كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1268 - 2005 / 7 / 27 - 11:39
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
شاركت الحركة الشيوعية في الدول العربية منذ أول تأسيس لها في مصر في عام 1924, وفيما بعد في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ...الخ, في الحياة الفكرية والسياسية والثقافية العربية ولعبت دوراً كبيراً ومتميزاً في التأثير المباشر على جمهرة واسعة من شبيبة المدن من الطلبة والمثقفين والعمال, إضافة إلى وصولها إلى الريف والتأثير الإيجابي على حركة الفلاحين ونضالها ضد الإقطاع ومن أجل الإصلاح الزراعي. وكانت هناك عدة عوامل لعبت دورها في ولوج الفكر الاشتراكي والشيوعي إلى مصر ومنها أو من غيرها إلى بقية الدول العربية, نشير فيما يلي إلى أبرزها:
1. الاحتكاك بين مصر ولبنان وسورية, بشكل خاص, وبين الدول الأوروبية, وخاصة فرنسا وبريطانيا, وتأثير الفكر الديمقراطي والاشتراكي وأفكار الثورة الفرنسية والحركة الاشتراكية الإصلاحية البريطانية وثورة اكتوبر الاشتراكية فيها على الحركات السياسية في هذه المنطقة.
2. ولعب وجود قوات الاحتلال البريطاني والفرنسي في الدول العربية بعد سقوط الدولة العثمانية دوره في تصعيد النضال الوطني للخلاص من الاحتلال والقواعد العسكرية في المنطقة, كما حرك المثقفين والمتنورين صوب التفتيش عن الفكر الذي يساعدهم على تعزيز النضال وتطويره. وكانت ثورة اكتوبر في عام 1917 قد ساهمت في وصول نجاحات الكادحين من عمال وفلاحين إلى مثقفي وشعوب المنطقة فحرك فيها الأمل بالخلاص من تلك الهيمنة. ويفترض ان نتذكر بأن قادة ثورة اكتوبر هم الذين فضحوا الاتفاقيات السرية التي وقعت بين روسيا وبقية الدول الاستعمارية لتقسيم اسلاب الدولة العثمانية على الدول الاستعمارية باعتبارها مناطق نفوذ لها والتخلي عن الوعود التي منحت لشعوب المنطقة في التحرر والوحدة القومية والوطنية.
3. الاستغلال الذي كانت تتعرض له الغالبية العظمى من شعوب المنطقة وتحالف بريطانيا وفرنسا مع الإقطاعيين والكومبرادور المحلي الجديد من جهة, والأفكار الاشتراكية والشيوعية التي كانت تدعو لا إلى التحرر من الهيمنة الأجنبية فحسب, بل وإلى الخلاص من الاستغلال والقهر الاجتماعي والفقر الذي كان يعم الغالبية العظمى من السكان من جهة أخرى, إضافة إلى دعوتها للسلام والتآخي والصداقة بين الشعوب.
لا شك في أن الأفكار الأولى التي ولجت المنطقة كانت أفكاراً اشتراكية عامة تجند لها بعض خيرة أبناء المنطقة, وخاصة في مصر للترويج لها في الصحافة المصرية التي كانت تصل إلى الدول العربية منذ أوائل القرن العشرين. وما تزال كتابات شبلي شميل وسلامة موسى وغيرهما قد ربّت أجيالاً من المتفتحتين والمتنورين فكرياً وسياسياً وطامحين إلى العدالة الاجتماعية في الدول العربية. إلا أن انتصار ثورة اكتوبر وتأسيس الأممية الثالثة في عام 1919 بقيادة فلاديمير إيليتش ليني, التي انفصلت عن الأممية الاشتراكية الثانية قبل ذاك بعدة سنوات, ووجود دولة سوفيتية بحاجة إلى دعم الحركة العمالية العالمية ومناضلي حركة التحرر الوطني لها وقادرة على توجيه الدعاية والدعاة لهذه القضية وللفكر الماركسي, قد ساهم بدوره في تسريع عملية التحول من جماعات اشتراكية إلى جماعات شيوعية أو نشوء جماعات شيوعية جديدة في بلدان هذه المنطقة تدريجاً وعلى امتداد النصف الأول من القرن الشرين تقريباً. ولكن بجوار ذلك نشأت حركات أخرى ماركسية تبنت فيما بعد أفكاراً تروتسكي التي كانت في تعارض مع أفكار ستالين بشكل خاص, ولكنها تميزت بالتطرف اليساري. ثم برزت فيما بعد المنظمات التي تستند في توجهاتها إلى أفكار ماو تسي توت?.
كان للأحزاب الشيوعية وقوى ماركسية أخرى في منطقة الشرق الأوسط دورها المتميز في المساهمة في بلورة شعارات المرحلة وطرحها للنضال وتعبئة الجماهير الواسعة حولها, ومنها بشكل خاص نشير إلى ما يلي:
1. الخلاص من الهيمنة الأجنبية وتحقيق التحرر وضمان الاستقلال الناجز ورفض التوقيع على الأتفاقيات المخلة بالاستقلال والسيادة الوطنية مع الدول الاستعمارية وإلغاء القائم منها.
2. إقامة الدول الوطنية المستقلة وإطلاق الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للشعب.
3. محاربة الإقطاع وتصفية مواقعه وإنجاز إصلاح زراعي يؤدي إلى توزيع الأراضي على الفلاحين وينمي القطاع والإنتاج الزراعي.
4. الحفاظ على الثروات الوطنية ووضعها في خدمة المجتمع وتنمية الاقتصاد الوطني والتخلص من التبعية والتخلف الاقتصادي ومكافحة والبطالة والفقر والحرمان.
5. ضمان العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية ومحاربة الاستغلال الذي يتعرض له العمال والفلاحين وبقية الكادحين, إضافة إلى محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية والمنسوبية ..الخ.
6. تحرير المرأة من قيودها الاجتماعية والاقتصادية ومساواتها بالرجل وضمان التعليم المجاني ومحاربة الأمية والجهل.
7. العمل من أجل نشر الثقافة الديمقراطية ومن أجل عملية تنوير ديمقراطية في مجالات الدين والحياة الاجتماعية وفي السياسة.
8. ضمان التحالف بين الفئات الاجتماعية التي تمسها أهداف المرحلة, وخاصة البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة, ومنهم الكسبة والحرفيون والمثقفون والطلبة, وكذلك العمال والفلاحين وتشكيل الجبهات الوطنية لتحقيق النجاح في تحقيق تلك المهمات.
ساهمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للغالبية العظمى من شعوب المنطقة وتفاقم نهب خيراتها من قبل الشركات الأجنبية وإصرار الحكومات القائمة على تنفيذ سياساتها غير الديمقراطية والرجعية وغير الموالية لشعوبها عملياً من جهة, والشعارات الوطنية المؤثرة على المثقفين والطلبة والمعذبين في الأرض من جانب الأحزاب والقوى الماركسية وقوى ديمقراطية أخرى من جهة أخرى, وأن اختلفت في أساليبها وأدوات وطرق عملها, نجاحات ملموسة في الوصول إلى الناس والتأثير فيهم, رغم الدعايات الواسعة التي شنت ضد الأحزاب الشيوعية واتهامها زوراً وبهتاناً بالإباحية أو العداء والكراهية للدين, أو الإساءة إلى الدين والمتدينين أو رفضها التقاليد الاجتماعية السليمة. وأصبحت الأحزاب الشيوعية تحتل في بعض الدول العربية موقعاً مهماً وبارزاً في الحركة السياسية, كما كان عليه الحال في العراق وسوريا ولبنان والسودان, إضافة إلى إيران من دول المنطقة. وقد تعرضت الأحزاب الشيوعية إلى الملاحقة والاضطهاد, وكذلك حرمانها من الحصول على إجازة للعمل العلني المشروع وعرض قادتها وأعضائها إلى المحاربة بالرزق وتشويه السمعة والسجن والقتل أو الإعدام, مما دفع بأغلبها إلى العمل السري وتقديم تضحيات كبيرة على امتداد سنوات القرن العشرين. كما تعرضت إلى هجوم شرس من جانب قوى سياسية أخرى غير حكومية أيضاً, وخاصة من جانب القوى القومية اليمينية وقوى حزب البعث العربي الاشتراكي والقوى الناصرية فيما بعد, ومن جانب قوى الإسلام السياسي, وخاصة جماعة الأخوان المسلمين ومن جمهرة من رجال الدين.
إن أبرز مناقب الحركة الشيوعية والقوى الماركسية العديدة الأخرى في الدول العربية تبرز في خمسة أتجاهات, وهي:
1. المشاركة الواعية والمهمة في عملية التنوير الفكري والسياسي في صفوف المجتمع, سواء أكان ذلك في مناهضة الهيمنة الأجنبية, أم في مكافحة الإقطاع, أم في مكافحة الأفكار الرجعية المتخلفة والخرافات في المجتمع, أم في المطالبة بالحقوق والحريات الأساسية, أم بصدد حقوق وحريات المرأة ومساواتها بالرجل, أم في التصدي للفكر والثقافة الصفراء والرجعية المتخلفة والدعوة إلى التآخي بين القوميات المختلفة في البلد الواحد ومنحها حقوقها المشروعة والعادلة, ومنها قضية الشعب الكردي في العراق والقضايا القومية الأخرى.
2. المشاركة في النضالات الوطنية في جميع المحطات الأساسية للحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن العشرين, وأن اختلفت في دورها في تلك النضالات أو في تاثيرها في الأحداث, مع التباين في فترة نشوئها ونموها ومشاركتها من بلد إلى أخر.
3. الدعوة الى التحالف الوطني بين العمال والفلاحين بشكل خاص, وكذلك مع البرجوازية الصغيرة والمتوسطة, على اعتبار أن المرحلة التي تمر بها الحركة الوطنية هي مرحلة تحرر وطني تتطلب إنجاز الاستقلال والسيادة الوطنية وإطلاق الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للشعب والتنمية الاقتصادية والبشرية.
4. وبادرت هذه الأحزاب والقوى إلى نشر فكر التحالفات الوطنية والدعوة إلى إقامة جبهات وطنية أو شعبية سياسية ذات مضامين اجتماعية بين القوى والأحزاب السياسية التي تلتقي في النضال من أجل مهمات مرحلة التحرر الوطني. وقد تحقق ذلك في أكثر من بلد في المنطقة وحقق لشعوبها نجاحات أساسية مهمة.
5. جعلت الدعوة للعدالة الاجتماعية والفكر الاشتراكي أو الشيوعي دعوة مقبولة وغير مرفوضة من المجتمع, حتى بدأت في فترة معينة تتم عملية تبني الفكر الاشتراكي من أحزاب حاكمة تساهم في استغلال شعوبها وتضطهدها من جهة, كما استطاعت أن تكشف أمام أنظار شعوب هذه البلدان بمختلف قومياتهم, وخاصة الفئات الكادحة, عن أشكال الاستغلال التي كانت تتعرض لها شعوب المنطقة, سواء عبر العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية أم عبر الرأسمال الأجنبي ام الاستغلال الرأسمالي عموماً من جهة ثانية.
6. وساهمت في الدعوة إلى التضامن العربي والنضال من أجل الوحدة أو الاتحاد على أسس ديمقراطية تأخذ بنظر الاعتبار إرادة شعوب المنطقة وتحترمها وواقع الدول العربية ومصالح شعوبها والتنوعات التي فيها وظروفها الخاصة. كما شاركت وروجت بشكل ناجح لموضوعة السلام العالمي وضد الحروب وضد أسلحة الدمار الشامل.
إلا أن الحركة الشيوعية والحركات الماركسية الأخرى قد تأثرت منذ تأسيسها لا بالفكر الماركسي فحسب, بل وبالفكر اللينيني أو التروتسكي الروسيين أو فيما بعد بالفكر الماوي الصيني. وكان لهذا الواقع تأثيراته السلبية في بنية تلك الأحزاب وحياتها الداخلية وعلاقاتها ومستوى الحياة الديمقراطية فيها وفي برامجها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى جملة من المسائل المهمة التي تشير إلى الفكر والممارسات التي انتهجتها الأحزاب الشيوعية وأن اختلف بعضها عن البعض الآخر ببعض التفاصيل, ولكنها كانت من حيث الجوهر واحدة, إذ كان معينها الفكري واحد ومدرستها واحدة تقريباً من حيث الجوهر, ومنها:
1. بنيت الأحزاب الشيوعية والأحزاب الماركسية المماثلة على قواعد اللينينية ومن ثم الستالينية, التي كانت ذات نهج مركزي متشدد لا ديمقراطي ونقص شديد في الممارسة الديمقراطية وسرية تامة ناجمة أيضاً عن سياسات الحكومات التي كانت تلاحقها.
2. لقد تضمن الفكر اللينيني والممارسات الستالينية نهجاً شمولياً يحتقر الديمقراطية "البرجوازية" ويدعو للديمقراطية "الشعبية", التي كانت تؤكد على دكتاتنورية البروليتاريا وما يقترن بهذه الدكتاتورية من سياسات إزاء البرجوازية المحلية. كما كان مفهوم الديمقراطية في الممارسة العملية وحيد الجانب, أي لها وليس لغيرها عملياً. إنها من حيث المبدأ لم تكن تعترف بالتعددية الفكرية والسياسية, وإذا ما أجبرت عليها فيفترض أن تكون تحت خيمتها الفكرية والسياسية أو تحت قيادة سلطتها, وهو ما أفرزته التجربة في البلدان الاشتراكية. فكانت الجبهات الوطنية المقامة خاضعة لقيادة الحزب الشيوعي أو العمالي الحاكم وتحت خيمته الفكرية والسياسية.
3. وتضمن النهج اللينيني والستاليني سياسة الفرد القائد, رغم تأكيده المتواصل على دور الشعب والحزب, إلا أن القائد أو سكرتير عام الحزب, يؤله بطريقة مذلة للآخرين, وهي الظاهرة التي أطلق عليها "عبادة أو تقديس الفرد" التي عمت الحركة الشيوعية وتحولت إلى تقديس القائد المعصوم عن الخطأ. وهي قاعدة مأخوذة من الأديان بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء والقديسين المعصومين عن الخطأ!
4. خضوعها, شاءت ذلك أم أبت, لقرارات الأممية الثالثة في فترة وجودها, والتأثير الكبير من جانب الحزب الشيوعي السوفييتي, باعتباره مركز الحركة الشيوعية إلى حين انهيار الدولة السوفييتية, على تلك الأحزاب, وكان المرجع لحل الخلافات في ما بين الأحزاب أو في الحزب الواحد. وكان لهذا تأثيره السلبي المباشر على أبرز الشعارات الأساسية التي تمس الجانب الأممي من سياسات الأحزاب الوطنية واسم هذه الأحزاب أو حتى بعض أوجه سياساتها الداخلية. ويقدم تاريخ الحزب الشيوعي السوري نموذجاً حياً لاستمرار استعانته بالمنظرين وقادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي لمساعدتهم في معالجة مشكلاتهم وحل صراعاتهم الداخلية الفكرية والشخصية.
5. لقد أدى التعصب للنظرية الماركسية-اللينينية في الأحزاب الشيوعية إلى أن تحولت النظرية إلى عقيدة جامدة , إلى دين متزمت, إلى جمود عقائدي, لا يجوز المساس به بأي حال, ومن يتحرك خارجه إما أن يكون محرفاً ومنحرفاً عن النظرية اللينينية أو خائناً لفكر القادة الأربعة (ماركس, انجلز, لينين وستالين) في البدايات, ومن ثم فكر الثلاثة الأوائل, حيث حذف الرابع لدى الكثير من الأحزاب الشيوعية, ولكنه ما يزال لدى البعض الآخر, أو أضيف إلى الثلاثي اسم قائد الحزب المحلي. وقد أدى هذا إلى إهمال المنهج الماركسي واصبحت ثقافة غالبية الشيوعيين الحزبيين وحيدة الجانب وناقصة بكل معنى الكلمة وكانت المناقشات وإيراد الحجج تتم على أساس التناظح بمقولات من مجلدات القادة الكلاسيكيين الثلاثة أو الأربعة.
6. وأدت هذه التوجهات إلى نشوء حالة من القناعة الذاتية والجمعية في الحركة الشيوعية حالة ألـ "أنا" والـ "آخر", إذ أن الشيوعي هو الأفضل والأكثر إخلاصاً والمالك للحقيقة الكاملة التي لا يأتيها الباطل بأي حال. وتسببت هذه الحالة إلى الإساءة للأخرين, كما تورطت الحركة الشيوعية باحتكار الماركسية لها دون غيرها وحرمت من جانبها قيام أحزاب أخرى بنفس الأسم أو الادعاء بتبني الفكر الماركسي الذي تسبب بنزاعات كبيرة على مستويات مختلفة.
7. ولا شك في أن الأحزاب التروتسكية لم تكن مرتبطة بأي حال بالسشياسة السوفييتية, بل كانت مناهضة لها, وكانت لها أمميتها الرابعة أو مرجعيتها الفكرية, ولكنها كانت في الممارسة العملية أكثر تطرفاً في كرح الشعارات والسياسات والممارسات.
8. وأقرت الأحزاب الشيوعية والماركسية وزالتروتسكية سياسة العنف الثوري والانقلابات للوصول إلى السلطة, وهي مرتبطة في واقع الأمر بالسياسات التي مارستها الحكومات في تلك البلدان والتي كانت استبدادية ومناهضة لوجود تلك الأحزاب.
9. وفي الجانب السياسي مارست الأحزاب الشيوعية والعمالية والقوى الماركسية الأخرى سياسات وطنية متقدمة وسليمة بشكل عام. وفي فترات غير قليلة مارست سياسات يسارية متطرفة أو احياناً يمينية, سواء بالقبول بالانقلابات العسكرية وغير العسكرية أم بطرح الشعارات التي لا تنسجم مع طبيعة المرحلة ومهماتها والموقف من التحولات في المجتمع أم بالتحالفات وتاييد حكومات لا يجوز تأييدها. كما أنها ارتضت سياسات معينة نابعة من الرؤية والمصالح السوفييتية على الصعيد الإقليمي والعالمي والتي لم تكن صائبة وغير منسجمة أيضاً مع طبيعة المرحلة ومهماتها. وكانت لهذه التوجهات عواقب غير قليلة
قادت هذه الاتجاهات وغيرها إلى بروز ظاهرة الابتعاد الواضح عن النهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي في تحليل الأحداث والوقائع واستشراف المستقبل, وسيطرت الذاتية والرغبات في رسم صورة الواقع والمستقبل, مما أدى إلى ابتعاد تلك الأحزاب عن واقع الحياة, وخاصة في الدول الاشتراكية حيث كانت تعيش أزمات حادة جداً وكانت تعيش التناقضات الاجتماعية والطبقية الجديدة والفساد العام في كل مرافق الدولة والحزب وترفض الاعتراف بها وتتوقع بناء الشيوعية, وهي كانت ما تزال تحبو في الواقع على أرض الرأسمالية التي كنا لا نريد أن نراها أو نعجز عن رؤيتها بسبب تعصبنا للفكر وللمعسكر الاشتراكي. لقد أصبحت ممارسة المنهج بشكل مشوه أداة بيد القادة السوفييت وغيرهم للوي النظرية والقوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التحولات الاجتماعية والحياة الديمقراطية وإدخالها في قوالب من صنع افكارهم ورغباتهم لا غير. لقد قُلب النهج المادي الديالكتيكي والتاريخي للتحليل والتفسير والتغيير ووضع على رأسه بدلاً من إيقافه على قدميه. وتقدم الأدبيات السوفييتية والكثير من أدبيات الأحزاب الشيوعية في الدول العربية وغيرها أدلة قاطعة على صواب هذا القول. وقد كان للمنظرين والقادة السوفييت التأثير الكبير والملموس على الأحزاب الشيوعية والعمالية في الدول العربية بشكل عام. وتجلى ذلك في طرح شعارات لا تنسجم مع حقائق الوضع في هذه البلدان.
لقد كانت تجري تغييرات عميقة وواسعة في العالم, إلا أن النظر إليها من جانب الشيوعيين لم يكن بعين مفتوحة تماماً وواعية. ولكن القوانين الموضوعية كانت تفعل فعلها بمعزل عن مدى رؤيتنا لها ووعينا بها. حتى عندما بدأت الأمور تتوضح, كان الرفض للجديد شاخصاً لدى الغالبية العظمى من الأحزاب الشيوعية في الدول العربية. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي, سقطت "قلعة الاشتراكية والسلم", كان الزلزال هائلاً والاهتزاز الفكري والسياسي مريعاً, والاستعداد للتغيير والتجديد أو التحديث ضعيفاً. واعتبر العبض أن السقوط ناجم عن مؤامرة دولية ضد الدولة السوفييتية, وليس بسبب الأزمة الداخلية التي عصفت بالنظام السوفييتي وبسبب التشويه الذي لحق بالفكر والمنهج والأزمة الحادة التي واجهت الأحزاب الشيوعية والعمالية والقوى الماركسية. وكان هذا التقدير الخاطئ سبباً في الابتعاد عن الدراسة المعمقة والهادئة للعوامل الكامنة وراء السقوط. ولا شك في أن سقوط الاتحاد السوفييتي وبقية بلدا المعسكر الاشتراكي لم تكن بفعل الخارج, بل بفعل الأزمة والانهيار الداخلي, كما أن العامل الخارجي, رغم أهميته ودوره, قد ساهم في عملية السقوط, ولكن قسطه كان محدوداً وثانوياً بالمقارنة مع العوامل الداخلية, إذ كان بشكل خاص قد لعب دوره في تأجيج سباق التسلح على الصعيد الدولي وبين المعسكرين والميزانية العسكرية الضخمة التي لم تتحملها خزينة الاتحاد السوفييتي ولا إمكانياته الاقتصادية.
ثم بدأت الأحزاب الشيوعية في الدول العربية تدرس واقعها بعد فترة غير قصيرة وتراجع حساباتها واختلفت في ما توصلت إليه وما يفترض أن تغيره فيها. والحصيلة حتى الآن غير عميقة وغير فعالة ومؤثرة سلباً على حركة وفعل هذه الأحزاب ونشاطها وتأثيرها. هذا لا يعني أنها لم تحاول ولم تبذل الجهد, ولكن جهودها ليست فقط غير كافية, بل وغير جريئة في انتقاد الذات وفي التطلع نحو التغيير, رغم أنها أفضل من غيرها من الأحزاب السياسية في الدول العربية في انتقاد الذات, إذ أن القيادات ذاتها لا تريد التخلي عن الفكر الذي مارسته طوال عقود. إن العديد من قيادات الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية يحاول إجراء تغييرات, ولكن تبدو لي أنها ترقيعية وأن الرقعة أصغر بكثير من الشق, كما يقول المثل الشعبي.
يقدم المنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي أداة علمية وعملية كبيرة بيد المناضلين من مختلف القوى التي تتبناه في عملية التحليل والاستنتاج وتحديد المسارات. فالعيب في نشاط العديد من الأحزاب الشيوعية لا يكمن في المنهج الذي تتبناه, بل في سبل استخدامه والذاتية التي تلعب دورها في ذلك أولاً, وفي القناعة الخاطئة بأن ما توصل إليه المنهج من مقولات نظرية قبل عشرات السنين ما تزال صائباً في جُلهِا إن لم يكن كُلها, وهي تتحول وفق هذا المنظور إلى أحزاب أصولية سلفية أيضاً. وينسى البعض الكثير بأن المقولات النظرية, وبالتالي النظرية, متغيرة تماماً وباستمرار ولا يمكنها أن تكون ثابتة لأن الوقائع والواقع والأحداث متغيرة مع التغير في الزمن, وأن النظرية ليست سوى تجريد الواقع القائم في مكان وزمان معينين, وأن الثابت هي القوانين الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية التي يمكن أن يكون لها فعل متباين, وبالتالي فأن الواقع هو الأساس وليس ما توصل إليه المنهج وساعد في صياغة المقولات النظرية في فترات سابقة, بل ما يفترض أن يتوصل إليه الباحثون بواسطة المنهج حالياً وكيفية صياغة المقولات النظرية الجديدة في ضوء الواقع الجديد. إن العيب في واقع الحال لا يكمن في المنهج العلمي عندما يُرتكب خطأ ما, بل بالشخص الشيوعي أو الماركسي, أو بالحزب الشيوعي أو المنظمة الماركسية, أي بمن يستخدم هذا المنهج, إذ معرفة المنهج وحسن استخدامه بالارتباط مع التطورات الجارية في العلم والتقنيات الحديثة يمكن أن تساعد في الوصول إلى أحسن الحلول وأكثرها قرباً من الواقع.
أقرت إغلب الأحزاب الشيوعية, حسب علمي, بضرورة إجراء التغيير في أحزابها, ولكنها اختلفت في ما بينها وفي داخل كل منها ومع الآخرين في السؤال التالي: أين يفترض ان يحصل هذا التغيير؟ وما هي سعته أو شموليته بالنسبة للأحزاب الشيوعية والعمالية القائمة على اسس ماركسية أو لينينية أو تروتسكية أو ماوية أو أحزاباًُ يسارية أخرى تستعين بالنظرية الماركسية؟ وهل يشمل التغيير المطلوب البرامج والأساليب والأدوات والقيادات وطرق النضال والخطاب السياسي والتحالفات والاسم ايضاًأم يقتصر عى جوانب شكلية لا غير؟
يبدو لي بأن التغيير يفترض أن يشمل كل ذلك, أي جميع المجالات الفكرية والسياسية والتنظيمية والبرامج والممارسات العملية والعلاقات مع المجتمع والفئات الاجتماعية المختلفة ومع القوى والأحزاب السياسية وفي داخل تلك الأحزاب وفي العلاقات في ما بين القيادات والقواعد وفي أسس نشاط القيادات وفترات تجديدها. كما أن المنهج يفترض أن يمارس بعقلانية واستيعاب لجوانبه المختلفة ولا يفترض أن لا يستفاد من المناهج الأخرى للمقارنة في التحليل والاستنتاجات.
والتغيير يفترض أن ينطلق من فهم الواقع القائم على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية, وعلى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وموازين القوى الدولية ... الخ.
إن التغييرات الجارية في العالم كبيرة ومن لا يدركها يفوته القطار ويبقى متخلفاً يزحف لاهثاً في مؤخرة الأحداث ويعاقبه التاريخ أقسى عقوبة محتملة. والتغيير لا يعني القبول بما يجري في العالم, بل معرفة ما يجري وكيف يجري وسبل الانسجام والتوافق معه أو مقاومته والعمل على تغييره. التغيير لا يعني التكيف والقبول بالقدر الذي يراد رسمه للمجتمعات البشرية, بل في كيفية تحريك المجتمعات المختلفة لممارسة التغيير ومواجهة ما لا يناسبها بالطريقة المناسبة وفق قوانين التطور الاجتماعي وليس الاصطدام بالصخور التي تحطم الرؤوس.
إن مرحلة جديدة ناشئة في العالم هي مرحلة العولمة, وهي جزء عضوي من عملية التطور في إطار الرأسمالية العالمية وبالتالي فالقوانين الرأسمالية الموضوعية هي الفاعلة فيها بكل أبعادها, إضافة إلى بروز قوانين جديدة فيها يفترض التعرف عليها ووعيها والتعامل الواعي معها. وهذا يعني بالضرورة أنها عولمة رأسمالية استغلالية. ولكن هذا لا يعني أن الشعوب لا تستطيع الاستفادة منها والتعامل الواعي معها ومحاولة تغيير بعض توجهاتها صوب الدفاع عن مصالح الشعوب. وهذه المسألة تمس قضايا أخرى ترتبط بها وتؤثر عليها.
إن العولمة الموضوعية الجارية هي بداية مرحلة جديدة في الرأسمالية على الصعيد العالمي, وهي تحمل نقاط قوتها ومواقع ضعفها أيضاً, كما تواجه ضغطاً متزايداً من سياسات الولايات المتحدة التي تريد لوي قوانين حركتها الموضوعية بما يحقق مصالحها ويخدم هيمنتها على العالم. ولكنها تواجه ضغطاً أخر تمارسه الشعوب والكثير من البلدان يدفع باتجاه الاستفادة القصوى من العولمة وتقليص زخم الضغط الأمريكي لصالح شعوب البلدان النامية والشعوب الأخرى بدلاً من جعلها تسير لصالح الرأسماليين فقط.
كما أن ظاهرة القطبية الواحدة التي انطلقت بقوة بالاقتران مع العولمة وسقوط الاتحاد السوفييتي سوف لن تكون أزلية بل متغيرة, إذ تبدو منذ الآن آفاق هذا التغير في القطبية الواحدة صوب تعدد الأقطاب. ويبدو لي أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تدفع بهذا الاتجاه دفعاً رغم أنها تقصد غير ذلك. ومن المعروف أن القوانين الموضوعية للرأسمالية لا تعمل وفق رؤية هذا الرأسمالي أو ذاك بقدر ما تفعل وفق سيرورتها والعوامل الفاعلة فيها, ومنها قانون التطور المتفاوت والمنافسة ...الخ. ولهذا فسوف لن تبقى الولايات المتحدة كلية القدرة في إطار العولمة ولا يجوز لهذا السبب رفض الاندماج في العولمة والسعي للاستفادة منها لصالح الشعب وتقليص عواقبها السلبية. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ هذا السؤال يفترض أن تجيب عنه كل القوى السياسية في المنطقة, ومنها الأحزاب الشيوعية والعمالية والقوى الماركسية الأخرى. ومن يتابع كتاب ماركس "الرأسمال", سيتمكن من تقدير وتشخيص التحولات المحتملة في هذا الصدد.
أرى بأن هناك نوعاً من التخشب في حركة وفعل ولغة الأحزاب الشيوعية في المرحلة الراهنة, وعليها أن تجد الجديد لتغير واقعها وخطابها السياسي ولغة التعامل مع الآخر وأشكال التنظيم الجديدة وسبل تجديد القيادات لكي لا يبقى القائد قائداً مدى الحياة بحجة عدم وجود من يحل محل هذا القائد أو ذاك, وهي القاعدة التي توصل أو تنتهي إلى ظهور "عبادة الفرد" وهيمنة الفرد على عقول الآخرين وبالتالي تنتهي إلى كارثة بصيغة ما. إن القوى اليسارية, ومنها الأحزاب الماركسية, قادرة على المساهمة الجادة والفعالة في تغيير الأوضاع في بلدانها شريطة أن تغير ذاتها أو تجدد نفسها وأن تتعامل مع الديمقراطية على أسس رصينة.
برلين في 26/7/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟