأونيل. لكن الناقد الامريكى جون جاسنر يقول إن نجاح سارويان الذي ربما يكون محدودا-يعود إلى المذاق الخاص الذي تتميز به أعماله،فقد حافظت شخصياته على اتساقها مع عالم صخب ،هذا العالم الذي استمتع به سارويان بقلمه رأسا على عقب،وواجه العالم المبتذل في مؤلفاته الجادة من قبيل(زمن حياتك- قلبي في الاراضى العالية-الكوميديا الإنسانية-أهل الكهف). وتتميز شخصيات سارويان في أعماله أنهم يفكرون بسرعة ،وبحسم وأصالة،ولا يمكن قهرهم بسهولة لأنهم يمثلون القوة التصحيحية التي تمثلها الحياة ويتضح هذا الاتجاه في مسرحية(أهل الكهف). ويؤكد المضمون الإنساني عنده أنه يحب الإنسان ويعطف على تطلعاته بصرف النظر عن أية فوارق طبقية أو صراعات اقتصادية أو تناقضات اجتماعية،ولذلك فالإنسان في أعماله هو إنسان كل زمان ومكان كما في روايته الشهيرة(الكوميديا الإنسانية)والإنسان عنده هو الذي يعرف مكانه جيدا من العالم المحيط به مما يجعله ليتمكن من الانطلاق من قيود اللحظة الراهنة والخروج إلى العالم المشحون بالقوى غير المحدودة والمعجزات الباهرة،ذلك المجال الذي يفقد فيه الزمن سطوته التي يفرضها على الإنسان. ولعل الصراع بين الواقع والخيال في أعمال سارويان يرجع إلى التناقض الذي يمور داخله بين قوى الإذلال الاجتماعي وبين تطلعات لطموح اللا نهائي ،وأبرز مظاهر الإذلال تعود إلى الضغوط التي تفرضها الحياة اليومية على الإنسان وتجعله ينفصل عن ذاته وتجبره على فقدان الثقة والصدق والإيمان بالكون والأحياء. وتتجلى التطلعات عنده في قدرة الإنسان على السمو فوق دوامات الحياة العادية والاتحاد مع مظاهره الثابتة .ومن هنا كانت المسحة الدينية التي تغلف معظم أعماله . ومما يؤكد المضمون الإنساني عنده أن الأبرياء والأشقياء عنده لات مأوى لهم في قلب المدينة القاسية الرهيبة على الإنسان العادي المطحون نتيجة لفقره الذي لا مهرب منه ,ولذلك نجد سارويان يضع شخصيات معقولة في مواقف غير معقولة،أو شخصيات غير معقولة في مواقف معقولة،ومن خلال الاحتكاك الدرامي بين الشخصية والموقف تتكشف لنا خصائص النفس البشرية بصرف النظر عن الملابسات الاجتماعية الراهنة. ويرى سارويان أنه لولا الأمانة والصدق والإخلاص لفقدت الإنسانية كل مقومات الحياة المعقولة،وكثيرا مانرى هذه الصفات متجسدة في معظم شخصيات سارويان التي تواجه ضغوط الحياة وصراعاتها،وليس معها غير تلك الأسلحة التي قد تبدو غير ذات فاعلية في بعض الأحيان ،ولكن النصر النهائي معقود لها .وإلا كانت الإنسانية قد اندثرت منذ زمن بعيد.وهذه الصفات التي تتحلى بها شخصيات سارويان تجعلنا نتعاطف معها في صراعاتها المختلفة،وتشيع جوا من التفاؤل أو الحب والتعاطف بين الجمهور.وتتجلى عبقرية سارويان في كشف النفس البشرية لنا من خلا أبسط الناس الذين يعيشون حياة أقل من العادية،لأن إكسير الحياة عنده يكمن فى ابسط مظاهرها ،أما التعقيد فمن صنع الإنسان الذي أصبح محاصرا بالقوانين والتقاليد التي اخترعها ،فحولت حياته إلى قيود ثابتة قادرة على طمس اى إحساس صادق بها ،وعبر عن هذه الفلسفات في كتابه(حياتي على هذه الأرض)والذي عبر فيه عن مذهبه الإنساني في الحياة،وهو بهذا يعد امتدادا لمذهب الإنسانية في الأدب ذلك المذهب الذي يؤمن أن في الحياة الإنسانية من الحق والخير والجمال ما ينبغي أن نهتز له ،وان نبحث وراءه وان نصوغه في الأشكال الفنية الجميلة. ويتضح هذا الاتجاه في أعمال سارويان ابتداء من(قلبي في الاراضى العالية)ويجسد فيها معاناة الروح الشعرية والشاعرية الباحثة عن الجمال في عالم تطحنه المادة ومرورا بمسرحية (زمن حياتك)التي تسودها روح التفاؤل المشرق من خلال تأثيرها الفني لقدرة الإنسان على عوامل التطاحن والتناقض والصراع معتمدا على روحه العذبة،ويتكرر نفس المضمون بتنويعات جديدة في مسرحياته(أغنية عذبة قديمة للحبيب-الشعب الجميل-أهل الكهف-سام ملك الفقر). واستطاع سارويان أن يبلور مضمونا إنسانيا عميقا في الحكم بالإعدام على إنسان لم ينل نصيبه من المحاكمة العادلة ولم يتأكد احد من أنه المذنب الحقيقي في مسرحيته(أهلا هيا إلى الخارج)وفيها استطاع أن يصل إلى أغوار إنسانية عميقة قد تعجز عن الوصول إليها المآسي الصاخبة،ويصر على مواكبة الحياة التي يعيشها بكل تفاصيلها الدقيقة. فهو لا يهتم بجزء دون الآخر بل تتساوى عنده جميع عناصر الحياة من حيث الأهمية والأولوية.
ولذلك نجد سارويان يختلف مع الأدباء والمفكرين الذين يختارون مضامينها من الحياة طبقا لاعتبارات الأهمية التي يتصورونها في أذهانهم . فالحياة قد تتبدى على حقيقتها العارية في الأحداث والمواقف التي يظنها البعض من التفاهة والسطحية بحيث يرفضون الالتفات إليها، ويتضح هذا الاتجاه الفكري عند سارويان فى سيرته الذاتية التي كتبها بعنوان(راكب الدراجة في بيفرلى هيلز)ويقول فيها:كان كل يوم جديد بمثابة مغامرة مثيرة،فاليوم في حد ذاته بصرف النظر عن الأحداث التي تقع فيه.هذا اليوم فرصة للاقتراب من منابع الصحة الفكرية والجسدية التي تتساوى مع معاني الخلود التي يتخيلها الإنسان.في هذه اللحظة من الإتحاد مع الحياة تصل الأحاسيس إلى الذروة التي تتنفس فيها مع الكون كله سر الوجود بما يحمله من مادة ونر ونار،ولا يوجد معنى آخر للحياة إلا في تلك اللحظة التي يتحد فيها الإنسان مع الكون.هذا الاتحاد لا يبدو فقط في الأحداث الملحمية ،لكن فى كل لحظة من لحظات اليوم الذي يعيشه الإنسان العادي.
#عطا_درغام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رزق الله حسون الأرمني
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|