|
في الاختلاف الإسلامي المسيحي ومستقبل العالم
محمد الحمّار
الحوار المتمدن-العدد: 4493 - 2014 / 6 / 25 - 19:42
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لماذا ينتقد بعض المجددين الإسلامَ إلى حدّ الحكم على النص؟ منطقيا إنهم ينتقدونه لكي يسهموا في تطوير سلوك المسلمين وحياتهم، ومساعدتهم على مواكبة العصر. أي أنّ المسلمين بالنسبة إليهم حجة على الإسلام وبالتالي إن كانوا هم متخلفين فلأنّ الإسلام متخلف وإذا تبدّلَ الإسلام نحو الأفضل تبدّلَ معتنقوه نحو الأفضل.
إن كان هذا هو موقفهم حقا فالأمر مضحك حقا. و في هاته الحالة كيف يمكن اعتبار هؤلاء مجددين؟ في الواقع إنهم مخطئون في تقديرهم لعلاقة المسلمين بالإسلام ويخلطون بين هذه العلاقة وعلاقة المسيحيين بالمسيحية. كما أنّ من اتبعهم في هذا المنحى مخطئ أيضا. أما عن سبب وقوعهم في الخطأ فهو انبهارهم بثقافة الغرب واستلابهم لها وبالتالي انخراطهم اللامشروط في براديغمات التفكير الأورومسيحي. وإلا فهل من باب الصدفة أنهم عادة ما يكونون إما من المسلمين ذوي الجنسية المزدوجة والمقيمين في الغرب (تونسيون/فرنسيون من أمثال عبد الوهاب المدب ولعفيف لخضر أو من المسيحيين – الذين يضطلعون بمهام في التوجيه التشريعي العربي الإسلامي - على غرار الفلسطيني سامي الذيب)؟
في الحقيقة، نحن المسلمون نؤمن بكمال الإسلام ونؤمن بأنّ الخير والشرّ منبثقان في نهاية المطاف عن الإنسان- مسلما كان أو غير مسلم- لا عن دينه. والدليل على ذلك هو أن التديّن بالإسلام لم ولن يمنعنا من أن نكون متخلفين أو غير مميزين بين الخير والشر، حيث إنّ مبررات التخلف والتقدم لا يمكن أن تكون في داخل الإسلام، لأنّ حتى لو افترضنا جدلا أنّها متضمنة في الإسلام فإنها تتطلب عقلا لتجسيمها. وإن كان هذا العقل خاليا من القدرة على تحويل مبررات الشر إلى أفعال شر ومبررات الخير إلى أفعال خير.
وما من شك في أنّ المسيحيين يشاركوننا هذه الرؤية الإنسانية التي مفادها أنّ العقل هو مصدر الخير والشر. لكن هيهات، لنكن حذرين حيث هنالك خط أحمر يلوح للتوّ، وهو بمثابة خط التماس بيننا وبينهم. إنّ أولى بوادر الاختلاف بيننا وبين المسيحيين هي أنّ تحميلهم مسؤولية الخير و الشر للإنسان ولعقله كانت مسبوقة، كما يعلم القاصي والداني، بتطويع المسيحية للعقل بينما نحن لم نجرؤ على إصلاح العقل ابتغاء تأصيل هذه العقيدة الإنسانية، لا لشيء سوى لأننا نخشى أن نطوّع الإسلام للعقل، ناهيك أن نجرؤ على إصلاح النص الديني الإسلامي. وهذا مما يدل على أنّ عقل المسلمين في دينهم إن جاز التعبير.
فبالرغم من أنّ العقل مسؤول عن الخير والشر عند الطرفين المقارنَين، إلا أنّ الاختلاف بين طرف و آخر يبرز في مستوى تصنيف هذا العقل/الأصل. وهو تصنيف يتم حسب حساسية العقلين الاثنين – المسيحي والإسلامي - تجاه النص الديني الراجع لكلاهما بالنظر. فلئن كان العقل عند المسيحيين متحررا تماما من الإنجيل وذلك جراء الإصلاحات التي طالت الدين عندهم منذ القرن 15 فإنّ العقل عند المسلمين لم يكن أبدا منفصلا عن النص الديني قرآنا وسنة منذ أن أنزل الله القرآن.
للحوصلة نقول إنّ الخير والشر موجودان عند أولئك كما عند هؤلاء. و للاستدراك نضيف أنّ تطويع المسيحية للدين – أو "تطويرها – كان له أثرٌ على تحديد أصل الخير و الشر عند المسيحيين – وهو العقل المسيطر على الدين - وبالتالي لا مناص من أن يبرز اختلاف بين ماهية هذا الأصل بتعريفه المسيحي وماهية أصل الخير والشر بتعريفه الإسلامي الذي هو العقل المتصل بالدين.
بعد هذا لو قمنا بمقارنة بسيطة بين تبعات علاقة المسلمين بدينهم من جهة وتبعات علاقة المسيحيين بدينهم من جهة أخرى – وهي علاقة مختلفة كما شرحنا - فسوف نكتشف أثر تلك العلاقة على السلوك العام والسياسة العامة.
متى صارت علاقة العقل بالإسلام موضع شك ومراجعة؟ صارت هكذا لا بسبب استحالة تلاؤم النص الديني مع العصر ومع العقل لكن بسبب استهداف الإسلام على أنه حمّال لمبررات القصور العقلي عند المسلمين، أي استهداف الإسلام من طرف فئات مثقفة لكنها بالرغم من ثقافتها إلا أنها ابتعدت عن ثقافتها إن جاز التعبير. ونحن اليوم نعيش أثر هذا الاستهداف: عقلٌ مضطربٌ في علاقته بالقرآن والسنة كنتيجة لتدخل نخبٍ تحشر أنوفها في مسائل لا تهمها - بما أنّ معظم هذه النخب خارجة عن دائرة الإسلام - وكنتيجة للانحراف الفكري المنجرّ عن هذا التدخل ولحملات التشكيك التي تشنها هذه النخب على الدين الإسلامي.
مع هذا و بالرغم من اضطراب العقل لدى المسلمين تحت ضغط نخبٍ قلّما تعلم ما ينفع المسلمين نلاحظ أنّ لدى عامة الناس – وهم يشكلون المحرار الأدق لمَدَى قبول أية عملية إصلاح للدين - هذا العقل لا يحاسب النص أبدا، لا عن عدم قدرة هذا الأخير تمكين العقل من الوسائل الضرورية لمواكبة التطور، و لاعن الاضطراب مهما يكن من أمر. وهذا دليل على تقدمية العوام مقارنة بالخواص وعلى السبق الذي حققوه على هؤلاء في مجال الحفاظ على النص الديني.
إنّ هذه معاينة لموقف الجماعة، عند السنة كما عند الشيعة وعند جلّ المذاهب والأطياف الدينية. نستنتج منها أّنّ بالنسبة إلى المسلمين فإنّ أصل التخلف (مع افتراضنا أنه شر) لا يمكن أن يكون الإسلام، عِلما وأن هذا الدين قد أثبت عبر العصور تقدميته وجاهزيته لمواكبة التطور. إذن لماذا نطوره هو عوضا عن تطوير عقول المسلمين؟ أليست محاولات التطوير من داخل النص الديني آيِلة للنسيان؟
إنّ المسألة أكثر تعقيدا بالنسبة للمسيحيين - وهو تعقيد قد تم إسقاطه علينا المسلمين حتى أصبحنا نعاني من تبعاته - . فمن ناحية، يمكن الافتراض أنه حتى بالنسبة إليهم لا يأتي (الخير و) الشر مباشرة من النص الديني المسيحي. لكن لما نعلم من ناحية ثانية أنّ النص الإنجيلي الأصلي مرّ بتحويرات عديدة عبر التاريخ، نفهم أنّ هذا "التطوير" من الداخل كان بمثابة تقديم العقل على نص الإنجيل. وبالتالي نستنتج أنّ "تطوير" النص المسيحي هو ما عبّد الطريق للعقل عند المسيحيين ليصبح مضطلعا بالخير و بالشر لأنه صار متحررا و إلى الأبد من اللاهوت ومن ضوابط النص. لقد تصرّف المسيحيون في النص إلى أن أصبحوا هم النص، هم الدين، هم العقيدة المسيحية. إنّ دين المسيحيين "في عقلهم" بينما "عقل المسلمين في دينهم" كما قدمنا، مما يعلل المعاناة المفروضة على المسلمين سيما وأنهم في وضعية حضارية دونية مقارنة بالمسيحيين.
أما التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا المستوى فهو: هل أن المسيحيين، اليوم وقد مرت زهاء الثمانية قرون على حركات الإصلاح الديني الجذرية التي عرفتها أوروبا المسيحية، أقل مَيلا إلى اقتراف الشر جراء تطويرهم للإنجيل؟ و من ناحية موازية لماذا يلحّ باحثون مثل محمد شحرور أو هؤلاء المذكورين أعلاه وغيرهم على "تطوير" النص الديني للمسلمين – من داخله وبالرغم من أنهم يعيشون خارج دائرته- ؟ ألكي يصبح المسلمون خبراء في اعتناق نزعة يغلب عليها طابع الشر عبر عقل مطوِّعٍ لنصّ "متطوَر" مثلما حصل للمسيحيين؟
لو أخذنا الزمن الراهن معيارا لتقصي الشر الذي يقترفه الغرب المسيحي على الصعيد العالمي - من حروب وصناعة أسلحة الدمار الشامل ومن نهب للثروات الوطنية لبلدان العالم الثالث الغنية ومن تجارة بالأطفال وغيرها من المصائب – ثم لو أردنا الحكم عليها من المنظور الذي طرحناه أنفا، سندرك أن ليست هذه الأفعال البغيضة المتأتية من الحكومات المسيحية اليوم نابعة من المسيحية – ولا من الشعوب المسيحية - وإنما هي نابعة من عقيدة معتنقيها الدنيوية التي مفادها أنّ العقل صار أرقى من كل ديانة (ألم يصرح نيتشه أنّ الربّ مات؟)
بالموازاة مع ذلك، وحين يتعلق الأمر بالأعمال المدانة على غرار التعصب الديني والإرهاب المقترفة من طرف مسلمين، أعتقد أن ليست المشكلة في الإسلام هي الأخرى وإنما في المسلمين، الذين تأخروا في إصلاح العقل بما يوفر شروط المواكَبة السلسة للإسلام وللعصر معا. ولئن كان المسلمون لا يرغبون في أن يكون "دينهم في عقلهم" – على غرار المسيحيين – فهم مقصّرون في كونهم لم يستطيعوا إلى الآن تجسيم الكيفية العصرية التي يكون فيها "العقل في الدين" كما كان دوما في العصر الذهبي للمسلمين .
أما محاولات "المجددين" فهي كما رأينا مطبوعة بعقيدة التغيير المسيحية، بقوة لا تخلو من الصلافة، و بشكل لا رجعي. فما هي إلا دليل على تعنتٍ سافر ناجم عن رغبة في توليد نموذج للمسلمين يكون نظيرا للنموذج المسيحي. وكأنّ هؤلاء الباحثين مقتنعون بأنّ العقلانية المسيحية هي مَثلنا الأعلى فأرادوا محو أثر الاختلاف الذي بيننا وبين المسيحيين. بينما نحن تعلمنا أنّ في الاختلاف رحمة.
بالنهاية تكون نصيحة كل مسلم إلى هؤلاء الباحثين المصادرين لضمائر المسلمين أن يتركوا كل طرف ديني يعتني بدياره في كنف الاحترام. ومَن احترم غيره فقد احترم نفسه، إذ إنّ الاحترام المتبادل والقبول بالآخر المختلف كفيل بتمكين كل من المسيحيين والمسلمين من نحت مستقبل مشترك لعالم أفضل.
#محمد_الحمّار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الرد على طرح سامي ذويب: حتى نتطور مع إتباع ملتنا
-
إعادة تأسيس اليسار التونسي؟
-
اليهود يحجون إلى تونس والتونسيون يدفعون الضريبة
-
لو نعيش يوما واحدا بلا عقلية المؤامرة
-
إذا التقى الانحراف العقائدي مع الانحراف اللغوي!
-
قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة
-
تونس: الميزانية الاشتراكية البديلة في ميزان الشخصية الوطنية
-
أليس من الحتمي أن تكون لتونس روابط ثورجية؟
-
هل الإسلام السياسي مؤهل للتكيف مع العصر؟
-
الإسلام والديمقراطية في مفترق الطرقات
-
النموذج التونسي و التضييق على حرية التعبير والصحافة
-
تونس: الفصل 38 أم الزنزانة رقم 38؟
-
التديّن بالإسلام بين الحقيقة والأوهام
-
ما قيمة نموذج تركي أمام قرآن عربي؟
-
هل يجيب القرآن عن سؤال -لماذا اللغة هامة؟-
-
النمذجة كوسيلة ابستمولوجية لإدارة الأزمة في تونس
-
حتى يكون مهدي تونس منتظرا
-
في انتظار عثور تونس على حكومة
-
مخطط لإنقاذ تونس
-
7 توصياتٍ بشأن الحركة الإسلامية
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|