صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 4482 - 2014 / 6 / 14 - 16:36
المحور:
الادب والفن
كان ذلك مطلع عام 1978 عندما دخل كريم البيت مبتسماً ليضع أمامي جريدة طريق الشعب مفتوحة على صفحة أدب الشباب مشيراً بالقلم الأحمر على عدة سطور تمثل أبيات مختارة من قصيدة كتبها هو, ثم إستدار على عجل ليستل من مكتبتي الكتاب الذي أوعدته به بعد أول نشرفي الصحف تحظى به أية قصيدة له حتى ولو كانت بائسة .وهذا الكتاب الذي كان كريم يتوسلني للحصول عليه هو (كانت السماء زرقاء ) والذي كان يبحث عنه دون جدوى إذ هومن روائع الكاتب الرائع إسماعيل فهد إسماعيل المولود في البصرة عام 1940 والذي إتخذ من الكويت إقامة دائمية له, الى جانب ولعه بكتّاب آخرين عالميين وعرب.ولقد كان كريم مولعاً أيضاً أشد الولع بقصص هذا الكاتب ويتابع إصداراته عن كثب .أما من ناحية الشعر فقد تعلق به منذ نعومة أظفاره, حفظ على ظهر قلب شعر سعدي يوسف (الأخضر إبن يوسف) والذي أصبح صديقاً لكريم في وقت متأخر الى جانب ما كان يحفظه من شعر للمتنبي وللجواهري وشعر المعلقات وغيرها.طلب مني كريم كتابة كلمة إهداء على هذا الكتاب فكتبت ( أهديك السماء الزرقاء في وقت لم تكن فيه السماء كذلك ). وكنت أشير بذلك الى وضع العراق السيء المتردي وبداية الهجوم الشرس على القوى الوطنية حينذاك. وصادف أن أرسل كريم قصيدة الى صحيفة طريق الشعب بمناسبة يوم الشهيد وهي ذكرى إعدام (فهد) فلم تنشر في حينه لوصولها الى مقر الصحيفة بوقت متأخر ,لكننا تفاجئنا بنشرها في العام الذي تلى وبالذات في ذكرى يوم الشهيد 14 شباط 1979أي قبل إنقطاع صدورطريق الشعب وإغلاق مقرات الحزب الشيوعي بأيام قليلة في الوقت الذي كان فيه كريم يؤدي الخدمة العسكرية بعد تخرجه من الجامعة التكنولوجية ,وهذا يعني أنه وبعد نشره لهذه القصيدة سيحكم بالإعدام لا محالة على وفق القوانين الجائرة التي فرضت على الشعب العراقي حينذاك لأنه يُعد نشاطاً حزبياً غير مسموح به البتة, ويعدم صاحبه إذا حصل ذلك في أثناء تأديته للخدمة العسكرية خاصة. لكن الأمر إنتهى بسلام بعد أن ترك أثراً واضحاً على أعصابي وصحتي وأرعبني لفترة من الزمن .ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي تهددت فيه حياة شاعرنا كريم بل تبعتها أخرى عندما حوكم أمام الجلاد الذي خلا قلبه من أية رحمة (عواد حمد البندر) مع ثلة من رفاقه إذ وزعت الأحكام, فكان الإعدام مصيرالشهيدين حميد الزيدي وإبراهيم خليل, في حين خرج كريم منها بست سنوات نظيفة بعد أن دب اليأس فينا من بقائه حياً ,كانت تهمته حيازة كتب ممنوعة من أمثلتها أعداد من مجلة الثقافة الجديدة مثلاً والتي كانت تُباع في الأسواق .
لقد كانت السنوات الست التي قضاها كريم في سجن (أبوغريب قسم الأحكام الخاصة) قد فعلت فعلتها في تدهور وضعه النفسي والجسدي لما كان يعانيه من تعذيب وإضطهاد وحجز إنفرادي على يد النقيب كريه الذكر (غالب الدوري ) الذي كان يتلذذ بممارسة أنواع الفعاليات السادية في محاولة يائسة لإذلال السجناء ولقد كنت ألحظ روح التحدي والصمود بادية عليهم في كل زيارة أقوم بها للسجن ,لابل أن بعضهم كان يقضي وقتاً يناقش فيه معي أمور السياسة والفكربروح عالية واثقة رغم الحذر الواضح الذي كنت أبديه في أثناء النقاش .
خرج كريم من السجن وهويحمل عقداً نفسية عديدة لعل أبرزها رفضه لكل ملبس بني اللون وهو لون ملابس سجناء أبو غريب, وكل ما يذكره بالقمل والقراد والأمراض الجلدية ,كما كانت رؤية القيمر(القشطة) تسبب له الدوار والتقيؤ إذ يذكره هذا بوجبة الإفطار التي كانت تُقدم للمحكومين بالإعدام فجر يوم التنفيذ.وفور مغادرته السجن كان عليه الإلتحاق بوحدته العسكرية ليمضي وقتاُ طويلاً فيها قبل أن يتم تعيينه مهندساً في أحد معامل الإطارات ليُضطهد من جديد من قبل المدير العام وجلاوزته فإضطر الى ترك المعمل والهروب الى بغداد ومنها الى السويد ليستقر هناك مع عائلته التي تبعته.
يقول ماركس إن الحرية تعني الإبداع ومن هذا المنطلق فقد تفرغ كريم في السويدلأمور الثقافة والشعر والأدب بعد إمتلاك حريته التي تمخض عنها إصدار ديوانه الأول (ساعي بريد الغرقى) ودواوين شعرية أخرى لم تجد طريقها الى النور بعد. ولقد تدارس ديوانه هذا كثير من الشعراء والنقاد والمهتمين بالشعرالحديث,وبشّر بعض منهم بولادة شاعر مثقف في إختياراته وإنتقائه للمواضيع وبلغة مثقفة المفردات وكل ما يلزم لمثل هذا الوصف.
منذ عام ونيف وكريم راهي ينشر على صفحته على الفيسبك قصصاً أطلق على كل منها( حكاية الساعة 00.00) كان ينتظرها المئات من أصدقائه ومحبيه عند منتصف الليل ,وكانت هذه القصص تجلب لقارئيها متعة ما بعدها متعة فإستحق معها منحه الجائزة الأولى للدورة الخامسة لمهرجان المرحوم ناجي جواد الساعاتي,وبذلك فقد توج كريم بطلاً لدورة عام2014 وبجدارة. ولغرض التعريف بهذه الجائزة لا بد لنا من إعطاء فكرة مقتضبة عن مقترِح وواضع هذه الجائزة
ناجي جواد الساعاتي الأسدي البغدادي المولود في بغدادعام 1922,إمتهن بيع وتصليح الساعات في دكانه الصغير الذي يطل على ساحة رأس القرية في شارع الرشيد ببغداد,وهذه المهنة إكتسبها من والده وعمه كاظم ,ولم يلهه العمل فيها من ممارسة هوايته في قراءة كتب الشعر والأدب وغيرها والكتابة والنشر في مجلات وصحف عدة كانت تصدرآنذاك منها مجلة الهاتف لجعفر الخليلي,وصحيفة البلاد لروفائيل بطي والأيام لعبد القادر البراك وغيرها. وخلال ذلك أصدر مجموعة كبيرة من كتب تخصصت في أدب الرحلات إذ كان الساعاتي من هواة (لا بل من مدمني) السفربحكم حاجته وفي كل عام لزيارة سويسرا البلد الذي إشتهر ولحد الآن بصناعة الساعات الراقية, ومتعة السفر هذه شجعته ودفعته الى زيارة الكثير من بلدان العالم بما فيها دول أفريقيا وشبه القارة الهندية. ولم يكن الساعاتي الأديب والكاتب الوحيد في العالم الذي عمل في مجال الساعات وتصليحها بل سبقه كتاب آخرون مثل فولتير الذي كان صاحب مصنع للساعات,وجان جاك روسو الذي عمل في تصليح الساعات. وقد تميزت كتابات الساعاتي بوصف لما كان يصادفه في رحلاته الكثيرة التي سميت بأدب الرحلات. وقبيل وفاته في 18-05-2009 أوصى بإقامة مهرجان سنوي يحمل إسمه تُمنح فيه جائزة لمن يكتب أبرز وأفضل مؤلف في أدب الرحلات ,وكان يروم من ذلك تشجيع الكُتّاب والأدباءعلى المواصلة والإبداع في هذا الإتجاه .وتم وضع شروط المسابقة إذ كان لا بد من أن يكون عدد كلمات المؤلَف لا يقل عن 20000 كلمة ,وأن لايكون قد إشترك في مسابقة أو نُشر سابقاً.
أقيمت الدورة الأولى للمهرجان في الذكرى السنوية لوفاة الساعاتي أي عام 2010 وكانت الجائزة الأولى من نصيب الأديبان توفيق التميمي ومحمد سعدون سباهي مناصفة,وفي الدورة الثانية عام 2011 كانت الجائزة الأولى من حصة الدكتور شاكر لعيبي ,أما جائزة الدورة الثالثة فقد نالها الأديب صادق الطريحي مناصفة مع الشاعر صلاح حسن في عام 2012, وحظيّ الأديب نعيم مهلهل بجائزة الدورة الرابعة مناصفة مع الأديب خضير الزيدي عام 2013.أما بطل الدورة الخامسة لمهرجان ناجي جواد الساعاتي عام 2014 فهوالقاص والشاعر كريم راهي التي إستحقها بجدارة من بين ثمانية أدباء مرشحون لها هم أربعة عراقيين وثلاثة مصريين بينهم أديبة, وسوري واحد.وكتبت اللجنة المشرفة ديباجة في وصف أدب كريم راهي الفائز الأول مايلي:-
تميزت رحلات كريم راهي بتقديم نمط جديد ومدهش من أنماط أدب الرحلات إذ تتداخل الأمكنة مع بعضها على شكل دوائر تتبادل المواضع الزمنية بحسب انثيلات الذاكرة وسطوع اللحظة الحاضرة.فمن مكان يرتبط بذكريات وطفولة ,الى مكان ينتهي عنده العالم في زنزانة لا تتعدى المتر.حتى عذابات الحيرة والقلق والإقلاع على مقعد بحجم الوطن حينما يستبدل وطنه مجبراً بآخرإذ يكون إستبدال الوطن أصعب الخيارات أو أكثرها مرارة .لكن الدهشة ومقاطع الجمال في المكان شكّلا دائرة تستوعب كل شيء.وتجعل من دوائر الأمكنة الماضية تتألق كنجوم مشعة في ليالي الغربة الطويلة.
إنموذج من هذه القصص.
في ذكرى ثماني واحد سيف كريم راهي -السويد
حين ترجلنا من صندوق (عربة المرطبات) المموه ,وقادنا العريف لزنزاناتنا معصوبي الأعين ومغلولين إثنبن إثنين وقد نال منا القمل والقذارة مانال, نزعنا وبأمر منه العصبات من على أعيننا بعد أن حرر أيدينا من الأغلال وصاح أمراً بلهجة عسكرية (عليكم الآن أن تعلموا أن هذا المكان يسمى السجن ,وهو سجن عسكري ,وأن عليكم تنفيذ الأوامر بدقة, فالنظام هو الحاكم هنا !). ثم نادى على أسمائنا بغية توزيعنا في المنابر.كنا أحد عشر ,وكنا نحلم الحلم ذاته في اللحظة إياها,أن نذهب للحمامات فقط ,فقد كنا قرابة شهرين محرومون من نعمة التغوط الطبيعي في زنزانات الشعبة الخامسة لإستخبارات وزارة الدفاع. في الزنزانتة التي دخلتها إستقبلني فيها أربعة .قال أحدهم وكان يحمل وجهاً بدا لون الطين على ملامحه ,وعلى جبينه أثر ندبة.
-لاتخف ! لقد خرج من ذلك القبر الذي أتيتم منه تواً جميع ممن نراهم هنا ,فالأمر يختلف. بإذن الله تعالى سيكون بوسعكم أن تلتقوا ذويكم , ستقابلون مدير السجن صباح غد لكي يبرق عن مكان إحتجازكم.
كنا سنحجز هنا لشهرين آخرين وهي المحكمة بسبب إرتباط قضيتنا بتنظيم سري مسلح في كردستان ,وكانت وشاية من أحد المندسين قد أودت بنا هنا,وإثنين آخرين رُحّلا الى مكان أكثر حلكة من هذا هما حميد وإبراهيم.
نهض الأربعة على صافرة الحرس للتهيؤ للتعداد الصباحي بعد أن رتبوا الخشبات التي ينامون عليها على الأرض كما ينبغي لمعسكر.نظامي .كان أحد الأربعة قد أيقضني فجراً للصلاة ,قلت له إنني لاأصلي .تركني ومضى الى محرابه مغمغماً,بينما لحظت عيناً ترمقني من تحت غطاء في الركن وتحمل معنى إبتسامة. إنتهى التعداد وحانت فسحة الكسل الصباحية .في الساحة إقترب مني صاحب العين الباسمة بعينين إثنتين هذه المره تضحكان,صافحني وقدّم نفسه:- مرحباً أنا أيضاً غفار....هه..لقد صرنا غفارين في الزنزانة.
وأنا كريم ,ماذا تعني إثنين؟ ومن هو غفار؟. -
- الإسم الحركي لغيفارا, ألا تعرف ذلك؟؟! معلمي في الحياة والمدرسة ,حتى إنني وشمت صورته أسفل الرقبة ,أنظر لازالت مضيئة رغم السياط , ثم هناك الكثير من الغفارين هنا ,لا تقلق.
هكذا قدم (ثماني) نفسه لي شريكي في الزنزانة رقم 2 في القاطع الرابع من السجن العسكري رقم 1 قبل ثلاثين عاماً .إحفظوا هذا الإسم جيداً, لقد قُتل من أجل أن يحيا آخرون هم أنتم. كان قد وشي به وهوجم بعد إكتشاف أمر تنظيم سري آخر من قِبَل رجال الأمن في مقهى شعبي بمدينة الثورة ولم يتسنَ له سحب مسدسه للدفاع عن نفسه, فقد كان العسكر أسرع منه إقتادوه حيّاً الى هنا إنتظاراً لمحاكمته.
- وأنا سأضرب (غفورين) بحجر. قال آخر ثم جاء ليقدم نفسه .كان إسمه عبد الرزاق ,لكنه إكتفى بالقول:- رزاق حرج.
قبل الظهيرة كان الجميع قد تعارف ,إنظم إليهم طعمة عبد الواحد,أبو يوسف,أبو شروق,والي سعيد, فاضل ,عدنان,فلاح ,عماد عاشور( أصغرنا) الذي سأراه بعد عشرين عاماً من على شاشة (الحرة) معداً ومقدماً لبرنامج سياسي تحت إسم (عماد الخفاجي). إنظم بعدها للجميع (فالح) كان قد عرفني للتو ,فقد قضيت أربع سنوات في كلية الهندسة معاً,وشهرين إضافيين هنا وكان ما زال يحمل آنذاك لقب (فالح ربعية).
حين قسّم (عواد حمد البندر) حصصاً من الحياة ,منح لثلاثة منا الحرية,ولإثنين آخرين أخرين أخرجا من الباب الخلفي, الموت.وللستة الآخرين بضمنهم أنا ,ست سنوات من الحبس لكل منهم ,أخذ بنا الى الدفن وكان الجو ممطراً في الطريق من (محكمة الثورة الى سجن الأحكام الخاصة) في أبي غريب حين مررنا بكلية الزراعة وكنا مرتاعين جميعاً ,وكنت أتساءل هل كان ثمة أحد من هؤلاء الطلاب الذين توقفت بنا سيارة النقل كي يجتازوا الى الكلية ضاحكين ,مدركاً أن كارثة أخرى كانت قد حلت في العالم قبل قليل ,وأن حميد الزيدي وإبراهيم خليل اللذان شاركاني الأصفاد كانا يرتجفان لأنهما حكما بالإعدام؟.
(ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون) ,لكننا كما يبدو لم نثق ,فبعد خروجنا من المقبرة (يقصد الكا تب السجن) التي خُطت على بابها الآية ,سهرنا وشربنا وضحكنا وتذكرنا من بين تلك الأعوام ما بقي فقط من ذكرياتها الحميدة.
- لم تكن أعواماً مرّة على أية حال ! قال عماد الخفاجي,ودثّرني في غرفة في الطابق العلوي من (برج بابل) , ثم أطفأ النور وغادر لغرفته.حدث ذلك في العام الماضي ببغداد.
كان مرور (أبي وداد) في ممر (قسم الأحكام الخاصة) يمثل رعباً للكثيرين ,فهو يغض النظر عن سحنته القبيحة وأنفه المجدوع,كانت تسبقه رائحة الموت أينما حل.أبو وداد هذا كان هو المنفذ للإعدامات التي تجري في القاطع القريب من سجننا ,وكنا كلما سمعنا عويل سيارات الإسعاف التي تحمل المنفذ بهم تواً الى الطب العدلي خَمّنّا أن أبا وداد قادم ليتسلى برقابنا ,فهو لا يشبع.
- ما أشهاها إليّ من رقبة لكم تمنيت أن أنال من هذا النوع من الرقاب بدلاً من تلك التي يأتون بها عادة,والله لو كان الأمربيدي لتخيرت من هذا القسم ما سيجعلني سعيداً حتى لحظة الموت.
ولم تطل سعادة أبي وداد طويلاً ,فبعد عملية تهريب أحد المحكومين بالإعدام وإستبداله بمجنون آخر جيء به من الشارع مقابل رشوة كبيرة ,إفتضح أمر أبي وداد ,علقه على المشنقة ذاتها رجل آخر كان له أن يبتديء يومه الأول بهذا الجلاد.وكان السهم سيرتد بالضبط كما حدث حينما رأينا (عواد حمد البندر) يَمثُل بعد ربع قرن في القفص نفسه الذي مثُلنا به أمامه ويُحكم بالموت.
كنت لا أدرك السبب الذي من أجله يترك المحكومون وراءهم في الزنزنات أشياء تبدو ليست بذي بال ,أشياء تعرف بعدها أن عليك أنت تركها أيضاً لمن سيأتي بعدك ما تراه سيعينه وقتاً ما على شيء ما. ففي واحدة من الزنزانات التي مررنا بها(سيتذكرها عماد الخفاجي حتماً حال قراءته للحكاية) كان قد ترك أحدهم مسبحة صنعها من العجين ,وأربعة أعواد ثقاب مع قطعة الكارتون الجانبية من علبة الكبريت ,وخط على الجدار سهماً وتحته جملة (القبلة من هنا).ولما كنا عماد وأنا لسنا ممن يحفلون بأمر المسبحة وسهم الدلالة ,فقد تركنا الحجيرة تلك بعد أن نُقلنا الى زنزانات (ق2) المقفلة وكل ما في حوزتنا من أشياء لن نحتاجها .تركنا علبة سكايرومقصاً صغيراً وأبرة للخياطة مع بكرة خيوط وأشياء أخرى مما نرى أن آخرين قد يمرون من هنا وتكون ذات قيمة لديهم.
يوم أعدت الى تلك الحجيرة التي تقع لصيق مكتب النقيب (غالب الدوري) بأمر منه كان عليّ أن أستثمر الوقت الضائع بأي شيء ما تُبنى به الحواس المعطلة ,لم تكن تلك الأشياء نفسها مثلما تركناها ,المسبحة حلت مكانها واحدة أخرى حقيقية,والسهم ذاته ,وبكرة
الخيوط كانت أنحف مما تركناها,والأعواد كانت تنقص واحدة.لكن كانت هناك نصف شمعة وآثار شعر محترق قدَرت أن أحدهم حلق شعرعانته بهذه الطريقة فقد رأيت (علاء الكهربائي) في القاعة (8) من تحقيقات الشعبة الرابعة يفعل الشيء نفسه بعانته الكثيفة تخلصا من القمل الذي عشعش فيها.
أسمع صفارات الإسعاف ,فاليوم أربعاء أنتظر قدوم أبي وداد ليحيّي النقيب غالب ويسرد له مآثرهذا اليوم .كانا يتحدثان في الرواق:-(لم يكن أربعاءاً سيئاً على أية حال ,كانوا خمسة فقط ,ولم يكن أحد منهم يمتلك رقبة مميزة ,إلا أن واحداً منهم ما أن إمتد لسانه وإستطال عنقه حتى ظهر فوق ياقته وشم بصورة ذاك الكلب الأحمر الكوبي جيفارا).
حين خرجت من تلك الحجيرة العفنة لم تكن الأشياء هي ذاتها كما دخلتها قبل ثلاثة أشهر ,كنت قد خلفت من العيدان إثنتين فقط,ومن الشمعة آثار شمع ذائب على الأرضية كنت قد أوقدتها ليلة الأربعاء تلك على الروح التي كانت ما تزال تحوم طرية , روح (ثمان واحد سيف) وتركت كثيراً من الدموع.
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟