|
السودان وأزمة دولة ما بعد الإستعمار
عماد الدين أحمد عيدروس
الحوار المتمدن-العدد: 4489 - 2014 / 6 / 21 - 07:42
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
الإستعمار قام بتركيب منتجات الحداثة التي أنتجت في نظام ديمقراطي علماني ومجتمع ليبرالي (منزوعة من سياقها الديمقراطي العلماني الليبرالي) ركبها على قمة النظام الإقطاعي الكان موجود قبل الإستعمار (لماذا ؟ لان المستعمِر إبن الحداثة لا يستطيع أن يحكم ويسيطر إلا عبر أدوات الحداثة)، وذلك بعد إخضاع مراكز السلطة في ذلك النظام الإقطاعي، والذي غالباً ما تنتظم فيه القبائل والعشائر كوحدات إدارية و كوحدات بناء إقتصادية/إجتماعية للنظام. نظام ما قبل الإستعمار يعتمد التفوق العرقي والقداسة الدينية والتفوق الثقافي كطريقة تفكير سائدة ينقسم بها المجتمع لسادة يعتنون بباقي المجتمع (الأتباع) في الظاهر، ويستهلكونهم في تراكم ثرواتهم في الحقيقة. يستخدم الإستعمار طريقة التفكير السائدة عند المستَعمَرين لتقسيمهم لمجموعة يخصها بالرعاية والدعم، ومجموعات يتم قهرها عن طريق السادة. طريقة التفكير السائدة قبل الإستعمار (والمعدلة من قبل الإستعمار) يعاد إنتاجها من قبل أسر الطائفية وشيوخ وأرابيب القبائل في السودان في بداية الإستعمار، ومن بعد بالتحالف مع الشريحة العليا من الطبقات الغنية.إستخدام أدوات الحداثة (والدولة بمؤسساتها هى الأهم فيها) من قبل المستعمِر أدى لتوليد طبقة برجوازية (حضرية، وسطى ..) ضعيفة ومنتقصة المخيلة ومعتمدة على المستعمِر أبان الإستعمار، وعلى الدولة بعد ذهاب المستعمر. لم تنتج هذه الطبقة عن طريق التطور الطبيعي الناتج من الصراع بين القوى الحية في المجتمع السوداني ومراكز السلطة فيه، وإنما ولدت كمنتج ثانوي نتيجة لحوجة المستعمِر لمن يدير له مؤسسات دولته لتهب السودان، ولذا كانت وما زالت هذه الطبقة (الضعيفة القوة والقليلة العدد) خاضعة لمن يحكم، قديماً كان الإستعمار، وبعد الإستقلال لأسر زعامات الطائفية وشيوخ القبائل والأرابيب والشريحة العليا من الطبقة الغنية. طريقة التفكير السائدة والتي تعمل لصالح مراكز السلطة (تموه وتزيف) الصراع بين قيم (الزواج الحرام بين الإقطاعيين والبرجوازية العليا) وبين قيم الحداثة التي تحمل رايتها الطبقة البرجوازية، وتصور كل إنتصار على قيم الديمقراطية والعلمانية واللبرالية كأنه رد على هزيمتنا المؤلمة الجارحة والبليغة في معركة كرري من قبل المستعمِر الغربي. وفي الجهة المعاكسة، عجزت الطبقة البرجوازية (ناتج المستعمر) عن تفكيك الثقافة السودانية وفرز متناقضاتها وقيادة صراع يرتكز على مؤسساتنا الإجتماعية الموروثة وتغيير دورها لمصلحة الحداثة، وإكتفت بوصم كل ما ينتمي للإقطاع، للتيار المتواصل منذ القدم القديم حتى تم قطعه في كرري، إكتفت بوصمه بالتخلف والجهل،وبذا عجزت عن مخاطبة جل السودانيين والسودانيات، وكفت نفسها شر القتال. المزيج المصنوع من قبل المستعمِر، والمزاوجة المستحيلة بين طبقة أنتجت من قبل النظام الإقطاعي السوداني والشريحة العليا من طبقة أنتجت في ظل أدوات الحداثة (الغربية) وتصميمها كمراكز سلطة تتحكم في مجتمعات الحضر (البرجوازية في الغالب) ومجتمعات الهامش (إقطاع في الغالب). هذه التركيبة المصنوعة صبغت كل الطبقات، القديمة والمستحدثة بهذه الهجنة ما بين القديم والحديث، وجعلت كل المجتمع يتأرجح ويهتز ويراوح مكانه وأعاقته عن التطور. وصبغت حتى النخب (المسماة بالمستنيرة)، فتجدهم يزاوجون في قلوبهم ما بين الذكورية وتحرر المرأة، وبين اللبرالية والتربية بالسمع والطاعة، وبين الديمقراطية وقمع منتسبي حزبهم وتشويه صورة من يعارضهم وما بين الإنسانية والعنصرية، في مزيج يدعو للدهشة والإستغراب، ولا يجدون في أنفسهم أدنى حرج، بل وينامون قريري العيون هانئين. طريقة التفكير السائدة والموروثة من الإستعمار هي التي تهدم الدولة، هى التي خربت السكة حديد، مشروع الجزيرة، الخدمة المدنية وهى التي أضعفت الجيش والشرطة، فلم تكلف البرجوازية العليا المتحدة مع زعماء الطائفية وشيوخ القبائل، (وهي التي أنتجت في ظل غياب قيم التنوير) لِمَ تكلف نفسها بصيانة مؤسسات الدولة الحديثة وبإمكانها أن تربح وتنهب وتراكم ثرواتها في ظل دولة الزعماء والشيوخ والأرابيب بما لا يقاس. طريقة التفكير السائدة لا تحتاج للدولة الحديثة ومؤسساتها لتحكم، بل هي ترى في الدولة الحديثة (العدو الذي زرعه الإستعمار الغربي) ، وبما أن الوارثين من الإقطاعيين والبرجوازية العليا ،ورثة الإستعمار، إستمروا في إدارة الدولة الحديثة بنفس نهج الإستعمار، أي كأداة للنهب والقمع والسيطرة، إستقر في العقل الجمعي كراهية الدولة الحديثة وفي نفس الوقت التمثل بقيم وطريقة إدارة مؤسسات الإقطاع سواء في دولنا القديمة من فور وفونج ومهدية وفي قبائلنا، وإعادة إنتاج هذه المؤسسات على الأرض مع نفس الهجنة الإستعمارية التى تم ذكرها في الأعلى، فتتجد أنه حتى المؤسسات الحديثة من أحزاب وشركات ومنظمات عمل عام تدار بطريقة إقطاعية، بمعنى إعادة إنتاج مؤسسات الحداثة شكلياً وإستبدال محتواها الحداثي الديمقراطي اللبرالي بمحتوى إقطاعي أبوي ذكوري عنصري يتغطى بالقداسة الدينية. الحل بإختصار: أن تُخَلِصْ الطبقة البرجوازية وبالأخص مثقفيها (منتجي طريقة التفكير الجديدة) أن تخلص نفسها من هذه الهجنة، وأن تعكف على تراثنا وثقافتنا وقيمنا وأدياننا لتفرزه وتغيره وتطوره لتتوطن فيه قيم الحداثة من ديمقراطية وعلمانية وليبرالية وأن تستل منه قيم الأبوية الذكورية والعنصرية والتلحف بالقداسة الدينية. طبقة برجوازية مسلحة بقيم التنوير خالصة وخالية من لَجَنَة الأبوية والعنصرية والقداسة الدينية وذات طريقة تفكير منسجمة وغير متناقضة ومرتبطة بالثقافة والتراث والأديان السودانية وقادرة على مخاطبة مهمشي القبائل وأتباع الطائفيين، هي الوحيدة القادرة على إقامة دولتنا الديمقراطية العلمانية ومجتمعنا اللبرالي ، هي الوحيدة القادرة على قيادة تحالفات الطبقات المقهورة وهزيمة الإقطاع المتزاوج مع البرجوازية.وإلا فأستعدوا لدول الأقطاع مكان دولتنا السودانية، وللنسخة السودانية من داعش والقاعدة والشباب الصومالي.
#عماد_الدين_أحمد_عيدروس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السودان وأزمة دولة ما بعد الإستعمار
المزيد.....
-
عملية مشتركة.. -سرايا القدس- تعرض مشاهد من قصف مقر قيادة وحد
...
-
عاجل: نيابة أمن الدولة العليا تستدعي حسام بهجت مدير المبادرة
...
-
نصائح مجدي يعقوب لصحة القلب
-
ناجون من حادث غرق قارب سياحي مصري يتهمون السلطات بالتغطية عل
...
-
الطيران الإسرائيلي يستهدف رتلا لإدارة العمليات العسكرية في ا
...
-
الحلم السويدي بات أصعب.. ستوكهولم تفرض شروطا جديدة للحصول عل
...
-
سفير إيران في روسيا: تحالف طهران مع موسكو وبكين يشكل تحديا خ
...
-
الناتو يقرر نشر سفن وطائرات ومسيّرات في بحر البلطيق، ما الهد
...
-
وفاة راكب خلال رحلة على متن طائرة فرنسية والسلطات الأميركية
...
-
قناة إسرائيلية تتحدث عن تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|